كل دعوة ناجحة تحتاج إلى مؤمنين، تلامس بشاشتها شغاف قلوبهم، ويحملونها على أكتافهم، ويبلغونها إلى الناس. وهي لن تؤتي ثمارها إلا إذا كان التجرد ـ فكراً وقولاً وعلماً وعملاًـ سمة رئيسة فيهم. فبتنزه الداعي عن حطام الدنيا تعلو مكانته، ويعظم قدره، ويُعرف إخلاصه، ولذلك أثره وتأثيره.
العاملون في حقل الدعوة
منهم من يعمل ابتغاء دنيا عاجلة، ومثوبة حاضرة (مال يجمع، أو ذكر يرفع، أو جاه يُسمع الخ). الذين يركضون وراء الدنيا.. ستكون عاقبتهم وخيمةً”. وهناك صنف يريد الآخرة، فينهض في دعوته وخدمته راجياً مثوبة الله تعالي وحده. ويرتقى، فيرى أن كل ما سوى الله باطل، وكل ما عداه زائل. وقسم ثالث يريد الجمع بين هذه وتلك، وقلما يستقيم له الأمر. فالمقطوع به أن من أراد الدنيا وحدها خسر الآخرة، ومن أراد الآخرة حازهما معاً.
“عندما يتنزه الداعي عن حطام الدنيا تعلو مكانته، ويعظم قدره، ويُعرف إخلاصه، ويتزايد أثره وتأثيره”
الأسوة الحسنة
يضرب القرآن الكريم المثل بأنبياء كرام ـ نوح، وهود، وصالح، وشعيب، ولوط عليهم السلام ـ قالوا لأقوامهم: ﴿إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ﴾. كما عبر ذات المعني إبراهيم وموسى عليهما السلام، والرجل الصالح في سورة “يس”: ﴿يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ، اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ (سُورَةُ يس: 36/20-21). فالأنبياء العظام لا يسألون الناس أجراُ مقابل وظيفتهم الدعوية والرسالية.
الدعاة، و”أبناء الخدمة”، أبطال لا يطلبون الدنيا”.. أنموذج لإخلاص الوجه لله، والاستقامة، والشكر، والصبر، والزهد، والعطاء، والتجرد.
وعلى كل مَنْ أَخَذَ على عاتقه مهمّة الدعوة ونشرِ الحقّ الاقتداءُ بالأنبياء العظام، وعلى كلّ مَن يقوم بالخِدمة من أجل الله سائحًا في القُرى والبُلْدان الترفع عن قَبول أيِّ أجرٍ أو منفعةٍ مقابلَ خدماته في نشر الحقّ؛ لأن تأثير كلامِهِ على الناس في يدِ الله تعالى، وقد رُبطَ هذا التأثيرَ بنسبة الإخلاص والصِدق والاستغناء وإيثار الغير”.
“على كل مَنْ أَخَذَ على عاتقه مهمّة الدعوة ونشرِ الحقّ الاقتداءُ بالأنبياء العظام، وعلى كلّ مَن يقوم بالخِدمة سائحًا في القُرى والبُلْدان الترفع عن قَبول أيِّ أجرٍ أو منفعةٍ مقابلَ خدماته في نشر الحقّ”
أثر التجرد لله
التجرد.. دليل صدق الإيمان، وشارة الإخلاص، وصفاء العمل، وإحسان الدعوة، وكفاءة الخدمة. قد تجد واعظًا في مسجد أو زاوية ما، يبتغي وجه الله فقط، ذا صوت ضعيف لكنه يؤثر في سامعيه تأثيرًا بيّنًا، فتأثيرُه متوقِّفٌ على مدى استغنائِهِ عن الناس عند قيامه بنشر الحقّ. وهذا التجرد مرتبة سامقة، لا يتسنى بلوغها إلا بمجاهدة، وافتقار إلي الله. فلا ينالها نهمْة لا يشبعون، أو مسرفون لا يتعففون، بل هي لمن ألزم نفسه إتقان الطاعات، وألجمها عن الشهوات، وصرفها عن الشبهات: “كم يتمنى القلبُ ألّا يلتفتَ إلى الدنيا ومتاعِها. فعلي القائمينَ بالدعوة إلى الله.. المحافظة على أنفسهم وصونها من كل دَنَسٍ وشائبة، وجعلهم الاستغناء شعاراُ..”.
“التجرد.. دليل صدق الإيمان، وشارة الإخلاص، وصفاء العمل، وإحسان الدعوة، وكفاءة الخدمة”
صدقوا الله فصدقهم
لا أحدَ من العظماء امتلك بيتًا أو متاعًا دنيويًّا. وادلف إلى الروضة الشريفة تجد بابًا يدعى بابَ عمر، فأين البيت الذي بقي من عمر وما أدراك ما عمر!؟”. وعندما حضرت الوفاة “خالد بن الوليد”، رضي الله عنه، قال: “لم أُخَلِّفْ ورائي سوى جوادي وسيفي”. وعلي الدعاة تأمين قوتَ عيالهم كيلا يُلجِئونهم إلى السؤال، وتعلّميهم ليكونوا أصحابَ مهنةٍ أو وظيفة… وهذه الأمّة أمة غيورة، فلن تدع العاملين المخلصين وحدَهم، بل ستعاونهم وتساعدهم”. والخلاصة: الدعاة، و”أبناء الخدمة”، أبطال لا يطلبون الدنيا”.. أنموذج لإخلاص الوجه لله، والاستقامة، والشكر، والصبر، والزهد، والعطاء، والتجرد. إنهم يخدمون غيرهم، وينكرون ذواتهم.. طاقة بناء، ودفقات عطاء. لقد “تجردوا” للدعوة والخدمة، وانبعاثهم الحضاري مرهون بتجردهم.
——————————
المصدر: محمد فتح الله كولن:”الاستقامة في العمل والدعوة”، سلسلة أسئلة العصر المحيّرة (3)، ترجمة: أورخان محمد علي – د. عبد الله محمد عنتر، دار النيل للطباعة والنشر، ط1، 2015، ص: 9-13، بتصرف.
ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.