يشيع القول بأن “الثقافة” مجموعة نُظُمٍ وقواعدَ تحكم التصرفاتِ الاجتماعيةَ والأخلاقية التي أنتجتها وأَصَّلتها أمة أثناء تاريخها الطويل، وجَعَلتْها بمرور الزمان بُعدًا من أبعاد وجودها أو حوَّلتها إلى مكتسبات في اللاشعور… ومع أن بعض الخصوصيات الأساسية للثقافة حسب هذا التعريف يحمل سمات العالمية، لكن الواضح أن لكل مجتمع في جغرافية اجتماعية معينة، ثقافةً سائدة خاصة. وبدهي أن هذه الخصوصية الثقافية عنصر مؤثر قوي في النُّظُم الفكرية. ولذلك، يُعد الفكر المرتبط بثقافة معينة عند فرد من الأفراد، تعبيرًا عن ذاته بواسطة إطار المرجعية المعنية. وهناك عدد ليس بالقليل من الذين فسروا الثقافة -وربطوها بالفكر نوعا ما- بأنها مجموع الأحوال التي تعبِّر بها أمة من الأمم -بجميع طرائق التعبير أو معظمِها- عن قيمها الأخلاقية، وملاحظاتها المذهبية (العقدية)، وأفكارِها ورؤاها حول الوجود والكائنات والإنسان، وعن سلوكياتها الاجتماعية والسياسية وأصول تصرفاتها… وأنها المجموع العامُّ للأمور التي تُكتسب في سياق التاريخ في إطار الالتزام بالتفكير والإحساس “الذاتي”؛ من أمثال الفكر والفن والعرف والعادة والعمل.
إن المنطق الأوروبي الحديث يَربط ملاحظاتِه كلَّها بالإنسان والأشياءِ والحوادث. ولذلك، لا يأخذ حقيقةَ الألوهية بنظر الاعتبار البتة، أو يتناولها باعتبارها موضوعًا تبعيًا غير مهم
مفهوم الألوهية بين الثقافة العربية والغربية
إن العلاقة بين (الإنسان – الكائنات – الله) -بقراءة جمعيةٍ لم يُراعَ فيها الترتيب بين التابع والمتبوع- من أهم الأسس في نظامنا الثقافي. وجميعُ فعالياتنا الذهنية والفكرية والعملية مرتبطةٌ بهذه العلاقة. أما المنطق الأوروبي الحديث -وهو ميراثٌ يوناني تمامًا-، فيَربط ملاحظاتِه كلَّها بالإنسان والأشياءِ والحوادث. ولذلك، لا يأخذ حقيقةَ الألوهية بنظر الاعتبار البتة، أو يتناولها باعتبارها موضوعًا تبعيًا غير مهم؛ والحال أن (الإنسان – الكائنات) ([1]) -في نظامنا الفكري- مَشهرٌ وكتابٌ وبيانٌ يُعَبِّر بلغة الحوادث، وهو بهذا الاعتبار لسانٌ ومَعرِض يُعَرِّف بـ”الذات الواجب الوجود” عز وجل شأنه، ويُشهِر آثارَ صنعته، ويَهتف بإجراءاته وشؤونه. فهناك، في الفلسفة اليونانية والمنطقِ الغربيِّ المعاصرِ المستمدِّ منها، عقلٌ فعال، وبجانبه “فهم” لألوهية عاطلة، وأما في ثقافتنا فـ-على النقيض من ذلك- هناك مناسبةٌ دائمة بين الصنعة والصانع، وبين الأثر وصاحبِ الأثر، وبين الخالق والمخلوق. نحن في نظامنا الفكري نَعتبِر الإنسانَ والكائنات كوسائط تَحملنا إلى أفق عرفانيٍّ معيَّن، وبها نتوجه إلى الصانع الجليل الأجل ونطلبه ونقصده. أما أولئك فيقفون عند النتائج العملية لـ”مفهوم” الألوهية، ويُرجعون كلَّ مسألة إلى الأشياء والحوادث. وزد على ذلك، أننا نربط المسائل بالكتاب والسنة والمصادرِ الأخرى التي يرشدنا إليها الكتاب والسنة، إلى جانب العقل الفعال… أما أولئك فيَرون العقلَ والمشاهدة سببًا وحيدًا للعلم، فيُضيِّقون سبل العلم والمعرفة.
إن العلاقة بين (الله – الإنسان – الكائنات ) من أهم الأسس في نظامنا الثقافي. وجميعُ فعالياتنا الذهنية والفكرية والعملية مرتبطةٌ بهذه العلاقة.
الحاصل أن الثقافة هي مجموع المفاهيم والقواعدِ والانسياقات التي تَعلَّمَها الإنسانُ وآمَنَ بها وطبقها في حياته فصارت -بعناصرها الأصلية والتبعية- بُعدا من طبعه، حتى تحولت إلى مصدر للمعلومات في اللاشعور… فهي ظاهرة أبيستمولوحية يُدرَكُ ويُحَسُّ بوجودها وتأثيرِها بين الحين والآخر، حتى في غياب الشعور والإرادة.
معتقدات ومسَلَّمات بين الحياة والممات
كم من معتقدات ومسَلَّمات وأعراف وعادات مندرجةٍ في الروح وغافيةٍ في اللاشعور، تُحفِّزها المقومات الداخليةُ للعقل بين فينة وأخرى، بواسطة دوافعَ وأسباب مؤثرة في هذه المكتسبات، فتنشطها وتُفعِّلها وتنشئها فتصوِّرها في أشكال؛ فأحيانا في ذات شكلها القديم وأحيانًا في تَماثُلٍ قريب من شكلها القديم ولكن ربما بلون باهت. غير أن هذه المكتسبات مهما كانت مندرجة في طبع الإنسان فلا تَظهر في الحاضر مجدَّدًا بعين الذات القديمة؛ لأن كل يوم جديد هو عالم خاص بذاته، وإذ يطلع يطلع بخصوصياته، وإذ يغيب يغيب بخصوصياته! لذلك، لا نريد أن نكرر مكتسباتنا القابعة في اللاشعور، كشيء قديم تمامًا، بل بإضافة شيء من العمق إليها حسب متطلبات الأحوال والظروف. بل القول الأصوب أن نعيش تلك المكتسبات بزيادة ألوانٍ وأعماقٍ طرية، صحيحةَ النسب، ومستمدةً من الأصل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) المعنى هنا مفهوم المناسبة الإنسانية – الكائناتية جمعا من غير فصل في المفهوم ، وينصرف بداهة إلى المادي برمته وهذا من تعليقات مترجم الكتاب الأستاذ عوني عمر لطفي أوغلو.
المصدر: فتح الله كولن، ونحن نبني حضارتنا، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة ، طـ2، ٢٠١2، صـ76.
ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.