إن المؤرخين المعاصرين كانوا ينكرون وجود ثمود، ولكن الحفريات والبحوث التي أجراها علماء الآثار أخيرًا أسفرت عن وجود قوم يسمَّون “ثمود” أو “تمود”، وقد عاشوا قبل عصور طويلة، وهؤلاء هم قوم صالح (ثمود) الذين تَحدَّثَ عنهم القرآن الكريم؛ فآثارهم التي خلَّفوها مِن ورائهم تروي لنا الكثير والكثير من أحوالهم وأخبارهم وأطوارهم ونمط عيشهم.
طبائع قوم ثمود
فآثارهم تلك إنما هي ترجمان جليّ البيان لطبائعهم وأقدارهم، فهي تعبّر عنهم بلسان فصيح من كل جوانبهم؛ بدءًا من طريقة تفكيرهم، وعقليتهم في نظرتهم للحياة، وصولًا إلى أسلوبهم الفني ومستواهم الحضاري… ومع أن التاريخ البشري لا يقدِّم لنا معلوماتٍ قطعية واضحة حول المرحلة الزمنية التي عاشوا فيها ومدةِ حكمهم وكيفية غيابهم عن مسرح التاريخ، إلا أن القرآن يفك لنا رموز “ثمود” بأدقِّ سِماتهم وخصائصهم المميِّزة والمشخِّصة، ويَعرضُها أمام الأنظار، حيث يقول:
كان قوم ثمود ينحتون الأحجار بعقلية فنية ماهرة، فيبنون البيوت والقصور والصروح. هذه القوة البدنية قد طَوَّرت فيهم توهُّم الأبدية والخلود إلى حد كبير.
﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ*وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (سورة الشُّعَرَاءِ: 26/141-145).
ثمود بين الإنذار والإنكار
إن الدعوة هي هي كما كانت من قبلُ؛ الدعوة إلى الحقّ وإلى الله وإلى الإيمان بـالبعث بعد الموت والحشر والحساب، والإيمان بكتب الله.. ولكن ثمود مثل أسلافهم، لم يقابِلوا كل هذا إلا بالرد والإنكار، ومع ذلك استمر سيدنا صالح ينبّههم وينذرهم دون كلل أو ملل:
السدود التي أنشأها قوم ثمود لِريِّ أراضيهم وفق التقنيات الحديثة لأيامنا هذه، من المواضيع التي تستحقّ بحثًا مستقلًّا.
﴿أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِين*َ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ* وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ * فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ﴾ (سورة الشُّعَرَاءِ: 26/146-150).
حديث القرآن عن ثمود
نعم، كما هو عهدُ القرآن فيما سبق، فهو يأخذ -على لسان نبيٍ صالح- بتلابيب ثمود، ويهزّهم هزًّا ويقول لهم: هل تحسبون أنكم ستُخَلَّدون على هواكم في هذه الدنيا التي تعيشون فيها فرحِين فخورين؟! وهل تظنون أنكم ستخلدون عند العيون الجارية المتدفّقة، وبين بلابل غنّاء تصدح عذب ألحانها المتنوّع في كل حين.
توافق القرآن والتاريخ البشري
وبما أننا نشرح هذا الموضوع فتعالوا بنا لنرى كيف يتطابق القرآن مع المعلومات التاريخية حول هذه المنطقة؛ فـالمؤرخ “إسماعيل حامي دانِشمند (Danismend)” (ت: 1967م) الذي ألَّف كتابًا حول التسلسل التاريخي للدولة العثمانية، كان ينوي أن يؤلف كتابًا آخر حول التاريخ الإسلامي وفقًا للتسلسل الزمني، ولكنه بعد أن كتب المقدمة لم يواصل الكتابة.. ففي هذه المقدمة، أثناء حديثه عن جزيرة العرب يسهب بالكلام حول صنعاء.. وعلى حسب ما يذكره هذا المؤلف، فقد كان الرجل يسافر من صنعاء إلى الشام في جوٍّ تصل درجة حرارته إلى o60 درجة مئوية، ولكنه كان يستطيع قطع كل هذه المسافات والمراحل من دون أن تصيب الشمس هامته؛ حيث كان يتنقل تحت ظلال الأشجار والحدائق إلى أن يصل إلى الشام.
