من الواجب علينا بدلا من تهيئة الأجواء والمناخ لإشباع الغرائز باللذائذ واللهويات لمن لم تنضبط قدراتهم الروحية بعدُ.. علينا أن نزيد من نشاطاتٍ تُكسبهم القوة والمناعة لمواجهة المعضلات التي قد تواجههم في الحاضر والمستقبل، ونضعَ في الأساس توجيههم نحو التفكير الشمولي الذي ينمي لديهم موهبة اختيار الخير والجميل والصحيح.. وبذلك تتهيأ الأجواء لإمكانية ترجيح الأفراد للخيار الأفضل والأنفعِ بفضل التوجيه الإجباري-الاختياري للجو العام، والانسياقِ وراء التيار الجماهيري، إلى جانب مساندة العلوم والمعارف…
إذا بقينا على تخبطنا الذي عرفناه أمس واليوم في التزود والتغذي من مصادرِ ثقافةِ الآخرين، وانغرزنا في التقليد كلما فكرنا في الإنشاء، فلن تنجو الأمة من ذلة التبعية
وهكذا، بفضل التمسك بالقواعد نوعا ما، وبفضل التوجيه الاختياري أو الجبري للبنيان الاجتماعي سيصبح مركزُ التقاء “الأخلاقية” و”العلمية” و”الذوق الفني” مغذيا لأسلوب حياتنا، وماكنةً ساحبةً لتحركاتنا وانطلاقاتنا، فتجعلنا ننهل على التوالى لذائذَ نشوات الظفر في ميدان الخير والجمال والصحيح… ومن المهم هنا أيضا، كيفية التفسير والتعقل لـ”تصور” الأخلاق والإيمان والفن ومفهوم الجمال. إن حصر الأخلاق في تطبيق بعضِ قواعدَ صارمةٍ.. وفهمَ الإيمان على أنه تصديقٌ أعمى لا يحسب حسابًا للعقل والمشاهدة والحس والوجدان.. وتفسيرَ الجمال بأنه التقاط لمحة من منظر الأشياء وصبُّها في لوحات عارية وتماثيل جامدة.. وحبسَ الفن في أطر محددة كالشعر والموسيقى والمسرح.. كل ذلك لا يعني إلا حبس الجمال وثقافةِ الجمال في مساحة ضيقة وجعْلَها ضحلة وترفا لبعضهم.
العودة إلى الذات بأفق جديد
إن انبعاثنا مجددًا بثقافتنا الذاتية يتطلب رجالَ قلوبٍ متحفزين بالإيمان، ومهندسي فكرٍ سائحين في الغد بأفقهم الفكري، وعباقرةً يحتضنون الوجود والأحداث بتصوراتهم الفنية، ويتعرفون بتحسساتهم وتفحصاتهم الدقيقة على آفاق جديدة أبعدَ من الآفاق التي نحن فيها ، وإن انفتاح العديد من عشاق الجمال نحو آفاق جمالية جديدة وتفسيراتِهم الجديدةَ لها.. والهممَ العالية التي تستحق التقدير للفنانين المهرة في الفنون وتلاميذِهم المجدين.. وألحانَ ذوي الأصوات الذين يبذلون قصارى جهودهم لترجع موسيقانا إلى روحها الأصلية، ومخزونَهم الثري.. والجهود التي يبذلها الشعراء الفطاحل والناثرون عشاق اللسان في سبيل تخطي مرحلة التقليد حيث بدؤوا يتشممون الذوق الأدبي.. كل ذلك تبدو لنا وكأنها أمارات بزوغ فجر صادق في طريق عودتنا إلى الذات. فإن يكن شعاعاتِ فجرٍ كاذبٍ، فلا ريب أن ما يعقبه هو الفجرُ الصادق!
علينا أن نبدأ من فورنا بشحن أجيالنا الناشئة بشعائرِ ثقافتنا الذاتية، ونبادر بإحياء ما شحنَّاه في النفوس، وإلا سوف نَحكم على الآتين مِن بعدنا بأن يكابدوا حظنا العاثر في الحياة.
التحرر من التبعية
إذا سرنا على هذا الخط سوف تكون ثقافتنا الرصينة، وجذورُنا المعنوية والروحية، وشخصيتنا ومحتوانا، جزءًا لا يُستغنى عنه من الثقافة العالمية حينما يأتي الوقت المناسب. أما إذا بقينا على تخبطنا الذي عرفناه أمس واليومَ في التزود والتغذي من مصادرِ ثقافةِ الآخرين، وانغرزنا في التقليد كلما فكرنا في الإنشاء، فلن تنجو الأمة من ذلة التبعية، ولن نتحرر من الوصاية في الشعر والموسيقى والرسم وفروع الفنون الأخرى، ولن نتمكن من إدامة وجودنا بذاتيتنا الخاصة، ولن نفلح في الوصول إلى درجة الإنتاج والعطاء.
نعم، إن لم نبدأ من فورنا بشحن أجيالنا الناشئة بشعائرِ ثقافتنا الذاتية، ولم نبادر بإحياء ما شحنَّاه في النفوس، فسوف نَحكم على الآتين مِن بعدنا بأن يكابدوا حظنا العاثر في الحياة. فينبغي أن يُستنفَر كلُّ مَن له قول في الموضوع، ومهندسو عالمنا الفكري خاصة، بروحية النفير العام إزاء خَطب داهِمٍ، ويحوِّلوا البلاد من أدناها إلى أقصاها إلى مشاغل لثقافتنا الذاتية، ومدارسَ لفلسفة حياتنا الذاتية، ومختبراتِ تركيبٍ وتحليل لمنطقنا ومحاكمتنا العقلية الذاتيتين؛ فإن بقاءنا بذاتيتنا يمر عبر انبعاثنا بذاتيتنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: فتح الله كولن، ونحن نبني حضارتنا، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة ، الطبعة الثانية، ٢٠١2، ص: 33
ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.