Reader Mode

إن قضيتنا الكبرى التي تفوق كل القضايا هي إلهاب جمرة “الرغبة في إحياء الآخرين” في أرواحِ أفرادِ الأمة مرة أخرى، وتنقيةُ الأفكار الغريبة المندسة والحائلةِ بين “الأمة” وأهدافِها السامية.. ومِن بعده، تحريكُ طاقتها التي تبدو خامدة، وحثُّها بتحفيز جيد وبأنشطةٍ وفعالياتٍ منضبطة ومنظمةٍ، على السير نحو هدفها التاريخي كرة أخرى. ومن الضروري لمثل هذه الحركة تحديدُ معالمِ المساحات المشتركة التي ستُشَكِّل المحورَ لحركة المجتمع المشتركةِ بكل شرائحه من بدو وحضر، ومثقفين وحرفيين، ومعلمين وطلبة، وخطباء ومستمعين… ونعني بالمساحات أو القواسم المشتركة أمورا مثل السعي لجعل أمتنا عنصرًا مهما في التوازن الدولي… والعزم والإصرار من كل فرد على أداء هذه الرسالة بلا فتور مهما كان ثمن التضحيات… والتركيز على أولوية الفكر، وموازنته مع مشاعر روح الأمة، ومن ثم منعِ حصول الثغرات العقلية والمنطقية والعاطفية أثناء التحرك الجماعي… واحتساب عشق الحقيقة، والتوق للعلم والبحث وسائلَ للارتقاء العَمودي نحو الله تعالى، وتغذية المجتمع بهذه المفاهيم دائمًا.

يقتضي الحال في الواقع أن تكون عقليةُ أمتنا عقليةَ إعمارٍ وإنشاء، وأن ننجو من حالة التخبط التي نعاني فيها من فقر التفكير وغياب الأهداف.

أفعال لا أقوال

ومن هذا المنطلق، نحن نؤمن بأن الأشخاص الذين يتقاسمون هذه الأهداف والغايات السامية سيُحافِظون على حماسهم وحيويتهم، وستُجرَى الفعالياتُ والأنشطة الجماعية بانسجام ووئام، وسيُستفاد من الوقت والإمكانات بأَجدى وسائلِ التحفيز السريعة، وستَبقى أبوابُ التجدد مفتوحة أبدا بفضل السماح للتفكير بالتوسع. ولتحقيق هذا كله، لا حاجة إلى تلقين المسلم فهما جديدًا للإسلام، ولا إلى إعادة تعليم الإسلام للمسلمين؛ وإنما المطلوب العمل على تفهيم المسلم الأهميةَ الحيوية لما يعرفه عن الإسلام فعلاً، وقوةَ تأثيره، وديمومتَه الأبدية. لكن المؤلم حقا أن الأقوال في هذه المسألة مختلفة اختلافًا بينًا إلى درجة تحير العقول… فهوى النفس يتقدمُ العقلَ ويغتصب مقام الألوهية، والعواطف تُصدِر أحكاما من فوقِ عرش المنطق…

احذروا هذين الصنفين

وكما نرى هذا الانحراف لدى نفر من اللادينيين الذين احترفوا الإنكار والإلحاد والذين تعودوا مهاجمة الدين، فكذلك من الممكن أن نراه أيضا عند بعض المتعصبين المحرومين من الحياة القلبية والروحية، الذين يحسبون أنهم فقط متدينون.. هذان الصنفان قد يبدوان مختلفَين فيما بينهما حسب الظاهر، لكنهما كَفَرَسَيْ رِهَانٍ في الإضرار بالدين والأمة والوطن ، فالصنفان كلاهما لا يوقر روح الدين، وكلاهما لا يتسامح في التفكير الحر، وكلاهما منغلق أمام فكرة المشاركة والتقاسم. رأسُ مالِهم الأعزُّ هو الفِرية والزور والتشويه، وأجود فنونهم هو النميمة واللمز على غير المحسوبين منهم… لا يهمهم إلامَ يلجأون، ولا على من يستندون؟ فالمهمُّ أن يبتلعوا ويأكلوا من لا يستسيغون وجوده. والحقيقة أن الفريقَين يبذلان في هذه المسألة جهدا عظيما وحثيثا أظن أنهم لو صرفوه فيما يليق، لَعمَّروا الأرض كلها.

إن قضيتنا الكبرى التي تفوق كل القضايا هي إلهاب جمرة “الرغبة في إحياء الآخرين” في أرواحِ أفرادِ الأمة مرة أخرى، وتنقيةُ الأفكار الغريبة المندسة والحائلةِ بين “الأمة” وأهدافِها السامية..

وبدهي أنه في هذه الأجواء المظلمة الخانقة، وفي ميدان الذين لا يفكرون ولا يبصرون ولا يعلمون، لن توجَد الحياةُ الفكرية والعشق إلى الحقيقة والتحري في سبيل العلم والبحث… وإن وُجدت، فلن تنمو وتتطور… وإن نمت وتطورت، فلن تغادِر عالمَ الأحلام والفانتازيا. وإنّ حالنا المنكسرَ البائس شاهدٌ على ما نقول ليس بلسان واحد بل بألف لسان.

عقلية الإعمار لا الدمار

لكن الحال يقتضي في الواقع أن تكون عقليةُ أمتنا عقليةَ إعمارٍ وإنشاء، وأن ننجو من هذه الحالة التي نتخبط فيها والتي نعاني فيها من فقر التفكير وغياب الأهداف. ونحن اليوم بحاجة ماسة -قبل كل شيء- إلى هدف سام بعيد المرام، هو انبعاثنا برؤيتنا الحضارية وبثقافتنا الذاتية. ولكي ترتقي أمتنا -كصرح سامق- على أركان القيم التاريخية وقواعدها لابد لها أن تزيد من الصبر على الأوجاع والعذاب وتباطُؤِ الزمان الذي قد يوصل الإنسان إلى حد الجنون. إنَّ مراعاة سيرِ تطورِ الأحداث ضمن طبائعها منوطةٌ بسعة المعرفة بهذه الطبيعة. القرآن الكريم يخاطب سيدنا (صلى الله عليه وسلم) فيقول: ﴿لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ﴾(التوبة:42)، فيُسَرِّي عنه (صلى الله عليه وسلم) ويُوبِّخ المتخلفين المتهاوين في الطريق.

إن انحراف بعض المتعصبين المحرومين من الحياة القلبية والروحية، الذين يحسبون أنهم متدينون لا يقل خطورة عن انحراف اللادينيين الذين احترفوا الإنكار والإلحاد والذين تعودوا مهاجمة الدين.

وحسب المنظور الإسلامي، يُعَدُّ المقصود حاصلاً بنوال الهدف البدهي لكل حركة أو انطلاقة، وهو رضا الله تعالى. فسواء بعد ذلك إن تحققت نتيجةُ الخدمات المقدَّمة باسم أمتنا بارتقائها إلى المكان اللائق بها في التوازن الدولي، أو لم تتحقق؛ فإن المؤمن يسعى لنوال رضاه تعالى في كل خدمة إيمانية وكل فعالية دعوية. فبهذه النظرة يتحول غيرها من الأهداف إلى أهداف إضافية واعتبارية ومجردِ وسائلَ تؤدي إلى الهدف الحقيقي.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة ، الطبعة الثانية، ٢٠١2، ص: 46

ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.