وإنه لذو مغزى عظيم أن يتحدث هذا المؤرخ عن الحدائق والبساتين في منطقة حوَّلتها ستون درجة من الحرارة إلى صحراء قاحلة، مع أنه ليس من الممكن في أيامنا هذه أن يرى الإنسان في هذه المناطق، إلا فلاة مترامية الأطراف، وعواصفَ صحراوية، وأشلاءَ ميتة عفنة… وهذا يعني أن علم التاريخ وعلم الآثار يسيران جنبًا إلى جنب مع القرآن في الحديث عن الأمور نفسها.
حضارة قوم ثمود
ومن جانب آخر، يَجري الحديث عما بَنَتْهُ ثمود من السدود، وهذا من المواضيع التي تستحق التركيز عليها.. والأخبارُ التي هي من قبيل الإسرائليات تتحدث عن هذا الموضوع؛ فسدُّ “العرم” أو -حسب التعبير القرآني-: “إِرَم” من أهم الأمور التي احتفظَتْ بها ذاكرةُ التاريخ.
ثمود مثل أسلافهم، قابلوا دعوة نبيهم بالرد والإنكار، ومع ذلك استمر سيدنا صالح ينبّههم وينذرهم دون كلل أو ملل.
نعم، إن السدود التي أنشأها هؤلاء لِريِّ أراضيهم وفق التقنيات الحديثة لأيامنا هذه، لهي من المواضيع التي تستحقّ بحثًا مستقلًّا.
وحينما يتحدّث التاريخ القديم عن هذا السدِّ المشهور، يَنقُل لنا أنه كان له ثلاثة منافذ على مراحل متتالية.. فيبدو أن المياه كانت تأتي من مختلف الأودية والأنهار، فتجتمع في هذه السدود أوَّلًا، ومن بعد ذلك كان المنفذ الأول يُفتح لسقي الأراضي، فيُملأ منه حوض موجود في الأمام، وينقَل منه الماء إلى الأراضي التي يراد سقيها.. فإذا نفِد الماء في الحوض الأمامي فُتح المنفذ الثاني، وهكذا كان الماء يُستعمل من دون هدر ولا إسراف.. ولكننا لا نرى هذه التفاصيل بشكل مباشر، لا في القرآن ولا في السنة، بل هي موجودة في الأخبار والنقول من الإسرائيليات.. فقد تكون هذه التفاصيل صحيحة وقد تكون خاطئة، ولكن ما أستطيع أن أقوله هو: أننا نشاهد مطابَقَتَها لما يرسمه القرآن من الحياة المدنية والحضارية لتلك الحقبة.
طغيان الحياة المترفة
نعم، إن ثمود كانوا يظنون أنهم سيخلدون في جِنان إرم وحدائقها الخضراء، فجاء سيدنا صالح وحاول أن ينبّههم من تلك الغفلة، فقال لهم: هل تظنون أنكم ستعيشون مخلدين في هذا العالم، تحت وارف النخيل، وبين الحدائق والجنان المثمرة، وفي تلك الأراضي التي تسافرون فيها من اليمن إلى الشام دون أن تَضرب الشمسُ هاماتِكم.
أجل، إنه يمكن العثور على هذه التنبيهات في سور مختلفة من القرآن الكريم، ولكن ثمود لم يُعِيروا سمعًا لذلك، ولم يستمعوا لسيدنا صالح على الرغم من أنه قد بيَّن لهم كل ذلك بإخلاص وجدية.
يفك لنا القرآن الكريم رموز قوم “ثمود” بأدقِّ سِماتهم وخصائصهم المميِّزة والمشخِّصة، ويَعرضُها أمام الأنظار.
