يرشدنا القرآن الكريم في كثير من آياته البينات إلى هذه الطريق ويدلنا على أن المعقولية هي تعلق الفكر وانشداده باللانهاية: ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ﴾(ق:6-11)، فيلفت النظر إلى السموات وإلى الأرض وإلى الرزق، ويدعونا إلى التعقل والتفكر والتعمق في الإيمان والإثراء في المعرفة، ويؤكد مرارًا على أهمية المحسوسات، ويدعونا دائمًا إلى استطلاع الأرض التي نعيش عليها: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾(الحج:46). والقرآن هنا يومئ إلى أصل الحرمان والخسران وإلى أنه في القلوب التي عميت بصيرتُها. وهو يوبخ مرارًا من لا يستعمل عقله وبصيرته حين يمر من غير تحقيق وتدبر بآيات الأرض والسماء، وكذلك ينبه إلى أهمية “النية” و”النظر”، وأن الرؤية المجردة لا تجدي شيئا: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾(يوسف:105).
إن من يعجز عن النفوذ إلى بواطن الوجود والحوادث ويبقى خارجها، ليس في الطريق العقلي، وكذلك من لا يستمع إلى القرآن ولا ينصت إليه ولا يستمرئه ليس مستفيدًا من أنوار العقل استفادة كاملةً.
أوجه المعقولية في القرآن
والقرآن الكريم أنموذج فريد للمعقولية من أوجه كثيرة تجتمع كلها فيه. فهو -مع حثه على استطلاع كتاب الكائنات- أنموذجٌ بمتانةِ تقديمِه للقضايا الكبرى وإثراء الفكر بمحتواه، وإحاطةِ رسالته، وسحرِ ألفاظه، وتأثيرِ أسلوبه، ووقْعِ صدقيته… نعم، إن مستنَد القرآن هو الوحي، لكن طريقه لا يغادر فَلَك العقل. فهو يَطرق باب المخاطَبين مسجِّلاً ومُثْبِتًا كل مَعانيه ومفاهيمه لدى العقل والمنطق والتفكير، ويمضي إلى القلوب بأسلوب يحفّز الانتباه، وينطق كابحًا اعتراض العقل والحس والشعور، ويروِّض المتتلْمذين عليه دوما بالمعقولية… فالقرآن الكريم يستند إلى الوحي ويتعامل مع البشر في سفح المعقول في كل الأمور… والأمر سواءٌ؛ في تقديمه مئات المسائل المتشابكة بتناغم وتجانس لا يُدرَك شأوه حتى في تحليل المسألة الجزئية، أو في صفاءِ وخلوصِ وتأثيرِ كل تذكرة ومعنى من معانيه، وكذا في الارتقاء بالقلوب المستعدة للإيمان إلى الاطمئنان، أو في إقناع الأرواح المترددة.
إن القرآن الكريم أنموذج فريد للمعقولية من أوجه كثيرة تجتمع كلها فيه. فهو -مع حثه على استطلاع كتاب الكائنات- أنموذجٌ بمتانةِ تقديمِه للقضايا الكبرى وإثراء الفكر بمحتواه، وإحاطةِ رسالته، وسحرِ ألفاظه، وتأثيرِ أسلوبه، ووقْعِ صدقيته
فنقول من هذه الوجهة: إن مستطلعي الأشياء والحوادث القادرين على قراءتها، والمسنِدين إياها -من ثم- إلى التوحيد، هم في طريق المعقول… وكذلك الذين يستمعون إلى القرآن الكريم وينصتون إليه ويستمرئونه يُعَدّون في الطريق العقلي. وبالمقابل، من يعجز عن النفوذ إلى بواطن الوجود والحوادث ويبقى خارجها، فليس في الطريق العقلي، وكذلك من لا يستمع إلى القرآن ولا ينصت إليه ولا يستمرئه فليس مستفيدًا من أنوار العقل استفادة كاملةً.
صور للمعقول واللامعقول
نعم، المعقول: هو قراءة الوجود والأشياء، والتفكيرُ بها وتقويمها… ومن بَعدِ التقويم ربطُها بوشائج الإيمان والمعرفة والخالق. واللامعقولُ: هو إسناد كل شيء من الأشياء وكلِّ حادثة من الحوادث إلى الأسباب المختلفة أو الطبيعة أو أمور أخرى… المعقول: هو استغناء الخالق وجودًا وتوحيدًا عن الشريك والنظير والمُعين ، وغيرُ المعقول: هو فكر الشرك والإلحاد بصوره وأشكاله كافة… المعقول: هو ضرورة الأنبياء والرسل المرسَلين من الله إلى البشر لشرح الأشياء والحوادث وتفسيرِ الوجود وربطِه بالحقيقة المفردة؛ وغير المعقول: هو رد النبوة والرسالات الإلهية…
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: فتح الله كولن، ونحن نبني حضارتنا، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة ، الطبعة الثانية، ٢٠١2، ص: 71
ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.