إن الإنسان لا يخطو الخطوة الأولى على طريق التخلّصِ من عثراته وتقصيره إلا إذا أحسَّ وشعر بها، أما إن رأى نفسَه كاملًا، وكلّ ما يعمله من أجل الإسلام كاملًا؛ فاعلموا أنه يغرق بشكلٍ تدريجيّ. انظروا لعمر رضي الله عنه وهو من المبشّرين بالجنة. ولكن هذا الرجل العظيم لم يكن مع هذا مطمئنًّا تمام الاطمئنان، مع أنه شرفَ بقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: “لَو كَانَ نَبِيٌّ بَعْدِي لَكَانَ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ”[1]، ورغم ذلك كان يُناشِدُ حذيفةَ اللهَ مستفهمًا عن نفسه هل هو منهم؟! فعن زيدِ بن وهبٍ رضي الله عنه قال: مَاتَ رَجُلٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيهِ حُذَيفَةُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَمِنَ الْقَوْمِ هُوَ؟ قَالَ: نَعَم، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: بِالله، مِنْهُمْ أَنَا؟ قَالَ: لَا، وَلَنْ أُخْبِرَ بِهِ أَحَدًا بَعْدَكَ[2].
كان الصحابة يرتجفون خوفًا من النفاق أو أن يكونوا مسجّلين في قائمة المنافقين، وهذا الخوف والقلق علامةٌ أخرى على المدى الرفيع الذي بلغه إيمانهم.
خشية أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها
أما أمّنا عائشة رضي الله عنها فدخلت بيتَ النبوة وهي في زهرة عمرها، وما حلّ الذنب ضيفًا على روحها مطلقًا. ولقد كانت تشاهد الحقّ سبحانه دائمًا في مرآته المحمّدية، فَتَطّوّفَ بخيالها في التلال الأخرويّة؛ فتستريح عينُها ويطمئنّ قلبها. كان الوحي يتنزّل على بيتها زخًّا زخًّا، ولم تكن السحائب المحمّلة بالإلهامات تنقطع عن بيتها قطّ. أما عبادتها وحساسيّتها فيها فهو من الوضوحِ بمكانٍ، فلم تتخلَّفْ عن صلاةٍ واحدةٍ أو صوم يومٍ واحدٍ خارج الأوقات التي تُعذر فيها المرأة، كما أنها حازت مرتبةَ أحبِّ الناس إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فعن عمرِو بن العاصِ رضي الله عنه أنه سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيكَ؟ قَالَ: “عَائِشَةُ”قال: مِنَ الرِّجَالِ؟ قَالَ: “أَبُوهَا”[3].
الصيام والقيامَ والعاطفةَ الجيّاشة والدموعَ هي الأسسُ التي تقوم عليها الحياة المعنوية والروحية.
والآن ضعوا كلّ ما قلناه وما يمكن أن يُقال نُصبَ أعيُنِكم لتفهموا مدى عظمتِها ثم انظروا إليها وهي تجهش بالبكاء فيسألها الرسول صلى الله عليه وسلم عن سبب بكائها كما روى الحسن عنها رضي الله عنها أَنَّهَا ذَكَرَتِ النَّارَ فَبَكَتْ، فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: “مَا يُبْكِيكِ؟”قَالَتْ: ذَكَرْتُ النَّارَ فَبَكَيتُ، فَهَلْ تَذْكُرُونَ أَهْلِيكُمْ يَومَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: “أَمَّا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ فَلَا يَذْكُرُ أَحَدٌ أَحَدًا: عِنْدَ الْمِيزَانِ حَتَّى يَعْلَمَ أَيَخِفُّ مِيزَانُهُ أَو يَثْقُلُ، وَعِنْدَ الْكِتَابِ حِينَ يُقَالُ ﴿هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ﴾ (سُورَةُ الْحَآقَّةِ: 69/19) حَتَّى يَعْلَمَ أَيْنَ يَقَعُ كِتَابُهُ أَفِي يَمِينِهِ أَمْ فِي شِمَالِهِ أَمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ، وَعِنْدَ الصِّرَاطِ إِذَا وُضِعَ بَينَ ظَهْرَي جَهَنَّمَ”[4].
وهكذا فإن أمّنا عائشة رضي الله عنها -التي نأمل أن تشفع لنا- تبدي كلّ هذه الخشية خوفًا من الوقوع في النفاق، وكلّ مَن يعترف بأخطائه وبقصوره يستحقّ التهنئة؛ لأنه من الواضح أنه خطا الخطوةَ الأولى والمهمة على طريق إنقاذِ نفسِهِ وتخليصِها من عيوبِها.
إن رأى نفسَه كاملًا، وكلّ ما يعمله من أجل الإسلام كاملًا؛ فاعلموا أنه يغرق بشكلٍ تدريجيّ.
الامتثال لأوامره تعالي
إن مَن يُهمِلُ رُكنًا من الأركان كمَن يؤدّي صلاةً ينسى فيها ركنًا من أركانها؛ لذا فلا يكون على تواصلٍ مع رحمة الله تعالى، فإن أردنا أن نضبطَ أنفسنا على استقبال موجات التردّد من دائرة الرحمة الإلهيّة؛ فلنُطبِّقْ جميعَ أوامر الله سواء أكانت متعلقة بالحياة الفردية أو العائلية أو الاجتماعية، دون تهاونٍ أو تقصير. وعلى كلّ مكلّف أن يؤدِّيَ ما عليه في إطار الأسباب دون تقصيرٍ وأن يهيِّئ لكلّ قفلٍ مفتاحَهُ المناسب.
—————–
[1] سنن الترمذي، المناقب، 51.
[2] مصنّف ابن أبي شيبة، 7/481.
[3] صحيح البخاري، المغازي،64.
[4] سنن أبي داود، السنة، 28.
المصدر: محمد فتح الله كولن، الاستقامة في العمل والدعوة، سلسلة أسئلة العصر المحيّرة (3)، ترجمة: أورخان محمد علي – د. عبد الله محمد عنتر، دار النيل للطباعة والنشر، ط1، 2015، صـ150-152.
ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.