ثم يتحدث القرآن عن جانب آخر من طبائع ثمود الذين كانوا يواصلون حياتهم في الخط الممتد من اليمن إلى الشام، فيؤكِّد أنهم كانوا حريصين على إشباع رغباتهم البدنية ويبحثون عن تلبية رغباتهم.. وبقوله تعالى: ﴿وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ﴾ (سورة الشُّعَرَاءِ: 26/149) يَلفت الأنظارَ إلى جانب آخر لهم؛ حيث إنهم، على غرار ما نشاهده في تركيا في منطقة “كورَمه-قبادوقيا” كانوا ينحتون الأحجار بعقلية فنية ماهرة، فيبنون البيوت والقصور والصروح.. فهذا الجانب منهم –سواء قلنا: إنه الطاقة الفنية أو اعتبرناه القوة البدنية- قد طَوَّر فيهم توهُّم الأبدية والخلود إلى حد كبير.. وكان هذا الشعور يمنّيهم بآمال لا تنتهي.. فعمليات الحفر والتنقيب الرسميةُ تدل دلالة واضحة على مشاعرِ هؤلاء وأشواقِهم وطبائعهم، وتُبرز للعيان كيف أنهم نحتوا الصخور ونقشوا عليها بدقّة فائقة بدافع من توقٍ عارم وحرص شديد نحو الأبدية والخلود.
الابتلاء بالناقة
نعم، إن ثمود على غرار الأقوام الآخرين قد أبرزوا طبيعةً خاصةً بهم.. وما كان ابتلاؤهم بناقة خرجت من الصخور التي ينحتونها، ثم عَقرُهم لها، ونزولُ بعض المصائب عليهم، وأخيرًا هلاكُهم ودمارهم إلا مشهدًا صغيرًا من قصة حياتهم.. والقرآن يلخّص هذه الأمور بقوله: ﴿قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ﴾ (سورة هُودٍ: 11/62).
ونحن حينما نجمع بين هذه الآية والآيات الأخرى التي تتعلّق بالموضوع يمْكننا أن نستخلص منها أنهم قالوا: “يا صالح، إنك كنت قبل هذا عاقلًا، وكانت لنا فيك آمال وكنا ننتظر منك تحقيق بعض الأمور، وكنا نعلم أنك رجل ذو عقل ودراية، لكنك اليوم تريد أن تَحُول بيننا وبين عبادة الأوثان التي كان آباؤنا يعبدونها، فما أنت بالذي كنا نراه لآمالنا”.
لم يُقدِّم لنا التاريخ البشري معلوماتٍ قطعية واضحة حول المرحلة الزمنية التي عاش فيها قوم ثمود ومدةِ حكمهم وكيفية غيابهم عن مسرح التاريخ.
فهذا النوع من الجواب منهم كان ينمُّ عن نوع آخر مما هم فيه من الخواء والفراغ؛ حيث إن هذا يعني أن عبادة الأوثان قد رسخت فيهم وضَربت بجذورها في أعماقهم، وأصبحت دينهم الذي لا يبدلونه،وهذه الأجوبةُ سبق وأن قوبل بها أيضًا رسولنا صلى الله عليه وسلم..
ويُمْكِن أن نستفيد من كل ما سبق أن الكفر في عهد سيدنا صالح قد أصبح ذا قواعد ومعادلات، ووُضعت له قوانين، وصار نظامًا لا يمكن التخلي عنه ولا يجوز تخطّي حدوده؛ بمعنى أن الكفر بكل أنواعه قد أصبح مسيطرًا على الساحة وتحوَّل إلى قيم اجتماعية تحت مسميات وعناوين مختلفة.
وتمام القصة مشهور ومعلوم؛ فهناك معارضة القوم للمعجزة، وعقْرُهم للناقة التي كان قد أُخِذَ عليهم العهدُ على أن لا يمسوها بسوء، ونزولُ الغضب الإلهي عليهم، وكان عاقبة أمرهم زوالهم من الوجود.. فحينما نطالع كل هذه الأمور في القرآن نكون كأننا نشاهد قوم صالح وهم يمرون مِن أَمامِ أنظارنا بجميع رموزهم في مشهد رسمي يعكس سجاياهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: فتح الله كولن، البيان الخالد: لسان الغيب في عالم الشهادة، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ1، 2017م، صـ134/ 135/ 136/ 137/ 138.
ملحوظة: عنوان المقال، والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.