عندما تلوح علامات الفجر في الأفق صباح يوم العيد تبدأ جميع المشاعر والأحاسيس التي هاجت في عرفات بالانسياب إلى مزدلفة بعد أن تكون قد تضاعفت، تنساب مختلطة بأصوات أنين وبكاء مع ابيضاض وجه السماء بعد الفجر… توجّهٌ إلى الله تعالى خارج أوقات الصلوات وتوجّهٌ نحوه في الصلوات… أما الأدعية المنسابة إلى الصلوات والموجودة فيها والتي تعد بعدا من أبعاد القرب من الله تعالى فتأخذ عمقا متميزا آخر.
العيد
كأن هذه الأدعية ملابس من حرير تحيط بأجسادنا، أو أيادٍ سماوية تضيء آمالنا، وتمنح السلوان لآلامنا، أو كأنها ماء ينـزل بردا وسلاما على صدورنا التي تلتهب فيها النيران، أو كأنها صوت أذان يسـمعنا الحقيقة الكبرى فيرسل الرعشة إلى قلوبنا… وأحياناً تقوم بجمع أشتات دنيانا السابقة، وتلم أجزاءها المتناثرة، وتسمعنا من المعاني عن حقيقة أنفسنا وجوهرها وعن خلودنا ودنيانا وعُقبانا ما يجعلنا نكتشف أنفسنا من جديد، ونتعرف على حقيقة ذواتنا، وننظر إلى الدنيا نظرة اعتبار ومن زاوية جديدة، ونشعر بقرب من دار العقبى، ونراها أكثر صفاء وأشد وضوحاً.
إن الأدعية كأنها ملابس من حرير تحيط بأجسادنا، أو أيادٍ سماوية تضيء آمالنا، أو كأنها صوت أذان يسـمعنا الحقيقة الكبرى فيرسل الرعشة إلى قلوبنا…
تستمر هذه التضرعات والتوسلات حتى شروق الشمس وظهورها في الأفق معلنة عن ميلاد يوم جديد. أما الجباه التي بقيت سـاجدة حتى ذلك الحين فإنها في أثناء شروق الشمس تبدو وكأنها تشد الرحال من جديد لبلوغ قُرب آخر، وتبدأ برحلتها. أما الآن فأمامنا “مِنًى” التي أتيناها سابقا وسلمنا على وِديانها واديا واديا… مِنًى التي يلجم فيها أصحاب الأرواح الصافية منطقهم، ويعطون زمامهم بيـد الروح… مِنًى التي يبدي فيها الواصلون إلى مرتبة التسليم انقيادَهم… مِنًى التي لجمت عقول ومنطق آلاف بل مئات الآلاف من الناس منذ عهد آدم عليه السلام إلى إبراهيم عليه السلام، ومنه إلى سـيد المرسلين r، وربطت تقييمهم للأمور ووزنهم لها بالقلب… وأخيرا وبعد هذا كله فمِنًى هي المكان الذي تأخذ فيها النفس نصيبها بعد رجم الشيطان، وفيها يتم التمثيل الجماعي لموضوع التعبد الذي يعد أساس العبودية.
وما أكثر ما يتم عمله هناك بجانب رمي الجمرات؛ تقديم الأضاحي والحلق وتبديل ملابس الإحرام ثم أداء فرض الطواف الذي يتم في جو من مشاعر روحية عالية… هذا هو بعض ما يؤدى هنا.
يقوم الحاج منذ مغادرته بيته وطوال طريـق رحلته بالتحلل من جميع أنانياته، الواحدة منها تلو الأخرى. أما من ناحية حياتـه القلبية والروحية فيتكامل ويتزين مثل قطعة مزينة من الحرير.
يقوم الحاج منذ مغادرته بيته وطوال طريـق رحلته بالتحلل من جميع أنانياته، الواحدة منها تلو الأخرى. أما من ناحية حياتـه القلبية والروحية فيتكامل ويتزين مثل قطعة مزينة من الحرير. أجل!.. إن الإنسـان وهو في رحلته النورانية هذه يتعرف على أقدم الحقائـق التي لا تبلى أبدا، وعلى الحقائق الأزلية التي تبقى نضرة على الدوام، ويمتزج معها. يصل هناك إلى أحوال لن ينساها أبدا. أما بالنسبة لمن يدرك حقيقة وكنه ما يؤديه في هذه الرحلة الأرضية/السـماوية، والألطاف الإلهية المعنويـة التي تنهمر عليه، والذكريات التي يحصل عليها، فإنه يكسب عمقا قلبيا وارتباطا أقوى بالدار الآخرة. وتظل ألوان السماء، وأصوات الحجيج تملأ مخيلتنا، وتلف أرواحنا، وتشخص أمام أعين أرواحنا طوال أعمارنا.
لا يمكن ذكر أي مكان آخر غير الكعبة وما يحيط بها، لـه نفس الجاذبية والسحر، وإن كان هذا مشوبا بشيء من الحزن. ففي حرمها يشاهد الإنس
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: ترانيم روح وأشجان قلب، فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة ، الطبعة الرابعة، ٢٠١0، ص: 76
ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.