Reader Mode

إن الهجرة المقدّسة تتبوّأ الآن من زاوية الدعوة أهمّيّةً أكبر مما كانت عليه في السابق، فإن قام أخٌ مؤمنٌ بالهجرة إلى بلدة أخرى فيجب ألا ننظر إليه باستهجان، صحيحٌ أنه لا توجد الآن “مدينة منورة” ولكن ستكون هناك مدن تحاول تقليد “المدينة” وتصطبغ بصبغتها، وبتعبير آخر: لكي نستطيع المثول بين يدي “صاحب المدينة” صلى الله عليه وسلم علينا أن نُنشئ عدة “مدنٍ”مثلها، ولنستطيع القول: “لقد تركنا مدنَنَا خلفَنا يا رسول الله لكي نحضرَ إلى مدينتك”؛ فهناك حاجةٌ إلى الهجرة وإلى بلادٍ للهجرة، لذا لا نستطيع أن نستخفّ بموقف الذين رحلوا إلى أرجاء الأرض وتوزّعوا في أقاليمها ووضعوا عصى الترحال والهجرة على عواتقهم لنشرِ الإسلام؛ ذلك لأنهم لم يفعلوا هذا لسببٍ مادي أو لمصلحة شخصية، بل إنّ هدفَهم هو نشر الإسلام ونيل رضا الله تعالى ليس إلا.

صحيحٌ أنه لا توجد الآن “مدينة منورة” ولكن ستكون هناك مدن تحاول تقليد “المدينة” وتصطبغ بصبغتها. ولكي نستطيع المثول بين يدي “صاحب المدينة” صلى الله عليه وسلم علينا إنشاء عدة “مدنٍ” مثلها.

 

الهجرة.. “إنما الأعمال بالنيات”

إن الذين هاجروا في سبيل دعوة الحق من سائر أنحاء العالم الإسلامي سيُجازَون حسب نياتهم بمقتضى فحوى الحديث الشريف: “إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى”[1]، ونحن ندعو الله تعالى أن يتبوّأ هؤلاء مقاماتهم بجانب المهاجرين الأولين، أي يحشر الله تعالى المهاجرين مع المهاجرين والأنصار مع الأنصار، وعندما يُنادى يوم المحشر: “ليجتمع المهاجرون”فإننا نأمل أن يكون هؤلاء خلف المهاجرين الأولين من الصحابة، فمَن يدري ماذا سيجدون أمامهم؟ أيجدون أمامهم أبا بكر أم عمر بن الخطاب أم عثمان رضي الله عنهم جميعًا؟

أنصتوا إلى هذا الفقير الذي يشعر في كلّ لحظةٍ أن الله تعالى سيحاسبه على ما اقترفت يداه، ويدرك جيدًا أن أحد قدميه قد باتت على شفير القبر، وهذا يعني أن الله تعالى سيحاسبني على ما أقول إن كنت بالغتُ في الأمر أو ذكرتُ شيئًا خلاف الواقع.

قد لا نستطيع تحقيق غايتنا المثالية التي هاجرنا من أجلها، لكن الفوزَ سينال هؤلاء المهاجرين طالما كانت نيّاتهم خالصةً، وما دامت تشغل أذهانهم فكرة: “ليت الله يكتبها لنا، أو على الأقل نهاجر إلى بلدٍ نظلّ فيها بضعة أسابيع نخدم غايتنا المثالية خلالها”، ولنشرح هذا بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ سَأَلَ اللهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ، بَلَّغَهُ اللهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ”[2].

 

قد لا نستطيع تحقيق غايتنا المثالية التي هاجرنا من أجلها، لكن الفوزَ سينال هؤلاء المهاجرين طالما كانت نيّاتهم خالصةً، وما دامت تشغل أذهانهم فكرة: “ليت الله يكتبها لنا.

أجل، إن كان أحدهم يتحرّق شوقًا لخدمة دين الله ودعوته ويخطّط لإيصال دين الله حتى أقصى الأرض ويدعو قائلًا: “لنذهب ولنر ولنشاهد ولنعلِّم ولنرشد ولنمش على طريق الأنبياء إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، وعلى أثر رسولنا صلى الله عليه وسلم مفخرةِ الإنسانية، لنُنْجِز مهمتنا هذه..”مثل هذا الشخص حتى إن توفي في بلده فإننا نأمل أن يكتبه الله تعالى في ديوان المهاجرين. ندعو الله تعالى أن يخصّ الذين ناءَ كاهلُهم بالعمل في خدمة الإسلام والعالم الإسلامي بثواب المهاجرين وثواب الشهداء، إنه نعم المولى ونعم النصير.

————————————————————

المصدر: محمد فتح الله كولن:”الاستقامة في العمل والدعوة”، سلسلة أسئلة العصر المحيّرة (3)، ترجمة: أورخان محمد علي – د. عبد الله محمد عنتر، دار النيل للطباعة والنشر، ط1، 2015، ص: 271-272، بتصرف.

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.

 

[1] صحيح البخاري، بدءُ الوحي، 1؛ صحيح مسلم، الإمارة، 155.

[2] صحيح مسلم، الإمارة، 157؛ سنن أبي داود، الصلاة،26؛ سنن الترمذي، فضائل الجهاد، 19؛ سنن النسائي، الجهاد، 36؛ سنن ابن ماجه، الجهاد، 15.

About The Author

عالِم ومفكِّر تركي ولد سنة 1938، ومَارَسَ الخطابة والتأليف والوعظ طِيلة مراحل حياته، له أَزْيَدُ من 70 كتابا تُرْجِمَتْ إلى 40 لغة من لغات العالم. وقد تَمَيَّزَ منذ شبابه المبكر بقدرته الفائقة على التأثير في مستمعيه، فدعاهم إلى تعليم الأجيال الجديدة من الناشئين والشباب، وَبَذْلِ كلِّ ما يستطيعون في سبيل ذلك.

Related Posts