إن مفهوم النبوّة كان مستقرًّا في أذهان الناس من لدن آدم عليه السلام إلى خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، ومنه إلى يوم القيامة، فما صدرت بعض أطياف هذا المفهوم إلا عن النور الذي جاء به الأنبياء عليهم السلام قديمًا. وإن روح الجهاد وفكرته التي تعلن عن نفسها صراحةً أو ضمنًا في أفئدتنا اليوم ما هي إلا أثرٌ لنسمات النبوة؛ لأن كل الأنبياء على التوالي قد كرّسوا حياتهم لنشر الحقّ والحقيقة، فأصبحوا أكمل ممثلين للجهاد؛ أصغرِهِ وأكبرِه.
الجهاد الأصغر
ليس هو شكل الجهاد الذي يُؤدَّى في جبهة القتال فحسب، فهذا الفهم يُقلّص أُفق الجهاد، حيث إن مَيدان الجهاد واسعٌ جدًّا، وعلى سعته وشموله قد يكون كلمةً واحدةً أو سكوتًا وصمتًا أو تبسّمًا وطلاقةَ وجهٍ أو امتعاضًا ونفورًا أو تركًا لمجلسٍ أو مشاركةً فيه… وباختصار هو القيام بأيِّ عملٍ من الأعمال لوجه الله، وتقويم الحبّ والبغض في الله في هذا السبيل… ومن هنا فإن كل جهدٍ يُبْذَلُ لإصلاح المجتمع في أيِّ ميدان ولأي شريحة من شرائح المجتمع، كل ذلك هو من مضمون الجهاد الإسلامي، بمعنى أن ساحة الجهاد الأصغر تمتدّ من العائلة والأقارب القريبين والبعيدين والجار ذي الجنب والصاحب بالجنب، حتى تشمل الدنيا كلّها، والجهاد الأصغر بهذا المعنى هو جهادٌ مادّيّ، أما الجهادُ المعنويّ فهو الجهاد الأكبر، ويعني جهاد النفس والعالم الداخلي للإنسان، فمتى ما أوفى الإنسان بهذين الجهادين فقد تحقّق التوازن، وإلا اختلت الموازنة الموجودة في روح الجهاد وحقيقته.
الجهاد الأصغر ليس هو شكل الجهاد الذي يُؤدَّى في جبهة القتال فحسب، فهذا الفهم يُقلّص أُفق الجهاد، حيث إن مَيدانه واسعٌ جدًّا.
جهاد الدعوة
لقد تلقّينا مفهومَ الجهاد بنوعيه الأصغر والأكبر عن الرسول صلي الله عليه وسلم كما تلقينا عنه كل شيء. لقد حمل عليه الصلاة والسلام على عاتقه وظيفةَ نشرِ الحقِّ والحقيقة، فقام بها بشكلٍ منظّم وأرساها على مبادئ سليمة فيها من المرونة ما يكفل ديمومتها حتى يوم القيامة.
لقد كان النبي الأكرم رجلَ خطّةٍ وبرنامج، ربما لم يكن يكتب أو يخطّط أو يرسم رسمًا بيانيًّا لما يفعله بالصورة التي يفهمها الإنسان اليوم، ولكنه كان كمن يسير على نظام ومنهج قد أعده مسبقًا، وهذا من دلائل نبوّته وصِدْقِ تخلُّقِه بأخلاق الله سبحانه وتعالى. وكان في العهد الأوّل من دعوته يصلّي، دوماً، في الكعبة، لا لفضل الصلاة في الكعبة فحسب، بل ربما لغايات كان ينشدها من وراء هذا الفعل، وربما كان هذا السبيلَ الوحيد في ذلك اليوم وتلك الحقبة الزمنية لشرح الحق والحقيقة بصورتها النقيّة.
كان لا بدّ أن يتكلم مع الشباب، غير أنه كان من قبيل المستحيل الذهاب إليهم والتحدّث معهم في أمور دعوته؛ لأنهم كانت لهم تصرُّفات مفرطةٌ ناتجةٌ عن أَنَفَةِ الشباب، ولذا كان يذهب إلى الكعبة ويريهم بالفعل صلته بربه حالًا لا قالًا؛ ممّا كان يخلق عندهم فضولاَ، فكانوا يأتون إليه ويسألونه، وعند ذلك كان عليه الصلاة والسلام ينتهز الفرصة للحديث معهم عن الدعوة.
في جهاد دعوته.. تعرض النبي صلى الله عليه وسلم للكثير من الاعتداءات شتّى وهو يصلي لربه في الكعبة لكنه تحملها إنفاذا لإيصال دعوته.
وقد تعرض النبي صلى الله عليه وسلم لاعتداءات شتّى وهو يصلي لربه في الكعبة، بيد أنه لو صلى في بيته ما تعرّض لمثل هذه الاعتداءات، وهذا يعني أن هناك مغزًى ما من وراء صلاته في الكعبة رغم كلّ المعاناة التي كان يلاقيها، فكم وكم أوذِيَ وأُلقي عليه سلا جزور! وكم مرّةٍ تعرّض للإيذاء والاعتداءِ من قِبَلِ المشركين الذين كانوا يستهدفون قتله.
—————————–
المصدر: محمد فتح الله كولن، الاستقامة في العمل والدعوة، سلسلة أسئلة العصر المحيّرة (3)، ترجمة: أورخان محمد علي – د. عبد الله محمد عنتر، دار النيل للطباعة والنشر، ط1، 2015، ص: 186-189.
ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.