إن التأثير المتبادل ما بين الثقافات حقيقة لا مراء فيها. لكن نقل الثقافة من مكان إلى آخر مع المحافظة على أصالتها غير ممكن؛ فالثقافة ليست لباسًا يُنـزع عن بدن ويُلقى على بدن آخر. وكما تحافِظ الكائنات الحية على أصالتها باعتبار خصوصياتها البيولوجية، كذلك الثقافة إنما تحافظ على نفسها وتصير بُعدا حيويا للمجتمع الذي وُلدت وترعرعت فيه إذا صارت كالهواء الذي يتنفسونه والماء الذي يرتشفونه، حتى تصيرَ عمقًا حيويا لذلك المجتمع، فتُحمَى وتُصانَ.
إن الثقافة ليست بضاعة تشترى من الباعة المتجولين فتؤخذُ إلى البيت كلوحة أو صورة أو أسطوانة أو شريط، لكنها ملتقى كل العناصر الزمانية والمكانية للمحيط الذي نشأت وترعرعت فيه.
جاهزية البيئة لتقبل الثقافة
إن الثقافة تموت إذا ما نقلت من مكان إلى آخر ما لم تتجهز البيئة الجديدة بما يصلح لوجودها ونمائها، أو – في الأقل- تفقد خصوصياتها الذاتية، فتتهجن ويُعدم معناها وتنقلب إلى حقل ثقافي آخر. وكما يَعجز الآخرون عن التمثيل التام لصوتنا ونغمنا وخطنا ورسمنا ونمطنا وأسلوبنا بأصالته الذاتية، كذلك يتعذر علينا التمثل العيني لخصوصيات ثقافة الآخرين. ومع ثراء الألوان في ثقافتنا، فإن الآخرين لن يستفيدوا منها معاني كالتي نفهمها نحن، ولن تهيج فيهم المشاعر كما تهيج فينا نحن، ولئن أحدثتْ فيهم تأثيرًا معيَّنا فلن تُحْدثه فيهم بطبيعتها وفطريتها الذاتية.
كلما توطدت فلسفة الحياة وتبناها كل أفراد المجتمع، تكون سلوكياتهم وأنماطُ حياتِهم باقيةً وواعدة للمستقبل.
الثقافة بضاعة أم فلسفة حياة ؟
والعكس صحيح إذا أخذنا ثقافة الأمم الأخرى قبل استيعابها وهضمها. ذلك لأن الثقافة ليست بضاعة تشترى من الباعة المتجولين فتؤخذُ إلى البيت كلوحة أو صورة أو أسطوانة أو شريط؛ إنها من حيث كونها ملتقى كل العناصر الزمانية والمكانية للمحيط الذي نشأت وترعرعت فيه “كلٌّ” لا يتجزأ وخاصةٌ ببيئتها التي تربت هي فيها، ولابد من تناولها مع كل العناصر التي تقف وراءها حتى يمكن وضع كل الوحدات التي تُكوِّنها وتُغذِّيها في إطار يربط فيما بينها… وأول ما يخطر بالبال أثناء نظرتنا هذه أنها صيغةُ حياةٍ معينة ذات نمط خاص لأمة معينة ومنظومةُ سلوكياتٍ خاصة فريدة من نوعها لأفراد تلك الأمة. ولا شبهة في أن أول ما يلفت النظر في هذا التحليل هو التأثير والتأثر بين فلسفة الحياة لأي مجتمع ونمط سلوكيته. وكلما توطدت فلسفة الحياة وتبناها كل أفراد المجتمع، تكون سلوكياتهم وأنماطُ حياتِهم باقيةً وواعدة للمستقبل. وكما في الأحياء البيولوجية؛ “الكلُّ” -أي الجسم بمجموعه- يعيِّن حركاتِ الخلايا في خط معين، وتقوم الخلايا المتوجهة باتجاه معيَّن بوظيفةِ عواملَ تنقل الهيأة العمومية “للكل” إلى المستقبل.
إن الثقافة تموت إذا ما نقلت من مكان إلى آخر ما لم تتجهز البيئة الجديدة بما يصلح لوجودها ونمائها، أو – على الأقل- تتهجن وتفقد خصوصياتها الذاتية.
منظومة الحركات هذه، التي تجري وكأنها في إطار المسؤوليات المتبادلة، توجِد -من جهةٍ- تنظيمًا من التدرج الوظيفي عندما يتعلق الموضوع بالموجودات الإرادية، ومن جهة أخرى، تفجِّر سيلاً من التمحيص والاختبار من قِبَل العقل السليم والمشاهدة الصحيحة والتشخيص بالحس الوجداني.
إن هذه هي الطريقة المثلى لتوحُّد المجتمع وتَطابُقه مع فلسفة حياته وأسلوبه الذاتي وطبيعته التاريخية، حتى يصبح مجتمعا مستقرا بماضيه وحاضره ومنفتحا على العقل والفكر والوحي.. وإلا فإن الأمور الفلكلورية التي لم يكتمل سياقُ تطورها، والتي تم نسجها من العادات والتقاليد واللهويات وما يُشبِع الغرائزَ والأذواق.. حتى المؤلَّهة منها.. ما هي إلا نماذجُ خادعةٌ من العدْم والعوز الثقافي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: فتح الله كولن، ونحن نبني حضارتنا، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة ، طـ2، ٢٠١2، صـ29.
ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر .