إن عقيدة التوحيد التي هي من القواعد الأساسية في القرآن الكريم عقيدة موافِقة للعقل، فهو “معقول”؛ وإن رَبْط الوجودِ بالأسباب والطبيعة وأشياءَ أخرى مناقضٌ للعقل، فهو “غير معقول”. ويتضح المعقول أكثر فأكثر بذكر اللامعقول حسب ما تقرر من أن “الأشياء تُعرف بأضدادها”.
إذن، الضرورة تحكم -في حال التخلي عن ربط كل الأمور بالتوحيد الحقيقي- بالحاجة إلى مؤثِّرين كثيرين يمتلكون قوة الإله في الخلق والإنشاء والإماتة والإحياء والإبصار والقيومية… فتصورٌ كهذا، يقود إلى تقبُّلِ محالات متسلسلة كثيرة لا تعد ولا تحصى، وهو تَناقض صريح مع العقل.
يتحول مفهوم “المعقول” و”غير المعقول” (الذي يلجأ إليه الكلاميون بعناوين متعددة) عند بديع الزمان النورسي إلى صوتٍ قرآنيٍّ ونَفَسٍ توحيدي خاص. فالمتتبع للقضايا الإيمانية في رسائله سيتعرف على المعاني التي أضفاها القرآن الكريم على هذين المفهومين (“المعقول” و”غير المعقول”). والقرآن الكريم في آيات كثيرة مثل: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا﴾(الأنبياء:22). يدعونا دائما إلى المحاكمة العقلية والمنطقية في هذا الموضوع، ويفتح أمام المنطق آفاقًا جديدة.
المعقول واحد أبدًا.. فكلَّما حصل انحراف عنه، حصل السقوط في الكثرة غير المعقولة بلا انتباه ولا وعي…
إن القرآن، يحيل كل المسائل التي يتناولها -ما عدا أوامره التعبدية المتعالية- إلى العقل والمنطق والمحاكمة، ولا يَترك في توجيهاته ونداءاته ثغراتٍ عقلية أو قلبية أو روحية البتة. بل لم يزل معبرا عن الفكر السليم والمحاكمة العقلية المنهجية والمنطق المنضبط ضد الأحكام والمزاعم المختلفة التي يَبْنِيها خصومه الكثيرون على “غير المعقول”… فأفحمهم، هم وكلَّ أنواع مغالطاتهم وجدليتِهم، وحَسَم الأمرَ بظهوره وغلبته عليهم. وهو ما نعتبره، في الوقت عينه، ظهورا وغلبة لرسُل الحق تعالى وللعقل السليم عليهم.
دورة التاريخ بين الفتور والتنوير
وإن دورة التاريخ الدائمة هو التناوب بين مراحل الفتور إزاء الوحي وإهمال “العقلي”، ومراحلِ ظهور التنور السماوي والنشاط العقلي. فمتى ما استضاءت القلوب وتنورت العقول بالأنوار التي ينشرها الأنبياء، وانكفأت الجسمانية والمادية في زاويتيهما، واستقرت الفيزيائية والميتافيزيقية في مكانهما الصحيح، وتَقدم “العقل السماوي” (بتعبير مولانا جلال الدين الرومي) و”عقلُ المعاد” (بتعبير الإمام الغزالي) على “عقل المعاش” و”العقل الترابي”، فقد تحقق -حينذٍ- تزاوُجٌ جديدٌ يين القلب والعقل وميلادٌ جديد. هذا الميلاد هو ميلادُ ربطِ الوجود بمالكه الحقيقي حسب وعيِ العصر وإدراكه مرة أخرى، بتفسير الوجود من جديد، وميلادُ خلاصِ الإنسان من التناقضات الداخلية… ومتى ما عميت الأبصار عن أنوار السماوات وأُهمل العقل وأُبعد التفكير ونُسي “المعقول” بالكلية (بمعناه الخاص)، فقد ارتفعت راياتُ “غير المعقول” في كل المجالات، وانكب حشود البشر على وجوههم في التناقضات، فجعلوا زرْدُشت أو عُزيرًا (عليه السلام) أو المسيح (عليه السلام) ولدًا لله -حاشاه- ووقعوا في انحرافات وضلالات مثل “ثالث ثلاثة”!.. وحينئذٍ انقلبت الموازنات والنُّظم المتعلقة بالوحي والعقل عاليها سافلها.
لم يزل القرآن معبرا عن الفكر السليم والمحاكمة العقلية المنهجية والمنطق المنضبط ضد الأحكام والمزاعم المختلفة التي يَبْنِيها خصومه الكثيرون على “غير المعقول”…
وقد يتجسد “غير المعقول” في “وَدٍّ” و “يَغُوثَ” و” يَعُوقَ” و”نَسْرٍ”، أو في “النور والظلمة” كما عند المجوس، أو في روحٍ كليةٍ، أو في أصنام “اللاّت” و”مَناة” و”العُزّى” و”نائلة” و”إساف”، أو في حوادثَ مخيفة ومفزعة في كتاب الطبيعة مثل النار والنهر والبرق والريح. وفي كل حالٍ، الأرواحُ القابلة للاعوجاج والانحرافِ تنجرف أحيانا إلى هاوية الانحراف انطلاقا من حسن النية، كما في تأليه “ودّ” و”يغوث” و”يعوق” و”نسر”، أو تندفع في طريقٍ خاطئ فتبعد عن الصواب، لالتفاتهم عما هو معقول وسماوي. وقد يغفلون عن القضية لضيق زاوية الانحراف في المركز. وحين الانتباه في نقطةٍ على المحيط بعيدًا عن المركز تتعسر العودة إلى نقطة البدء لتوسع الزاوية. ثم يبدأ التلطخ بتفسيرِ أجلِّ الحقائق، تعليقًا بالأوهام والخيال. إن هذه “اللامعقولية” هي مخالَفة صريحة للعقل وللوحي وانحرافٌ واضح، سواء بإحالةٍ صريحة لكل قضاءٍ إلهيٍّ إلى صنم من الأصنام المتنوعة، أو بربطٍ خفيٍّ للمشركين في منظور “الوسطاء” الشفعاء المقرِّبين زلفى، ربما بدوافعِ اختلاقهم للتبريرات أو الديماغوجية.
إن القرآن، يحيل كل المسائل التي يتناولها -ما عدا أوامره التعبدية – إلى العقل والمنطق والمحاكمة، ولا يَترك في توجيهاته ونداءاته ثغراتٍ عقلية أو قلبية أو روحية البتة.
المعقول واحد أبدًا.. فكلَّما حصل انحراف عنه، حصل السقوط في الكثرة غير المعقولة بلا انتباه ولا وعي… فأقاموا “الكثير الحقيقي” مقام “الواحد الحقيقي” في صور شتى: كما أسند الصابئون الولادة والموت والسعادة والشقاء والبلاء والمصائب إلى الشمس والقمر والنجومِ بكيفيةٍ تشبه معتقداتنا حول القدر، وأسند الأنيميون هذه الأمور إلى الروح الكلية، والمجوسُ إلى النور والظلمة، والوثَنيون إلى الأصنام بأسمائها وصفاتها المختلفة. حتى إذا أراد الوحي أن يردَّهم عن هذا الانحراف قالوا: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾(الزخرف:23)، ولم يفكروا بتاتا بتعديل مسارهم إلى الطريق السماوي أو العقلي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: فتح الله كولن، ونحن نبني حضارتنا، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة ، طـ2، ٢٠١2، صـ66.
ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر .