Reader Mode

أتى الأنبياء والرسل لتأمين التوازن بين الدنيا والآخرة. فبمقياس التوازن الذي جاءوا به يستطيع ابن آدم أن يجد طريقه المستقيم ومنهاجه الصحيح ويتخلص من الإفراط والتفريط.

أجل، فلا يجب ترك الدنيا والاعتكاف في الأديرة والصوامع كالرهبان. ولا يجب الانغماس في الدنيا والانقلاب إلى عبد لها وأسير في يدها، بل الأفضل العثور على الطريق الوسط، ولا يمكن ذلك إلا بواسطة الوحي؛ فالعقل والوجدان لا يستطيعان إنشاء مثل هذا التوازن، والعلم الصرف أبعد منهما عن الوصول إلى هذا الهدف وتحقيق هذه الغاية، إذ لا يستطيع رفع الإنسان إلى هذا المستوى.

والقرآن الكريم يشرح هذا التوازن فيقول: “وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ”(القصص:77)

فإذا وضعت في إحدى كفتي هذا الميزان الإلهي الحقائق التي تنطق بها الآية الكريمة: “وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ”(الضحى:11) عليك أن تضع التحذير الذي تتضمنه الآية “ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئذٍ عَنِ النَّعِيمِ”(التكاثر:8).

لا يجب ترك الدنيا والاعتكاف في الأديرة والصوامع كالرهبان. ولا يجب الانغماس في الدنيا والانقلاب إلى عبد لها وأسير في يدها.

وهكذا يتم حفظ التوازن بهذه المقاييس والموازين. أما إنفاق أبي بكر الصديق رضي الله عنه كل ماله في سبيل الله وعدم إبقائه لأهله شيئا فما ذلك إلا لأن مرتبة “الصديقية” تستلزم هذا.

يروي زيد بن الأرقم الحادثة التالية عن أبي بكر رضي الله عنه في أيام خلافته فيقول: إن أبا بكر رضي الله عنه استسقى فأُتِيَ بإناء فيه ماء وعسل، فلما أدناه من فيه بكى وأبكى من حوله، فسكت وما سكتوا، ثم عاد فبكى حتى ظنوا أن لا يقدروا على مساءلته، ثم مسح وجهه وأفاق فقالوا: ما هاجك على هذا البكاء؟ قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم، وجعل يدفع عنه شيئا ويقول: “إليك عني..إليك عني..” ولم أر معه أحدًا فقلت: “يا رسول! أراك تدفع عنك شيئًا ول أرى معك أحدا؟” قال: “هذه الدنيا تمثلت لي بما فيها، فقلت لها إليك عني فتَنحّتْ وقالت: أما والله لئن انفلتَّ مني لا ينفلتُ مني مَن بعدك” فخشيت أن تكون قد لحقتني فذاك الذي أبكاني”([1])

أجل، فمع أن الدنيا أقبلت عليهم فإنهم عاشوا حياة متوازنة، ذلك لأن قدوتهم وأسوتهم ومرشدهم عاش كذلك.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1] ) حلية الأولياء لأبي نعيم، 1/30-31.

المصدر: محمد فتح الله كولن، النور الخالد محمد صلى الله عليه وسلم مفخرة الإنسانية، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ8، 2012م، صـ63/ 64.

About The Author

عالِم ومفكِّر تركي ولد سنة 1938، ومَارَسَ الخطابة والتأليف والوعظ طِيلة مراحل حياته، له أَزْيَدُ من 70 كتابا تُرْجِمَتْ إلى 40 لغة من لغات العالم. وقد تَمَيَّزَ منذ شبابه المبكر بقدرته الفائقة على التأثير في مستمعيه، فدعاهم إلى تعليم الأجيال الجديدة من الناشئين والشباب، وَبَذْلِ كلِّ ما يستطيعون في سبيل ذلك.

Related Posts