سؤال: كيف ينبغي لنا أن نفهم قول الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم “شَيَّبَتْنِي هُودٌ وأَخَوَاتُهَا”[1]؟
الجواب: ورد أنَّ أبا عليٍّ السري رضي الله عنه قال: رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: “يَا رَسُولَ اللهِ رُوِيَ عَنْكَ أَنَّكَ قُلْتَ: “شَيَّبَتْنِي هُودٌ” قَالَ: “نَعَمْ” فَقلتُ له: “مَا الَّذِي شَيَّبَكَ مِنْهُ قَصَصُ الْأَنْبِيَاءِ وَهَلَاكُ الْأُمَمِ؟” فأجاب عليه الصلاة والسلام: “لَا، وَلَكِنْ قَوْلُهُ >﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾ (سورة هُودٍ: 11/112)”[2]، والحقيقة أن هناك سورًا وآياتٍ أخرى أحنت ظهر النبي عليه الصلاة والسلام، لكنه ذكر هذه الآية بصفة خاصة؛ لأن أمر الاستقامة لا حد له ولا نهاية؛ إذ إنه لم يوضع هنا حدٌّ معين كأداء خمس صلوات وصيام شهر واحد، فسيد السادات صلى الله عليه وسلم صاحب الوجدان القادر على فهم الوحي السماوي في إطار سعته وشموله يستخرج معاني واسعة جدًّا من هذه الآية، وبالتالي فإنه يجد صعوبة بالغة في الوفاء بهذا الأمر بالنسبة له.
ليس مهمًّا أن تُعرِض الدنيا عنا، وليس مهمًّا أن تهرب منا وتولي عنا، بل يجب على طالبي الآخرة ألا يهتموا بالدنيا ولا بما هو على شاكلتها
لا ريب أن كل إنسان سيفهم هذا النوع من الآيات حسب مستواه، فلو سألنا شخصًا عاديًّا: ما هو التكليف المقصود بهذه الآية؟ فإنه يجيب: “الاستقامةُ هي أن تؤدِّي الصلوات الخمس التزامًا بشروطها وأركانها، وتصومَ رمضان كما يجب، وتخرج زكاة مالك إن كان لك مال بلغ النصاب، وتحج البيت إن كنت تستطيع، وتجتنب كبائر الذنوب”.. وربما يجيب آخر عن هذا السؤال هكذا: “الاستقامةُ هي أداءُ الفروض والواجبات بحساسية وعناية، واتّقاءُ المحرمات، والتصرُّف بحذر إزاء المكروهات، وتركُ بعض المباحات خوفًا من أن تكون مكروهة، وأن تدورَ الحياةُ في فلك التقوى”.
كيف فهم سيدنا رسول الله الاستقامة؟
إن المعنى الذي فهمه سيدنا رسول الله من هذه الآية أكثر اختلافًا مما تقدم، وذلك بالنسبة له هو صلى الله عليه وسلم، وربما أنه لهذا السبب كان صلى الله عليه وسلم يتعبّد ليلًا حتى تتورّم قدماه، ولا سيما أنه واصل فعل ذلك عندما تقدَّم به العمر فكان يصلي النوافل جالسًا حيث لا يستطيع الوقوف على قدميه، وبحسب ما عرفناه من الصحابة الكرام فقد كان يقرأ البقرةَ وآل عمران والنساء في ركعة واحدة أحيانًا، ويكرر قراءة الآيات التي تدعو المؤمنين إلى التفكر حول كتاب الكون، ويبكي منتحبًا شجيًّا.. وذات يوم سألته أمنا عائشة رضي الله عنها إزاء فعله هذا أنْ “أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟” فأجابها “أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا[3]“، أي إن رسولنا عليه الصلاة والسلام فهِم الاستقامة فهمًا واسعًا عميقًا هكذا.
من نذروا أنفسهم لإقامة صرح أرواحهم يجب عليهم ألا يركضوا خلف أي شيء سوى رضا الله تعالى.
