ثَمَّ أخذ وعطاء، وتأثير وتأثر دائم بين فئات المجتمع المتنوعة في الأمم والحضارات الوطيدة التي سكن تموجُها الاجتماعي. وفي الأوساط التي يوجد فيها جو ديمقراطي خاصة، يوجد تأثير وتأثر، وتفاعل مهم ودائم بين قمة هرم المجتمع وعناصر قاعدته. فالمعلم في المدرسة، والواعظُ على الكرسي، والكاتبُ في الجريدة والمجلةِ، والمحللُ على شاشة التلفزيون، والأديبُ بشعره ونثره، والرسامُ الناقل للموجودات بالمعنى الواسع ولمحيطه بالمعنى الضيق إلى لوحات للعرض… هؤلاء جميعًا يتحركون دائمًا في سياق التأثير والتأثر مع جماهيرهم. فالذين في الأعلى، بصفتهم معطِين ومنتجين، يرسلون الإشارات إلى من حولهم باستمرار، يحفّزون بها المعنيين بالخطاب، ويجهزونهم للتحرك، ويزيدون من عدد المعطِين والمنتجين بتوجيه قابلياتهم واستعداداتهم نحو آفاق “تصوراتهم” المهنية والفنية. فيحوِّلون كل واحد من المستقبِلين الذين قلَّت أعدادهم بمرور الأيام، إلى أناس ذوي آفاق واسعة.
إذا تكاتفت أمة بفئاتها المختلفة وسَخَّرت قوتَها في سبيل تكوين البناء الداخلي سيكون من الطبيعي أن تَأخذ طريقها لتكون عنصرا فاعلا في التوازن الدولي
بين المبدع والمتلقي
وإذ ينتج الصانعون للأفكار ويقدمونها، يتعاطى المتلقون مع كل ما يقدَّم لهم من رأس الهرم بنظرة ماحصة متفحصة ونقدية، ويعترضون على أخطاءِ أولئك أو ما يعتقدون أنه خطأ حسب نظرهم.. ويضغطون على من في الأعلى فيُلجئونهم إلى حلول بديلة. فبذلك يُؤكَّد على كل ما يخص هويتهم، وتتم مراجعة أي فساد في الأساليب بإمرارها من المرشِّحات، وتُنَقَّى السلوكياتُ الخاطئة بالتقاضي والمحاسبة. ولا يمكن تبادلٌ وتفاعل من هذا النوع بين طبقات المجتمع إلا بفضلِ مشاركتهم جميعا وتقاسُمِهم لموروث ثقافي مشترك.
هناك تفاعل مهم ودائم بين قمة هرم المجتمع وعناصر قاعدته. فالمعلم والواعظُ والكاتبُ والأديبُ والرسامُ … هؤلاء جميعًا يتحركون دائمًا في سياق التأثير والتأثر مع جماهيرهم.
ماذا يجب علينا تجاه ثقافتنا ؟
فإذا تكاتفت أمة بفئاتها المختلفة وأصبحت كـ”البنيان المرصوص” كما وصَفَها مفخرة الإنسانية (صلى الله عليه وسلم)، وسَخَّرت قوتَها وطاقتها في سبيل تكوين البناء الداخلي وتناغمه، فإن الْحَزن سيصير سهلاً، وسيكون من الطبيعي أن تَأخذ تلك الأمة طريقها لتكون عنصرا فاعلا في التوازن الدولي. لكنَّ تواجُدَ رابطة اجتماعية مؤثرةٍ على هذا المستوى من القوة منوطةٌ بثقافة ذاتية قد استقرت أركانها وعايَشَتْها شرائحُ المجتمع كافة حتى غدت جزءًا من طبعها وجِبِلّتها… ثقافةٍ مبنية على قيم أخلاقية تتغذى وتتنفس بها، مستندةٍ بقوة الدين القاهرةِ ومتخطيةٍ بالاستناد إليها كلَّ أشكال “التغريب”، ساندةٍ لتصوارتنا الفنية بحيث تكُون ملجًا ومأوى آمنًا لها في كل مكان. وإلا فأي ثقافة لم يتوضح إطارها ومعالمها بشكل جيد، ولم تحظ بالقبول لدى كل المجتمع، فلا مناص من أنها في حالة كهذه ستصبح دائما مدعاةً للتنازع والتناحر بين معماريي الثقافة وتلاميذهم، ناهيك عن غناء تلك الثقافة وثرائها واحتضانها! وقد يَفتح أحيانا تشاجرٌ كهذا -وبخاصة إذا كان في موضوع الفن والأخلاق- جروحا يستعصي دواؤها.. وقد يورِث الإفراط والتدقيقُ الشديد في مسألة أخلاقية هيمنةً وتسلطًا على المشاعر والأفكار حتى يُوقِع الفردَ والمجتمع في الْمَحْلِ والفقر أحيانا، وأحيانا يفتح الباب لتضييع القواعد والأخلاق في البديعيات، فيتلوث كل شيء بالفوضوية والمستهجنات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: فتح الله كولن، ونحن نبني حضارتنا، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة ، طـ2، ٢٠١2، صـ 31.
ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر .