Reader Mode

لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يجد نصرًا وتأييدًا له من أهل مكة؛ لكن الأنصار فَتَحَوا صدورَهم له، وفتحوا أبواب بلدتهم وبيوتهم أيضاً، واستسلموا له كليًّا عندما طلب منهم البيعة في بيعة العقبة الثانية قائلين: “بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَعَلَى أَثَرَةٍ عَلَينَا، وَعَلَى أَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، وَعَلَى أَنْ نَقُولَ بِالْحَقِّ أَينَمَا كُنَّا، لَا نَخَافُ فِي اللهِ لَومَةَ لَائِمٍ”[1]، وهكذا وجد الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه بين أناسٍ يعرفون قدرَه، ويرونه كشمس الضحى صافيًا مضيئًا، ويُقدّمون له الاحترام المطلوب، كانوا يرونه نبيًّا منذ أول يوم رأوه فيه، ويرون فيه الجِدّية والوقار الخاصة بالنبوة رغم أنهم كانوا لا يعلمون عن طفولته شيئًا.

 وجد الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه بين أناسٍ يعرفون قدرَه، ويرونه كشمس الضحى صافيًا مضيئًا، ويُقدّمون له الاحترام المطلوب. فلقد كان الأنصار يرونه نبيًّا منذ أول يوم رأوه فيه.

 الصحابة.. من الأذى بمكة إلي التكريم بالمدينة:

كان الصحابة الكرام رضي الله عنهم يُهانون في بلدهم مكة، فلم يتيسّر للمكّيين معرفة قيمة سيدنا بلال الحبشي رضي الله عنه إلا بعد فتح مكة، مع أنه هو وكثيرٌ من أصحابه من الرجال من ذوي القلوب والنفوس الطاهرة كانوا يتعرضون في مكة -نتيجة النظرة الاجتماعية الطبقيّة السائدة هناك- إلى صنوف عديدة من الأذى والإهانة، ولكنهم أصبحوا في المدينة جماعةً مكرمةً وعزيزة، حتى إن الأنصار كانوا يتوسّلون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ويطلبون منه أن يكون المهاجرون شركاء لهم في أموالهم ومساكنهم، وهذا جانب آخر من جوانب الهجرة…

هذا علمًا بأن هؤلاء المهاجرين كانوا محطّ اهتمامٍ خاصّ للنبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، إنّ هذا الرسول الكريم الذي قاد الهجرة قد أُعِدَّ وهُيِّئَ للرسالة منذُ نعومةِ أظفاره، فنشأ وترعرع تحت حماية الله تعالى وصَونه ورعايته.

 نحن على نهج الهجرة:

بالنسبة إلينا فإن الهجرةَ مهمّةٌ جدًّا في سبيل الدعوة؛ ذلك لأنّ كلّ واحدٍ منّا له أخطاءٌ حسب مقتضى الطبيعة البشريّة، وقد تُثار في حقّنا بعضُ الأقاويل، لذا كان من الأفضل الهجرة من الأماكن التي كنّا فيها؛ لأنه مهما كانت النيات صافية فمن الضروري ألا تتشوّه صورتنا ولو بأدنى شيء في أذهان المخاطبين؛ حتى يمكن أن نبعث الأمن والطمأنينةَ والثقة في نفوسهم، ولا يتيسر هذا إلا عندما نكون بين مَن لا يعرفون أخطاءنا ونواقصنا السابقة، ونكون عندهم كمَن نـزل من السماء إليهم حسب التعبير الشعبي الدارج، فهذا مهمّ جدًّا من حيث التأثير الذي تُحدثه الخدمة في قلوب الآخرين.

كان الأنصار يتوسّلون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ويطلبون منه أن يكون المهاجرون شركاء لهم في أموالهم ومساكنهم، وهذا جانب آخر من جوانب الهجرة..

ومشيئة الله سبحانه وتعالى بتهجير جميع المرشدين والمجدّدين يُظهر أن الهجرة قانونٌ إلهي، فكأن الله تعالى أجبر جميع المرشدين والمبلغين على الهجرة بمقتضى هذا القانون، فمثلًا يظهر أحدهم في الجبال الشمّ للولايات الشرقية للأناضول[2]، ولكن نسمع صدى صوته يدوي في غربي الأناضول أو في آفاق إسطنبول، وكان الإمام الغزالي كثيرَ السياحة، وكان الإمام الرباني يسيح في طول الهند وعرضها، وعندما ندقق في حياة هؤلاء العظماء الأفذاذ نجد للهجرةِ مساحةً واسعةً في حياتهم.

المصدر: محمد فتح الله كولن:”الاستقامة في العمل والدعوة”، سلسلة أسئلة العصر المحيّرة (3)، ترجمة: أورخان محمد علي – د. عبد الله محمد عنتر، دار النيل للطباعة والنشر، ط1، 2015، ص: 269-271، بتصرف.

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.

 

[1] صحيح البخاري، الأحكام، 43؛ صحيح مسلم، الإمارة، 41 (واللفظ له).

[2] يرمزُ المؤلِّفُ بهذه الإشارةَ إلى بديعِ الزمان سعيد النُّورسي.