لهذا السبب بدأ الشيبُ يُرى في شعره عليه الصلاة والسلام بعد أن نزلت هذه الآية، بحسب ما علمنا من الصحابة، فلما ذُكِّرَ عليه الصلاة والسلام بهذا قال “شَيَّبَتْنِي هُودٌ“، ويمكنكم أن تقولوا عن هذا “أحنت سورة هود ظهري، وأهرمتني”، لأن الآية المذكورة وضعت حكمًا مطلقًا ليس من الممكن تقييده عن طريق الوفاء بأعمال معينة خاصة به، ولما كان حد الاستقامة غير محدد فيستحيل القول -مهما أوتي من أعمال- إنه تم الوفاء بما تستلزمه الآية، ومن هذه الناحية وتحت التأثير القويِّ لإحساسه الدقيق وفهمه العميق فإن هذه الآية كانت ثقيلة للغاية على النبي الأكرم بطل الصبر التام والتوكل التام والتسليم التام والتفويض التام والثقة التامة بالله تعالى.
وثمة واحد من العظماء يصرح بملاحظاته فيما يتعلق بشكر الله تعالى هكذا: “رباه! كيف لي أن أؤدي شكري إياك! إن مجرد توفيقك إياي أن أشكرك نعمةٌ تتطلب الشكر في حد ذاتها، يجب عليّ أن أشكرك على كل شكر وُفِّقتُ إليه، إن أفنيتُ عمري بشكرك فلا أستطيع أن أؤدي شكر نعمك وآلائك التي أحسنت بها عليَّ”..
لقد اُختُبر الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون مرات عديدة حتى اليوم إلا أنهم لم يتبدلوا أو ينحرفوا قط.
ويمكننا تناول المسألة وفقًا للتعبير الوارد في “كلستان” لسعدي الشيرازي: حيث يقول “يجب على الإنسان أن يشكر مرتين على كل نَفَسٍ من أنفاسه”، فكما أن الإنسان يموت إن لم يتنفس فإنه يموت إن لم يستطع إخراج ذلك النفس من جوفه، فالله يهب الإنسان الحياة مرتين حتى في شهيقه وزفيره، وكما أن الإنسان يعترف بأنه مدين بالشكر لمن يُسدُونَ إليه ولو حتى معروفًا بسيطًا فكيف ينبغي له أن يشكر الله تعالى الذي يغرقه بإحسانه! ولما كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على وعيٍ بهذه المسألة فقد تلوى وهَرِم أمام الآية الكريمة ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْت﴾ (سورة هُودٍ: 11/112).
معيار الاستقامة
لا جرمَ أنه من الواجب على المؤمنين الذين يتّبعون رسول الله ويصطفّون خلفه محاولة إدراك هذا الفهم والمعنى، يجب عليهم ألا يكتفوا في أي وقت على الإطلاق بالعبودية التي يضطلع بها كل واحد منهم باعتباره فردًا من أفراد “هل من مزيد؟”، وعليهم السعي دائمًا إلى إعلاء هممهم كي يستطيعوا إدراك الاستقامة، ذلك أن الله تعالى بشر عباده السائرين على درب الاستقامة قائلًا ﴿وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا﴾ (سورة الْجِنِّ: 72/16) وزيادة في توضيح معنى الآية يمكننا القول إنكم “إن تركضوا في إثر الاستقامة، وتتبعوا الاستقامة، وتكونوا في قلب الاستقامة فإنني أُغرقكم في النعم”.
لا يمكن أن يصل إلى الهدف المرجو من لم يستقيموا كالألِفِ، ومن يتلوون دائمًا، ويتخبطون هنا وهناك..
وفي هذا الصدد يجب على المؤمنين التفكير بتعمق وتفحّص حول الاستقامة، تُرى ما هو معيار الاستقامة؟ ما الذي يطلبه الله تعالى منّا بقوله “استقم”؟ أيّ نوع من أداء العبودية يطلب منا؟ لا شك أن السبيل إلى فهم هذا وتطبيقه يتأتى من اتباع النهج المقدس للأنبياء، كان يجب على الأقوام السابقين أن يتبعوا الرسلَ التي أُرسِلَت إليهم حتى يتسنى لهم أن يعيشوا حياتهم في إطار الاستقامة، والطريقُ الوحيد الذي تستطيع الأمة المحمدية من خلاله تحقيق الاستقامة هو اتباع سيدنا رسول الله صاحب مقام الجمع، الذي جمع في ذاته حقائق جميع الأنبياء، ومن هذه الزاوية إن كنا نرغب في أن نحيا حياة مستقيمة مثل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب علينا أن نتبع سنته، ونسير على نهجه، إن استطعنا النجاح في فعل هذا، ولم نفقد استقامتنا يحسن الله تعالى علينا ببركات من الأرض والسماء.
ولو أن قومًا حادوا عن الصواب وضيعوا استقامتهم فإن النعم التي منَّ الله تعالى عليهم بها قد تكون ابتلاء لإغرائهم، والنعم التي أمطرهم الله بها من رؤوسهم حتى أخمص أقدامهم ربما تكون سببًا لعجرفتهم، كما أن الثروات التي يمتلكونها، والمناصب التي يشغلونها، والإمكانيات التي لديهم؛ ربما تضلهم وتغويهم فيزدادوا فسادًا يومًا بعد يوم، ويأتي يوم يسوي فيه الله تعالى هؤلاء القوم الظالمين بالتراب كما ورد في الآية الكريمة: ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (سورة الأَنْعَامِ: 6/45) أي إن كل واحدة من النعم التي نالها هؤلاء الأشخاص تصير مكرًا إلهيًّا، واستدراجًا لهم.
لا يمكن لمن لم يحققوا الاستقامة أن يكونوا مقنعين في نظر الآخرين؛ فمن يتحركون هكذا يومًا، وهكذا يومًا آخر لا يبشّرون الآخرين بالثقة، حتى وإن كان الواحد منهم يتحلّى بأرقى مشاعرِ التضحية.
أجل، إن الهدف الأهم الذي يلزم الإنسان أن يدركه هو الاستقامة، أي مسألة أن تكون على طريق النبي أو لا تكون! ليس ممكنًا أن يصل أي شخص إلى مستوى الأنبياء، ولكن المهم هو السعي إلى الوصول إليه، والعمل على التحلي بصفاتهم وسماتهم عليهم الصلاة والسلام.
يمكن القول إن أساس الإسلام هو الاستقامة، ولهذا السبب فإننا يوميًّا نطلب الاستقامة من الله تعالى في صلواتنا بدعائنا إياه أن ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ (سورة الفَاتِحَةِ: 1/6)، أي إننا نسأل الله تعالى كلَّ يومٍ أربعين مرة على أقل تقدير وندعوه ألا نقعَ في إفراطٍ ولا تفريط، وأن نحيا على الاستقامة دون انزلاقٍ إلى الكسل والجمود، وإن قول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم للصحابي الذي طلب منه النصيحة “قُلْ رَبِّيَ اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقِمْ“[4] ليبين مدى أهمية الاستقامة، لهذا السبب فإن الواجب علينا هو ألا نكتفي بطلبنا الاستقامة قولًا أربعين مرة في اليوم، بل أن نركض وراءها، ونتحرّى الطرق التي تقودنا إلى تحقيقها، ونعزم ونجتهد أن نعيش حياة مستقيمة ما حيينا.
استخدام كل عضو في ما خُلِقَ من أجله
وكي يحقق الإنسان الاستقامة عليه أن يستخدم كلَّ عضوٍ من أعضاء بدنه باتجاه الغاية من خلقه، فقد منَّ الله تعالى على الإنسان بيدين ورجلين وعينين وأذنين ولسانٍ وشفتين؛ كلٌّ منها نعمة كبيرة، والمرءُ في معظم الأحيان لا يدرك قيمتها الحقيقية وأنَّ كلَّ واحدة منها نعمة عظيمة بالنسبة له إلا حين يُحرم منها ويفقدها، والآيات الكريمة ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ ۞ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ ۞ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ (سورة البَلَدِ: 90/8-10) تُذَكِّرُ الإنسان بقيمة هذه النعم، وتدفعه إلى التأمل والتفكر والتدبر والشكر.
إن الواجب على الإنسان في هذه الحالة ألا يدنس عينيه بالنظر إلى الخطايا والمحرمات، وأذنيه بسماع ما لا يليق ولا يصح من الأقوال، ولسانه بالغيبة والنميمة والكذب والافتراء، وألا يجدع يديه بمدهما إلى الحرام، ورجليه بالمشي إلى المحرمات والخطيئة، وقد بين القرآن الكريم ما هي الأفعال السلبية المسماة بالذنوب والمحرمات والمنكرات والفواحش بيانًا واضحًا وصريحًا، والواجب على المؤمن هو أن يستخدم كل عضو من أعضاء جسده وحواسه في دائرة الحلال وفي اتجاه الغاية من خلقه، وإلا فإن أعضاءه تلك سوف تشهد عليه في الآخرة كما أشارت إلى ذلك الآية الكريمة ﴿حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (سورة فُصِّلَتْ: 41/20).
أجل، الأساس هو استخدام كل عضو في اتجاه الغاية من خلقه، فمثلًا وظيفةُ العين هي قراءةُ كتاب الكون قراءةً صحيحة، وتحليل الحوادث التي فيه والعثور بهذه الطريقة على السبل التي توصل إلى الذات الإلهية، فإن استخدم الإنسان عينيه في النظر إلى الآثام فإن هذه العين ستتكلم في الآخرة أمام الله تعالى “إلهي! إن عبدك هذا خالف أمر الآية الكريمة ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾ (سورة النُّورِ: 24/30)، وتَحَرَّك على خلاف الحكمة من خلقي”، وستشكو من صاحبها، لأن العين التي تلوثت بالنظر إلى الآثام في الدنيا وعميت معنويًّا يكون أفق نظرها الخاص بالآخرة قد ضاق، وسُلب من يدها نصيبُها وحظُّها في الآخرة، وعينٌ هكذا يستحيل أن ترى مظاهر الجمال الخاصة بالعالم الآخر مناسبةً لإمكانياتها التي تمتلكها.
والأمر نفسه ينطبق على الأعضاء الأخرى؛ فالحكمة من خلق الأذن هي الإصغاء إلى كلام الله، وبيان رسول الله وكلام الأشخاص العظام الذين يستمدون الإلهام من هذه المصادر المقدسة، فإن تلوَّثت الأذن بلوث اللغو واللهو بدلًا من ذلك لم تستطع سماع المحاسن التي تُسمَع في الآخرة؛ ذلك لأنها ستحرم من قدراتها الكامنة فيها، ومن يدري كم يكون جميلًا سماع إحدى كلمات النبي أو كلام صحابي في الآخرة! ولا سيما سماع ولو حتى كلمة واحدة من الحق تعالى، إن ذلك يُكسِب الإنسان نشوة وفرحة يكاد يغيب فيها عن وعيه، إلا أن أذنًا تلوثت بالخطايا والذنوب في الدنيا يستحيل أن تسمع هذه المحاسن.
يمكن القول إن أساس الإسلام هو الاستقامة، ولهذا السبب فإننا يوميًّا نطلب الاستقامة من الله تعالى في صلواتنا بدعائنا إياه أن ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾
والأمر بالمثل بالنسبة للسان الذي يتلوث بالذنوب والخطايا كالكذب والغيبة والافتراء فليس ممكنًا أن يستجيب لهذه الكلمات المباركة، كذلك الرِّجلُ التي تركض وراء الحرام في الدنيا، وتذهب إلى أماكن يجب ألا تذهب إليها تُسلب القدرة على المسير الخاص بالآخرة، فإذا كان الإنسان قد لوث هنا أعضاءه التي يمتلكها، وحطمها وكسرها فإن هذه الأشياء المحطمة لن تحقق له فائدة في الآخرة، لذلك فإن الله الذي سيُنطق كل شيء في الآخرة سينطق هذه الأعضاء أيضًا، وستشهد هي أيضًا -حفظنا الله- على صاحبها.
ولن يُمنح هؤلاء حقَّ الاعتراض والطعن على شهادة أعضائهم بحقهم، ذلك أن الحق تعالى يقول ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (سورة يس: 36/65) وعلى حد التعبير القرآني فإن الأفواه ستحاول -في الآخرة- أن تجد أعذارًا لها كما يفعل البعض هنا في الدنيا فيقولون ﴿رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا﴾ (سورة الأَعْرَافِ: 7/38)، و﴿رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا﴾ (سورة الأَحْزَابِ: 33/67)، من المحتمل أن الله سيختم على تلك الأفواه ولن يسمح لها بالحديث نظرًا لأنها ستحاول أن تجادل بالباطل هكذا، وبعد أن تصمت الأفواه ستبدأ الأعضاء الأخرى تتحدث عن الأخطاء والذنوب المرتكبة.
الطريقُ الوحيد الذي تستطيع الأمة المحمدية من خلاله تحقيق الاستقامة هو اتباع سيدنا رسول الله صاحب مقام الجمع.
أجل، إن بعض الأخطاء والذنوب التي في هذه الدنيا سترتد في الآخرة على صاحبها بشكل مختلف جدًّا لا نستطيع تحديد ماهيته، ومن هذه الزاوية فعلى الإنسان أن يقوم هنا بأعمال صالحة، ويستخدم كل عضو من أعضائه في مكانه السليم الصحيح بحيث إنَّ تلك الأعمال حين ترتد عليه في الآخرة تسره وتسعده، وتمنحه جناحين فتجعله يطوف بهما في ربوع الجنة، وبدلًا من أن يُعطِّل أعضاءه بالذنوب، ويُذهِب قابلياتها ينبغي له أن يطورها أكثر باستخدامها في إطار الغرض من خلقها، والسبيل إلى هذا هو عدمُ الحياد عن الصوابِ والاستقامةُ مدى الحياة، وعدمُ الانحراف عن المسار والصراط المستقيم إلى طرق متعرجة.
طريقُ مَن نذروا أنفسَهم لله
ومع ذلك فإن الحفاظ على الاستقامة ليس بهذا القدر من السهولة؛ فحياة معظم الناس مليئة بالمنعطفات والمنحنيات، ترون أن بعض الناس يشبهون الملائكة إلى حد ما، وتكونون وكأنكم تحسون أنفاس جبريل في أنفاسهم، لكنهم إن يعجزوا عن جعل الصواب فطرة فيهم، ويحاولوا الظهور أمام الناس بشكل مختلف من خلال تصرفات مصطنعة فإن شخصيتهم الحقيقية ومع أول ضغطٍ يُمارَسُ عليها سرعان ما تظهر على حقيقتها، فوضعُ هؤلاء الأشخاص يُشبه العقرب الذي لدغ رجلًا أنقذه من الغرق وساعده في العبور من الماء، فلما سأله الرجل: لماذا لدغتني وقد أنقذتك!؟ أجاب العقربُ: “ماذا عساي أن أفعل! فهذا طبعي!”، وعليه فإنَّ المهم هو أن يثبُت الإنسان على الخير والجمال.
يجب على المؤمنين ألا يكتفوا في أي وقت على الإطلاق بالعبودية التي يضطلع بها كل واحد منهم باعتباره فردًا من أفراد “هل من مزيد؟”
لا يمكن لمن لم يحققوا الاستقامة أن يكونوا مقنعين في نظر الآخرين؛ فمن يتحركون هكذا يومًا، وهكذا يومًا آخر لا يبشّرون الآخرين بالثقة، حتى وإن كان الواحد منهم يتحلّى بأرقى مشاعرِ التضحية، وعلى استعداد لبذل كل أنواع الفداء في سبيل إقامة صَرحِ روحه، ويتمتّع بمشاعر الاستغناء غير منتظرٍ شيئًا على الإطلاق من أي أحد؛ فإنه يستحيل أن يكونوا مقنعين ما لم يجعلوا وضعهم ذلك صفة لازمة فيهم، وما لم يتخلوا عن التخبط والتغيُّر.
إن من يتفحصون نبض المؤمن يجب ألا يشاهدوا أيّ اضطراب فيه على الإطلاق، إن مخاطبيكم يصدقونكم إذا ما تفحصوا نبضكم بضع سنين ووجدوه يعمل بانتظامٍ وعلى شاكلة واحدة، وعليه فإن للاستقامة أهمية حياتية بالنسبة لمن نذروا أنفسهم ممن يعملون في فعاليات التبليغ والإرشاد.
لقد اُختُبر الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون مرات عديدة حتى اليوم إلا أنهم لم يتبدلوا أو ينحرفوا قط، وهذا هو سبب تقدير الله تعالى وتبجيله إياهم، لقد حافظوا على استقامتهم دائمًا في أيام العسرة التي تعرضوا فيها للمصائب والبلاء، وفي أيام الرخاء التي أدركوا فيها النعم والآلاء على حد سواء، فلم يجعلهم وابلُ النعم التي أُمطرت عليهم متعجرفين، ولا دفعهم حرمانُهم من بعض الأشياء إلى السش ر للتشكي والتذمر، لقد نجحوا في الصمود والاستقامة والشموخ مثل الألف دائمًا، ولهذا السبب استطاعوا أن يكونوا أسوة حسنة لمن جاء من بعدهم.
ليس ممكنًا أن يصل أي شخص إلى مستوى الأنبياء، ولكن المهم هو السعي إلى الوصول إليه، والعمل على التحلي بصفاتهم وسماتهم عليهم الصلاة والسلام.
أجل، لا يمكن أن يصل إلى الهدف المرجو من لم يستقيموا كالألِفِ، ومن يتلوون دائمًا، ويتخبطون هنا وهناك.. إن آلية السلوك من أقصر الطرق وأسرعها تكمن في القدرة على السير إلى الأمام مباشرة دون الانحراف يمنةً أو يسرةً، فإنْ كان كل واحد منكم يريد أن يكون عبدًا مخلصًا صادقًا أمام الله تعالى، ومرشدًا موثوقًا به في نظر الناس فعليه ألا يحيد عن الاستقامة، وأن يفكر بشكل صحيح دائمًا، ويتحدث صدقًا دومًا، ويركض في إثر الحق والصواب، يجب ألا تجعلنا ننحرف ونحيد عن الاستقامة مفاتنُ الدنيا التي تؤثر في رغباتنا وأهوائنا، ولا المناصب والمواقع ولا الضغوط والمظالم التي نتعرض لها؛ فجهدُ الإنسان وسعيُه في هذا الصدد يُسجَّلُ في قائمة سِجِلّ عباداته.
إن القرآن الكريم يبين لنا مدى أهمية الثبات بهذا الدعاء ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/8) الذي يعلمنا إياه، ذلك أن الكثيرين من أمثال “بلعم بن باعوراء” أو “برصيصا” الذي تميز بعلمه وعبادته -حسبما ذُكر في المناقب- علقوا بالسنارة التي ألقاها أو الشبكة التي رماها الشيطان الغَدَّار، وصاروا فريسة له.
ليس مهمًّا أن تُعرِض الدنيا عنا، وليس مهمًّا أن تهرب منا وتولي عنا، بل يجب على طالبي الآخرة ألا يهتموا بالدنيا ولا بما هو على شاكلتها، ومن نذروا أنفسهم لإقامة صرح أرواحهم يجب عليهم ألا يركضوا خلف أي شيء سوى رضا الله تعالى.
[1] الطبراني: المعجم الكبير، 17/286.
[2] البيهقي: شعب الإيمان، 4/82.
[3] صحيح البخاري، التهجد، 16؛ صحيح مسلم، صلاة المنافقين، 81.
[4] سنن الترمذي، الزهد، 61؛ سنن ابن ماجه، الفتن، 12.