إن المجتمع السليم الواعدَ بمستقبل مشرق، يتكون من أفراد سليمين هم منه كالجزء من الكل، ولكن -من جانب آخر- وجودُ أفراد منضبطين وممتازين وتطورُهم لا يتم إلا في مجتمع سليم كهذا، وإن كان هذا المقترب يؤدي بنا إلى نوع من “الدَّوْر المحال”. فإن بيئة عامرة بتراثنا الثري ستؤثر في كل وقت؛ في العالِم والجاهل، والشاب والكهل، والبدوي والحضري، والمفكر والسارب في هواه.. وما إن يفتح هؤلاء أعينهم ويرتبطون بما حولهم حتى يوحي المحيطُ والجو العام إليهم دائمًا بأمورٍ ويحاسبهم ويحاورهم… وبوارداتها وغناها، أو بفقرها، أو بوسطها النفسي والمادي، قد تغذيهم وتربيهم وتعمرهم، أو تقوض عواطفهم وأفكارهم وتحيل كل شيء إلى خراب.
من أجل إنشاء الثقافة وإدامتها، ينبغي تحفيز رد الفعل المشترك ضد الأفكار الماسخة والغريبة المنكرة، إلى جانب استشعارها والإحساس بها بكامل عناصرها من قبل كل فئات المجتمع.
تكامل المجتمعات
وقد لا يتسنى للإنسان أن يحس على وجه تام بمدى التأثير الذي يحدثه جو “روح الأمة” على أي مجتمع وعلى أفراده من كل النواحي، ولكن ينبغي أن نستحضر دائمًا أن هناك أمورا جزئية في العالم النفسي أو المادي تبدو لأول وهلة وكأنها تافهة وعادية ولكنها في كثير من الأحيان لفتت الأنظار وفتحت الأذهان نحو اكتشافاتٍ أو محاولاتٍ أو إجراءاتٍ علميةٍ غايةٍ في الأهمية؛ فكما أن ترقُّب قطة لجحر فأر ألهب مشاعر بعض النابهين، فهناك عقول انكشفت أمامها آفاق واسعة حينما فَكَّرت في التناغم البديع لمجتمعات النمل والنحل، تلك المجتمعات التي لا يضاهِي كمالَها أكملُ الجمهوريات.. فَكَّرت في التناغم البديع لمجتمع النمل والنحل الذي لا يضاهِي كمالَه أعظمُ الجمهوريات كمالاً.. وكم من أمر مستصغر في عالم المادة أذكى نارَ أذهان وقَّادة. وكم من أمر يبدو للآخرين هينا ولكنه فتح الأبوابَ لاستلهام عظائم؛ مثل طاس الحمّام لـ”أرخميدس”، وتفاحةِ “نيوتن”، والتناغم العام لـ”جِين”، والقِدْرِ المتدحرج على سطح الدار لنصير الدين الطوسي، وأنغامِ الموسيقى التي تهدِّئ المجانين لابن الهيثم، وبزوغِ شمسِ صباحٍ آسرٍ لـ”ميخائيل إنجيليو” وماءِ جَرّةٍ لـ”دنيس بابن”!
العلماء والأفكار الغريبة
من الحقيقة أن لبنيان المجتمع من حيث صحته أو عطبه، وجوانبه الإيجابية أو السلبية تأثيرا بَيّنا على الأفراد، وإن لم يتمكن العقل -دائمًا- بالنظر الظاهري السطحي من إدراكه والشعور به. فالأفراد هم أبناء المجتمع الذي يوجَدون فيه، و يحسون بكل شيء ويعيشونه ويتقبلونه في بيئة مجتمعهم. فالواجب على أهل العلم والمعرفة عمومًا، وعلى المسؤولين خاصة، أن ينقُّوا ويغربلوا الأفكار الغريبة والضارة والمنكَرة التي تؤثر على المجتمع سلبا وتُضادُّ العقل والمشاهدة والتجربة والفكر الديني. إن أعظم الأبطال الذين قاموا بهذه الغربلة في التاريخ هم الأنبياء. ثم مِن بعدهم الأصفياءُ المتحفِّزون بالإلهام، ورجالُ الفكر الذين تكاملت قلوبهم وعقولهم، ورجال العلم الموقِّرون لعالم الغيب مع عالم الشهادة، وللحس الوجداني مع التفكير العقلاني، وللوحي السماوي مع التجربة.
إن أعظم الأبطال الذين قاموا بغربة الأفكار الغريبة والضارة والمنكَرة التي تؤثر على المجتمع سلبا وتعارض العقل والمشاهدة والتجربة والفكر الديني هم الأنبياء.
الأنبياء وتنقية المجتمع
حينما فتح سيدنا نوح (عليه السلام) النقاش حول وَدٍّ وسُواع ويغوثَ ويعوقَ ونسر؛ وثار إبراهيم (عليه السلام) تجاه الأصنام والفكر الوثني المحيط ببيئته؛ ونافح موسى (عليه السلام) الظلم والاستبداد والطغيان واستغلال الإنسان؛ وأذل المسيح (عليه السلام) الماديةَ المؤلَّهة؛ وحارب مفخرةُ الإنسانية (عليه الصلاة والسلام) العللَ الاجتماعية التي ما فتئت تمسك بتلابيب البشر كالجهل والفقر والتنازع والتفرق، إلى جانب جميع الأخطاء الأخرى التي جاهد الأنبياء السابقون ضدها… ومن بعده إلى يومنا فَسَّر جميعُ المجددين والمرشدين الكمّل الحياةَ تفسيرا جديدا في إطار أوامر الله تعالى وإرادته ورضائه… هؤلاء كلهم سعوا جاهدين لتحقيق تلك الغربلة والتنقية.
فمن أجل إنشاء الثقافة وإدامتها، ينبغي تحفيز رد الفعل المشترك ضد الأفكار الماسخة والغريبة المنكرة، إلى جانب استشعارها والإحساس بها بكامل عناصرها من قبل كل فئات المجتمع… حتى نبقى وندوم بذواتنا وبخصالنا الذاتية من جهة، وحتى نسير إلى المستقبل من غير السقوط في دوامة الباطل والخرافة والتغرب من جهة أخرى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: فتح الله كولن، ونحن نبني حضارتنا، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة ، طـ2، ٢٠١2، صـ27.
ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر .