Reader Mode
إن مسألة جمع الأجزاء المتفرقة والمبعثرة، ولملمتها وإعادتها من جديد إلى هويتها الأصلية، مرهونة بعملية ترميم وإصلاح تستغرق زمنًا طويلاً للغاية نظرًا لعظم حجم التخريبات.. وقد لا يتيسر هذا الأمر لجيل بكامله؛ لأن للزمن والأوضاع العامة تأثيراتهما وتدخلاتهما المهمة، والجميع يضيف نَفَسَه وصوته ورأيه إلى الأمر، وفي ظل العولمة ليس من السهل على الإطلاق العثور على صوتنا الخاص ونغمتنا الذاتية بين أصوات هذه الجوقة.. وهذا النوعُ من التطورات مرتبط بالوقت.ثمة مسؤولية تقع على عاتق من نذروا أنفسهم لخدمة الحق والحقيقة تجاه إنسان عصرنا الذي يهاجم بعضه بعضًا بدافع طمع لا ينتهي، ويركض ليأكل بعضه بعضًا، ويقسم البلاد ويمزقها بإشعال فتيل الحروب.. وتكمُن هذه المسؤولية في إقامة جسور لن تنهدم بين الناس، وتأسيس أواصر ترابط قوية للغاية، والمساهمة بهذه الطريقة في تكوُّن جوٍّ من السِّلم العام في العالم أجمع.. فثمة حاجة شديدة إلى إظهار سُبل العيش الإنساني، وإلى التذكير مرة أخرى بأن الإنسانية جمعاء، من نسل آدم . فإن تعذَّرَت إقامة مثل هذا الجو من السلم في عالم تُثار فيه دائمًا العداوات والصراعات، وتنتج الأسلحة الفتاكة في كل مكان منه؛ فلن يستطيع أحد أن يعيش حياته في أمن وأمان.

وبدلاً من الصراع والتناحر والهدم والتسلّط والسيطرة عليهم، يلزم الكشف لهم عن أفق التعاون والتضامن الأخوي، غير أنه يلزم فعل هذا أيضًا وفقًا لظروف وأوضاع عالمنا المعاصر. ومن هذا المنطلق فإنه يجب على الساعين لتوفير السلم والسلام في العالم أجمع، أن يتحركوا وفقًا لضروريات العصر الحديث، وأن يسعوا إلى توفير ما يمكن أن يُوفَّقوا إليه من هذا دون انفصال عن الواقع والحقائق.

إن تحقُّقَ ذلك مرهونٌ بالجَودة في نشأة الكوادر، وتجهيزِها الكامل ماديًّا ومعنويًّا، ونضوجِها العقلي والفكري والمنطقي، وامتلاكِها مكتسبات تمكّنها من قراءة الأوامر التشريعية والتكوينية قراءة صحيحة، وتقييمِها تقييمًا صحيحًا، ووضعِ كل شيء في موضعه المناسب.

يجب على تلك الكوادر أن يتمكنوا من قراءة الأوامر التكوينية وفقًا للرؤية التي قدمها لنا القرآن الكريم، وأن يربطوا كل شيء في الكون بخالقه؛ متحررين من الآراء الطبيعية والوضعية والمادية، متمكّنين من قراءة ما تعنيه هذه الأمور بحق صانعها وعند خالقها، أي إنه يجب أن تكون عوالمهم العقلية والقلبية منفتحة على ما وراء الطبيعة أيضًا بجانب الطبيعة؛ ذلك لأن قدرتهم على تحويل الأزمات التي تجري وتأتي من اليمين واليسار إلى حزمٍ وباقات من المعرفة والحكمة وتحقيقَهم ترقيات في مراتب اليقين، أمرٌ مرهون بهذا.

أسلوب التمثيل

إن إدراك أبطال الإصلاح للمشكلة في وضع كهذا، ومواصلتهم مساعيهم لإصلاحها بشكل يتوافق مع روح العصر، أمرٌ مهم للغاية. وبدايةً يجب عليهم أن يمثلوا الإسلام بوجهه المبشر والمشجع تمثيلاً كاملاً، وعليهم بعد ذلك أن يُوصِّلوا الحق والحقيقة إلى الصدور المحتاجة المتعطشة إليهما دون أن يُكرهوا أحدًا، ولا أن يُصعِّبوا الدين القائم على التيسير أساسًا، ولا أن يُنفروا الناس، ولا أن يُضحوا بالأصول لصالح المسائل المتعلقة بالفروع، وعليهم أن يقفوا بالدرجة الأولى على المسائل الأساسية المسماة بالضروريات والحاجيات على مستوى الأمة والإنسانية على حد سواء بدءًا من حياتنا العائلية، وألا يقع صراع على الفرعيات والتفاصيل.

إن ما يقع على كاهل المسلم باعتبار الأصل، هو أن يُطَبِّقَ بحساسية كاملة وتامة كافة المسائل الخاصة بالدين، بدءًا من السنن وصولاً إلى الآداب.. غير أنه يجب علينا أن نقدمها ونعرضها على الآخرين بأسلوب تيسيري وتبشيري موافقًا لوصايا سيدنا رسول الله ، يجب ألا نقصر قطعًا في الأصول، وألا نتشدد كثيرًا في المسائل الخاصة بالفروع، وألا ننفر الناس من الدين عبر التمسك بمثل هذه الأشياء، وألا نجعلهم يفرون من حولنا، بالعكس يجب أن نكون مبشرين وميسّرين ومُؤلفين ومُحبِّبين.

(*) جهود التجديد، دار النيل للطباعة والنشر، ط1، ٢٠17، القاهرة. ترجمة: عبد الله محمد عنتر.