إن المحبة سليمانُ *** والفؤاد هو عرشها(**).
الفؤاد هو أحد أهم عناصر الإنسان وأخطرُها، وهو تعبير عن وجوده المعنوي، وهو منبعُ مشاعره وعقائدِه، وهو الطريق المؤدي إلى آخرِ نقطة من أعماق الإنسان، وهو في الوقت نفسه أول نقطة انطلاق إليها.. والذين يسيرون في طريق القلب ويحلِّقون بقلوبهم، لا يعرفون الظلام ولا يتعثرون بشيء.
لقد نمت القيم الإنسانية كلها وترعرعت في وديان الفؤاد، وما الإيمانُ والعشقُ والأذواقُ الروحانية جميعُها إلا ثمراتُ بستانِ هذا الفؤاد.
إن الذين تَصحَّرَتْ قلوبهم سيتعرضون -حتمًا- لجفاف في المشاعر ونضوب في الأفكار وضيق في المحاكمة العقلية والنظرة العلمية؛ فلقد عاش الفؤاد أزهرَ أيامه بكل أبعاده في العصور التي كان المنطق فيها تحت وصايته وحِلسًا ببابه، وتَرَكَ خَلْفه ما لا يُعدّ ولا يحصى من التراث الخالد؛ فقد كانت الروحُ في تلك المراحل تهيمن على المادة، وتذيبها في بوتقتها، وقد تَداخَلَت الدنيا مع العقبى واتحدت في تكامل معها، وصارت سفوحُنا القاحلةُ مَعارضَ للعوالم الأخروية، وَوَجدت القيمُ المتعلقة بالعوالم الماورائية لنفسها في هذا العالَم قيمةً وسُوقًا رائجة، وقُدِّرت الأشياءُ المتعلقة بهذه العوالم ووُزِنت بموازين العالم الآخر فارتقت إلى قيم تفوق التقدير.. وفي هذه الحقبة انفصل السُكَّر عن القصب، وحَمَلت البراعم بزهورها، واكتسى التراب باللون الوردي بما يسطع عليه من أنوار مصدرها العوالم الماورائية، وبدأت زهور التوليب والزنبق والبنفسج والأقحوان تتمايل طربًا بما يهُبُّ عليها من نسائم الصدور المؤمنة، وأصبح الناس يَسمعون في كل ناحية سحرَ أعماق العقبى.
إننا جميعًا ضيوفٌ لدى بيت الفؤاد -نَفدي بقلوبنا مَن أشعر وجدانَنا بسلطنته- وعازمون على أن نضحِّي بأرواحنا في سبيل سلطان الأفئدة، ومنتظرون لأوامره.
ثم اختلطت الأذهان، ونَحَت المحاكمة العقلية نحو الجدل الفارغ، وفقد الوجدانُ لسانه، وصُلِبت الروح، وخفتت نغماتُ القلب حتى باتت لا تُسمع، وعندها صارت الأرض من أقصاها إلى أقصاها مقبرة، وصارت مبانيها التي نسكن فيها توابيت، وتحولت الحياة إلى تحركات يائسة في تلك التوابيت، تحيط بها مناظر تبدأ بالوفيات وتنتهي بها أيضًا، وابتئست الروح وتعست، وباتت تعيش بين الضباب والدخان حالة من الوله وألمِ الفراق.
في مثل هذا الجو الخانق نصبت الأحاسيس البدنية والأفكارُ الجسمانية فخاخها على الطرق التي نمر بها، وبدأت -كقاطع طريق-تصطاد الأرواح المحرومة من الوجدان، وتُقدِّم لها أنواعًا من شراب قاتل حتى جعلتْها ركامًا من ذوي الهذيان، ركاماتٍ منغلقةً على القياس والمحاكمة العقلية، لا تُفكِّر ولا تفهم ولا تعرف وزن الأمور ولا تقويمها.
ومن ثم فإننا على وعي بأن الاستماع إلى الأحاديث القلبية بات ضرورة ملحة أكثر من أي وقت مضى، فهي -كما نعتقد- تنطوي على أنفاس المسيح التي تحيي الموتى، ومنذ أنْ خُلقت الدنيا لايزال السعداء ممن حَلَّقوا في آفاقِ ما وراء السماوات وقَطعوا فيها المسافاتِ يَخرجون من بين رجال الروح، أولئك الذين تخطوا جسمانيتهم وتحرروا من قيود أبدانهم، لهم أجنحة مثل الملائكة وذوو أبعاد مثل الروحانيين، ومستقرهم الدائم أعماق الفؤاد.
إن رجال القلب هؤلاء الذين يمسكون بزمام العالَمَين كليهما، قد جالوا في سهول تُعرَض فيها ثرواتُ الجنان، في الحقب التي كان الناس يتسولون فيها على مفارق الطرقات، تنفسوا بالاستغناء، وتشبعوا بالاستغناء وحلَّقوا في الآفاق بالاستغناء.. فلم تَغبرَّ آفاقهم بغبار الدنيا وعَفَرها، ولم تدُخْ رؤوسهم بجاذبية الرياض والجنان، لقد بحثوا في أعمالهم كلها عن رضا “الحبيب”، وبذلك طلبوا التجارات الرابحة، وقابلوا حكمة وجود القلب بأكثرِ أنواع المقابلة إنسانيةً.
