لو قام أحدهم بتسجيل صور الكرم والبطولة للمؤمنين الحاليين على غرار ما قام به “الفردوسي” في كتابه “الشاهنامة” – ويعني بالعربيّة “كتاب الملوك”أو “ملحمة الملوك”- المؤلَّف من ستين ألف بيت من الشعر لاحتاج لتسطير ستين مليون بيتاُ ليوفّي هؤلاء المؤمنين حقّهم في الشهامة والكرم. ندعو الله تعالى أن يُبارك في كرمِ وسخاء هؤلاء المؤمنين ويزيدهم أضعافًا مضاعفة.
نحن الآن نعيش ربيعَ هذا الأمر، والزهورُ متفتّحةٌ حوالينا، إنه الموسم الذي تنتظره القلوب المؤمنة، فعلى مؤمني هذا العصر أن يؤدّوا الواجبات الملقاة على عواتقهم في سبيل خدمة وطنهم وأمّتهم.
غرسوا.. فأثمر غرسهم
إنهم كلّما حاموا حول الفكرة -التي بَذَرَتْ بذورَها قبلَ ستة أو سبعة عقود تلكَ الروحُ العظيمةُ والقامةُ الرفيعةُ[1]- كلّما ازداد فرحُها في مكانها، وربما قالت: “لقد جاء هؤلاء الشباب إليّ بهدايا الربيع، وأنا أقابلهم الآن بالكلام الذي سبق وأن وعدتهم به قبل سنوات، فأقول: هنيئًا لكم.[2]”. ولا قِبَلَ لي بتصوير سرعة وتيرة مثل هذه الأنشطة الخيرية التي تحمل مستقبلًا مشرقًا لأمتنا، ومدى القبول والإعجاب الذي ستناله مثل هذه التضحية والكرم والشهامة من قِبَلِ ربِّ العالمين ومن قِبَلِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن قِبَلِ العلماء العظام الذين أناروا لنا الطريق وربّوا أناسًا نورانيين في أحلك عهود الظلام، وقدر الفرح والسرور الذي سيسري في عالم الروحانيين، إنني عاجز عن هذا التصوير وأدعه لكم ولقوة تصوركم.
كيف نستطيع أن نجاهد بأموالنا وأنفسنا؟، وهذا مرتبطٌ قبلَ كلِّ شيءٍ بالإيمان والثقة، ذلك لأن المزارعين إن اطمأنّوا ووثقوا بأن البذور التي يبذرونها في باطن الأرض لن تموت وتتفسّخ هناك؛ بل ستنبُت وستُزهر؛ فإنهم لا يتردّدون أبدًا في دسّ كلّ ما يملكون من البذار في التربة، ثم يبدؤون الانتظار، ولو اطمأنّ أصحاب البساتين بأن الفسائل التي يزرعونها سوف تنمو وتبسُقُ فلن يتردّدوا أبدًا في زراعة جميع الفسائل التي يغرسونها دون إهمال أو ترك فسيلة واحدة، والذين يملكون أجهزة تفريخ البيض سيقومون باستعمال هذا البيض في تلك الأجهزة أو يضعونه تحت الدجاج كيلا يفسد، ولكن إن لم تكن ثقةُ هؤلاء الأشخاص بهذا المستوى، وشكّوا بأن بعضَ البذور ستفسُد وبعضَ البيض لن يُفقِّس، أو ظنّوا بأن ذلك الموسم غيرُ صالحٍ لبَذْرِ البذور، فَمِنَ الطبيعي أنهم لن يبذروا كلّ بذورهم، بل يُبقون مقدارًا منها في أيديهم، وسيقومون بكنـز أموالهم ليبقى قسمٌ منها لأحفادهم، لذا لن يتصرّفوا بسخاء وكرمٍ، ولن يشعروا بمثل هذا الشعور في وجدانهم.
كلّما جاش وبذل خدام الإسلام بما يملكون وكلما زادت شهامتهم وتضحياتهم في هذا السبيل اقتربوا من الهدف المنشود بسرعة أكبر وبصورة أفضل.
التضحية علي قدر ثقتكم بالله
أن التضحية في سبيل الله مرتبطةٌ بمقدار ثقتنا بالله تعالى وإيماننا به، فلو آمنّا بأنه موجودٌ مثل إيماننا بوجودنا، ولو آمنا بأن أيّ شيءٍ نعمله في سبيله سيرجع إلينا أضعافًا مضاعفة، وأنه سينمو ويزهر ويثمر في العالم الآخر مصداقًا لمقولة “الدنيا مزرعة الآخرة”… لو آمنا بأن الدنيا مزرعة الآخرة وبستانها وحديقتها لما قصّرنا ألبتة في التضحية والبذل.
فما نقدّمه من عملٍ وتضحيةٍ وكرمٍ وبذلٍ مرتبطٌ بمدى إيماننا وبقوة هذا الإيمان، وما بذله المسلمون حتى الآن من سخاءٍ يزيد من أَمَلِنَا في أنهم يستطيعون إنجاز أعمال أكبر. وهناك بشارات من الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم حول المستقبل، فلنسْعَ جميعًا لأن نكون مظهرًا لهذه البشارات حتى يتحدث أهل السماء والملائكة ويقولوا: “يا رسول الله! أهؤلاء هم الذين عنيتَهم؟”. أجل، فكلّما جاش وبذل وسعى خدام الإسلام بما يملكون وكلما زادت شهامتهم وتضحياتهم في هذا السبيل اقتربوا من الهدف المنشود بسرعة أكبر وبصورة أفضل.
—————————
المصدر: محمد فتح الله كولن:”الاستقامة في العمل والدعوة”، سلسلة أسئلة العصر المحيّرة (3)، ترجمة: أورخان محمد علي – د. عبد الله محمد عنتر، دار النيل للطباعة والنشر، ط1، 2015، ص: 140-142.
ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.
[1] يقصد بهذه الروح العظيمة الأستاذ النُّورْسي.
[2] بديع الزمان سعيد النُّورسي: سيرة ذاتية، 114.