إن وظيفة الجهاد تتساوى مع وظيفة الشهادة على وجود الله، ففي المحكمة نستمع لأقوال الشهود حتى نعلم مَن صاحب الحق، ولا جرم أن هذه الشهادة يُعتدّ بها عند صدور الحكم، وهكذا يفعل المجاهدون أمام الملإ الأعلى عندما تنعقد المحكمة للجهلاء المنكرين لوجود الله، يرفعون عقيرتهم بالصياح شاهدين على وجود الله، ﴿شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (آلِ عِمْرَانَ: 3/18).
إن الله يشهد على وجوده، ومن يصلون إلى هذه الحقيقة في ذواتهم يشعرون بها، لدرجة أن الكتب جميعها تعجز عن شرح ما يشعرون به.
والملائكة شهداء على وجود الله، خلقهم الله من ماهية صافية، ومن ثم لم يستطع الشيطان إغواءهم أو تضليلهم، فلم تفسد بنيتهم، فهم كالمرآة عند النظر إليهم تتراءى تجليات الحق سبحانه وتعالى. وأولو العلم شهداء أيضًا على وجود الله، ولو أنكرت الدنيا بأسرها وجود الله لكفت هذه الشهادات الثلاث.
أجل، إننا نستشعر هذه الحقيقة بكل ما فيها من وضوح وعظمة في أفئدتنا، نستشعر بها دون حاجة إلى التنقيب عن دليل آخر، وهذه الشهادة كافية للملإ الأعلى، وإن كان العمي والصم على الأرض لا يسمعون قعقعة الكون ولا يدركون صنعة الله فتكفيهم شهادة أولي العلم على ذلك.
إن شهداء الله سيتَّجِهون إلى أكثر الأصقاع ظلامًا على الأرض والتي تنكر وجود الله، ويصيحون بأعلى أصواتهم: “نحن شهداء الله على الأرض”.
الرسل .. ومهمة الشهادة:
جاء الرسل مشحونين باستعداداتٍ عالية ليُؤدوا مهمّة الشهادة: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا $ لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا﴾ (النِّسَاءِ: 4/165-166).
لقد أشرقَ الأنبياء في كل الأمم كالشموس النيرة، فالعهود تدور كما تدور الأرض تمامًا، ويظهر النبي كالشمسِ في كلّ عهد، ليُنِيرَ العصرَ المظلم الذي جاء فيه، وأخيرًا جاء نبينا صلى الله عليه وسلم فأضاء كلَّ العصور، ولذا خاطبه ربه تعالى في قرآنه قائلًا: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾ (الأَحْزَابِ: 33/45). ولقد تصدرت “أل”العهديّةُ لفظةَ “النبي”في الآية، ليدلّ على أنه نبيّ مشهودٌ بنبوته. ومن كل الجوانب تجد دلائل على نبوّته، شهدت على نبوته الجمادات بتحيّاتها، والنباتات بإيماءاتها، والحيوانات بانحناءاتها.
إنه نبيٌّ معلومٌ ومعروفٌ للجميع، لذا يخاطبه القرآنَ قائلًا: “يا أيها النبي”، ويكفي لأن نعرف أنه نبي معلوم أيضًا أن القلوب الجامدة تذوب أمامَه.
“شاهدًا”يعني إنا أرسلناك شاهدًا على الإنسانية، تبلِّغُهم ديني وتكون لي شاهدًا عليهم، وإن كذّب العالم بأسره وجحد لأعلنتَ أنت عن وجود الله، وبذلك أنت شاهد، وأمتك التي تأتي من بعدك شاهدةٌ أيضًا، هم سيشهدون على جميع الإنسانية، وأنت ستشهد على شهادتهم قائلًا: “هؤلاء أمتي”، فعَنْ أَبِي سَعِيد قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: “يَجِيءُ نُوحٌ وَأُمَّتُهُ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ، فَيَقُولُ لِأُمَّتِهِ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: لَا مَا جَاءَنَا مِنْ نَبِيٍّ، فَيَقُولُ لِنُوحٍ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتُهُ، قال الراوي: قال النبيّ: فَنَشْهَدُ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ، وَهُوَ قَولُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ…﴾ (البَقَرَةِ: 2/143) وَالوَسَطُ العَدْلُ”[1].
روح الجهاد مبثوثة في التبشير بطريق الخير والتحذير من طريق الشر.
إنه إنسان يبشّر الناس في طريق الخير، ويحذرهم من عاقبة السير في طريق الشر، وعلى ذلك فروح الجهاد مكنونة في هذه الحقيقة، وأُرسل الأنبياء لأداء هذه الوظيفة السامية؛ يضيئون العالم وينيرونه، ويشرقون ويغربون كالشمس، وبذلك لن ترى الإنسانيةُ وجه الظلام، ولن يتبقّى فؤاد لم تبلغه الحقيقة ولا بابٌ لم ينفتح على الحقيقة ولا نافذة لم تدخلها الحقيقة، سينفذ الحق والحقيقة إلى كل بيت.
—————–
المصدر: محمد فتح الله كولن:”الاستقامة في العمل والدعوة”، سلسلة أسئلة العصر المحيّرة (3)، ترجمة: أورخان محمد علي – د. عبد الله محمد عنتر، دار النيل للطباعة والنشر، ط1، 2015، ص: 183-186.
ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.
[1] صحيح البخاري، أحاديث الأنبياء، 4.