عاش الفؤاد أزهرَ أيامه بكل أبعاده في العصور التي كان المنطق فيها تحت وصايته وحِلسًا ببابه، وتَرَكَ خَلْفه ما لا يُعدّ ولا يحصى من التراث الخالد.
فلما ترنم هؤلاء عن أشواقهم من خلال مزج أصواتهم بالأنفاس الماورائية في أول حملة، استطاعوا في الخطوة التالية أن يرتقوا بأنفاسهم إلى العوالم التي تجري فيها المَجَرَّات.
لقد خُلق الفؤاد وتكوّن من امتزاج العنايةِ الإلهية بالجوهر الإنساني، ومن هذا فإن الفؤاد الذي يحمل الختمَ السلطانيّ متداخل مع العوالم الروحانية والجسمانية في آن واحد.
إنَّ كلًّا مِن تَعَمُّق الإنسان وحسنِه الداخليِّ والخارجي بُعدٌ من أبعاد حياته القلبية، بل إن رونقه الظاهري وجاذبيته منوطٌ كلّيًّا بحياته القلبية، وحينما يَصِل كلامُ القلب إلى الدماغ فإن شمعته تشتعل، وتتنوّر ذاتيةُ الإنسان مثل الطبقة التاجية الشمسية، وفي هذا الوقت الذي تتحول الروح بوجهها تمامًا نحو هاتف القلب تبدأ المشاعر تُطلِق أصواتًا وكأنها وَتَرٌ حساسٌ حرَّكَتْها ريشةُ عازف سرِّيٍّ وسحري، عندئذ يفيض الوجدان فرحًا واحترامًا، وتُحس الذاتُ الإنسانيةُ وكأنها أحيطت بنار العشق من كل الجوانب، وتنبري العينان بمشاعرَ كريمة لإطفاء الحريق وكأنهما رَجُلَا إطفاء، وتَفيضان بعَبراتٍ سخيّة كالشلالات.
وعندما تتعطل الإرادةُ ويَفقد الإنسانُ وعيَه فقد يختل التوازن في المشاعر وتخطئ الطريقَ، ولكن الفؤاد مختلفُ الحالِ تمامًا، حيث يكون خاضعًا مطأطِئ الرأس ودائمَ الحضور بين يديه عز وجل.
وعندما يقوم الإنسان بسياحة في عالم الفؤاد فإنه لا يقع في التيه ولا تتعثر به الطرق، وفي المراحل التي ينتاب الخوف جوادَه فلا يُقْدِم على المسير أو تتعثر قدماه فيراوح مكانه، إذا بالعشق يهب مغيثًا له ومُنْجدًا كالخَضِر عليه السلام، فيأخذ بخطام فرسه ويمر به من الفجوات التي أحدثَتْها الشبهاتُ والشكوكُ وكأنه بَرْقٌ وبُراق.
إنَّ كلاًّ من مشاعر الإنسان الداخليةِ والخارجية بمثابة جندي والقائد لها جميعا هو القلب، وهي بمثابة فَراشة والقلبُ بمثابة مصباح نوراني.. فينبغي أن يُطِلَّ القلب من موقعٍ عالٍ يُطلِقُ الأوامر فتصغي له سائرُ اللطائف، وينبغي أن يكون مثلَ النجم القطبي دائرًا حول نفسه يهتف باسمه تعالى قائلًا: “هو”، وتَطُوفَ المشاعر الإنسانية حوله ساجدة واضعةً جباهها على الأرض.
الفؤاد هو أحد أهم عناصر الإنسان وأخطرُها، وهو تعبير عن وجوده المعنوي، وهو منبعُ مشاعره وعقائدِه، وهو الطريق المؤدي إلى آخرِ نقطة من أعماق الإنسان.
إننا جميعًا ضيوفٌ لدى بيت الفؤاد -نَفدي بقلوبنا مَن أشعر وجدانَنا بسلطنته- وعازمون على أن نضحِّي بأرواحنا في سبيل سلطان الأفئدة، ومنتظرون لأوامره.
ومنذ اليومِ الذي نَفَخَ فيه الحياةَ في أجسامنا من نافذة القلبوالوال لم نزل نمرِّر مَكُّوكَنا بين الحسرة والوصال، ونحاول أن ننقش صورةَ أشواقنا.. فبَدَأت روحُنا حينًا من الوقت تهتز شوقًا وفرحًا عندما سَمعت النسائمَ التي هبَّت مِن صوب الحبيب، وأخيرًا طأطأنا رؤوسَنا ننتظر الوقت الذي سيَحين فيه مواربة باب الخلوة أمامنا.
ففي هذا الطريق الذي سلكناه ونحن نُنشد أناشيد العشق والشوق كان الفؤاد دليلَنا ومرشدنا متنزلًا إلى مستوانا، ونحن بالمقابل أخذنا على أنفسنا العهد بأن نلتزم السير وراء هذا الدليل المبارك ولا نفارقَه مهما كان ذلك مليئًا بالمحن والمعاناة.
(*) نشر هذا المقال في مجلة “سيزنتي” التركية تحت عنوان: Gönül، العدد:139 (أغسطس 1990). الترجمة عن التركية: أجير أشيوك. (**) محمد لطفي (1868/1956م) شاعر تركي.