Reader Mode

إن كان شرحُنا لمسألةٍ سيُزعِجُ طائفةً من الناس فعلينا أن نحيل شرحها إلى الآخرين قائلين: “رضا الله أولى فالحقُّ يعلو ولا يُعلى عليه”، وليس كذلك فقط بل لا بد أن نستحسن شرح الآخرين للمسألة”. وهنا نُكتَةٌ لطيفة: وهي التفريقُ بين الرضا بشرح الآخرين للمسألة، وبين استحسان هذا الشرح. فعلينا أن نستحسن هذا الأمر وفقًا للجانب الثاني، وهذا من الأمور التي لا تحبّذها النفس مطلقًا، رغم أنها شجاعةٌ وإحسان.

 علينا ألا نُرَحِّبَ بطلب التحدُّثِ كما لم يرحب النبي ﷺ بطلب الإمارة من أبي ذرٍّ رضي الله عنه، بل كان يعهد بها إلى أهل الخبرة.

قد ينزعج بعضُ الناس منّا لأمرٍ يتعلَّق بنا، وقد يُحدث ما نشرحه تأثيرًا سلبيًّا فيهم، وفي هذا الوضع لا يختلف همُّنا وسعيُنا لشرح الحقّ والحقيقة عن سعينا لعدم تقبُّلهم ما نحدثهم به، وبناءً على ذلك يتضرَّر السامع لعدم تقبُّله الحقَّ، ونُلحق نحن أيضًا الضررَ بأنفسنا لأننا أصبحْنا حائلًا بين هؤلاء وبين تقبُّلهم للحقّ، والحلُّ يكمن في أن يشرحَ المسألةَ شخصٌ غيرنا، وسنحظى أيضًا بالثواب نفسه الذي حصله الآخر في سبيل تقبُّل السامعين للحقِّ لأننا كنا وسيلة فيه.

وعلينا ألا نُرَحِّبَ بطلب التحدُّثِ وإلقاء الكلِمات، كما لم يرحب النبي صلى الله عليه وسلم بطلب الإمارة من أبي ذرٍّ رضي الله عنه، بل كان يعهد بها -بِحُكْمِ صلاحيّاته- إلى أهل اللياقة والخبرة. فإن كان هناك شخصٌ بوسعه النفاذ إلى قلوب الناس أكثر منا، ويشرح قضية ما على نحو أفضل منا؛ فعلينا أن نهيِّئ له الفرصة للحديث، وعلى الآخرين ألا ينزعجوا من وجودهم بين المستمعين.

“علينا أن نعترف بعدم المعرفة إذا ما صادفتنا مسائل لا نعرفها، وأن نقول: لا نعلَم”.

 قولوا لا نعلم، وأحيلوهم لمن أكثر علماً

علينا أن نعترف -بارتياح- بعدم المعرفة إذا ما صادفتنا مسائل لا نعرفها، وأن نقول: لا نعلَم، فكما قالوا “نصفُ العِلمِ لا أعلم”. ولقد ضرب لنا مرشدنا ونبينا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في هذا. وذات يوم سأله اليهود عن الروح، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجب على هذا السؤال العدائي الذي طرحه الخصوم مُحاولين إثارة الشبهات حول نبوته، وبعد مدة نزل الوحي: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ (الإِسْرَاءِ: 17/85). فكان لسكوته، صلى الله عليه وسلم، وتبليغِه هذه الآية التأثير الأبلغ في نفس المخاطبين، فكمّموا أفواههم بعد تلقّيهم الجواب الدامغ.

ولما نزل عليه جبريل عليه السلام يومًا وقال: متى الساعة؟ ماذا كان رد النبي صلى الله عليه وسلم وكيف كان؟ قال صلوات ربي وسلامه عليه: “مَا المسئول عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ!”، فهل هناك أبلغ من هذا المثال الذي يوضح أننا لسنا مضطرين إلى الإجابة على كل سؤال.

إننا لا نترك الأمر هكذا؛ بل نصحب مخاطبينا إلى من نرى أنهم أفضل منا معرفة بالقضايا المطروحة، ونتعلم، ونهيِّئ الفرصة لغيرنا ليتعلموا.

كانوا يسألون الإمام القاضي “أبا يوسف” مائة سؤال، فلا يجيب على ستين منها ويقول: لا أعلم. فقالوا له: يا إمام، ندفع لك راتبًا، وتقول لا أعلم على ستين سؤالًا؟ فقال: إنكم تدفعون لي راتبًا على ما أعلمه، فإن لزم أن تدفعوا شيئًا على ما لا أعلم لما كفتكم الدنيا كلها. ونقل عن الإمام “مالك” أنه سُئل عن ثماني وأربعين مسألة فقال في اثنين وثلاثين منها: “لا أدري”، كذلك سُئل الأمام “أبو حنيفة” عن تسع مسائل فقال فيها: “لا أدري”. فعلينا أن نعترف بعدم معرفتنا إزاء ما لا نعرفه، ولا نترك الأمر هكذا؛ بل نصحب مخاطبينا إلى من نرى أنهم أفضل منا معرفة بالقضايا المطروحة، ونتعلم، ونهيِّئ الفرصة لغيرنا ليتعلموا.

—————————————————

المصدر: محمد فتح الله كولن، الاستقامة في العمل والدعوة، سلسلة أسئلة العصر المحيّرة (3)، ترجمة: أورخان محمد علي – د. عبد الله محمد عنتر، دار النيل للطباعة والنشر، ط1، 2015، ص:31-34.

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.

About The Author

عالِم ومفكِّر تركي ولد سنة 1938، ومَارَسَ الخطابة والتأليف والوعظ طِيلة مراحل حياته، له أَزْيَدُ من 70 كتابا تُرْجِمَتْ إلى 40 لغة من لغات العالم. وقد تَمَيَّزَ منذ شبابه المبكر بقدرته الفائقة على التأثير في مستمعيه، فدعاهم إلى تعليم الأجيال الجديدة من الناشئين والشباب، وَبَذْلِ كلِّ ما يستطيعون في سبيل ذلك.

Related Posts