لم نعرف حتى اليوم أيديولوجية نجحت في جمع البشر في ظلها زمنا طويلاً، بل ولا أيديولوجية اكتَشفت كلَّ الضرورات اللازمة التي يتطلبها جمع البشر تحت سقف واحد. ومع الادعاءات الباهرة، لم تستطع الدولُ الغربية التي هيمنت على قسم واسع من الأرض في التاريخ القريب أن تُحقق الأمان والحبور الدائم للعالم، ولا الشعوبُ الاشتراكية والشيوعية في الشرق، ولا “المحايدون” الذين يستوي وجودهم وعدم وجودهم.
الناس يتوجهون الآن بشكل أساسي إلى الأفكار بدلا من الأشخاص، فإن وُفِّقْنا في وضع استراتيجيات متماسكة ذات أهداف سامية، فسوف يجتمع الجمهور الأعظم من الإنسانية حولها.
وإن هذا الإخفاق في تحقيق تلك الوعود زعزع أركان الثقة لدى المتلقي، بالإضافة إلى أنَّ عَجْز الحلول المطروحة عن احتضان البشرية كلها، ومخالفتَها للطبيعة الإنسانية قد أوقع الجميع في أزمةِ انعدامِ الثقة، فلذلك تقف الإنسانية اليوم مع كل نظامٍ يُعرض عليها موقفَ الشك والقلق والاستهزاء؛ لأنها باتت تعتقد أن الأنظمة التي فُرضت عليها حتى اليوم لم تَعمل كما ينبغي، بل عجزت عن العمل، وبالتالي هناك خلل في الأنظمة كلها!. وهذا يَقتلع بعض المحاسن التي غرستها تلك الأنظمة، فلا يُبقيها في ذاكرة البشر إلا خيالاً بائسًا ورؤى خائبة.
علل الأيديولوجيات
وكما أنَّ نقص قطعة صغيرة في نظام ميكانيكي متكاملٍ، يعطل عملَ النظام كله، فكذلك هذه الأيديولوجيات؛ رغم ادعاءاتها المبهرة، لكنها كانت عليلة بعلل وبيلة؛ مثل التصادم مع الطبيعة البشرية، والعجزِ عن احتضان الفئات كلها، والقصورِ في إنجاز وعودها، والضعفِ في الاستجابة للحاجات الإنسانية؛ والأنكأ إغفالُها مجموعة من القيم الإنسانية، بل تأجيج بعضِها مشاعرَ الحقد والبغض والغيظ بين البشر… فذلك كلُّه قوَّض أركانَ الأيديولوجيات كلها فخلفتْ خرائبَ وأنقاضا فكرية، أو قُلْ: هكذا حَدْسُ المجتمعات وظنُّها. ولذلك يمكن القول بأن الجميع اليومَ -إلا شرذمة قليلة- في حالةِ تزعزُعٍ وخيبةِ أمل وترقبٍ مريب وبحثٍ عن مَخرج خارق للأسباب.
المخرج السامي
بناء على ذلك، فإن أمتنا أولا ، ثم الإنسانية جمعاء، بحاجة ماسة إلى فكر سام يقوي إراداتنا، ويبعث الأمل في قلوبنا، ولا يعرِّضنا للخيبة مرة أخرى. أجل، نحن بحاجة شديدة إلى أفكار وغايات سامية، ليس فيها فجوات عقلية أو منطقية أو عاطفية، وتكون منغلقة تجاه السلبيات التي ذكرناها آنفًا، وصالحةً للتطبيق كلما سمحت الظروف.
إخفاق الأيديولوجيات في احتضان البشرية كلها، ومخالفتَها للطبيعة الإنسانية زعزع ثقة المتلقي فيها
إننا نشهد مرحلة يتغير فيها مركز العوالم الفكرية في الأرض، وبدأ الناس يتوجهون بشكل أساسي ودائمي إلى الأفكار بدلا من الأشخاص، واضطر البشر بعد التجارب الفاشلة إلى المبالغة في التمحيص. فإن وُفِّقْنا في استثمار هذا الوضع العام باستراتيجيات متماسكة ومنسجمة، ونظَّمنا التحفز المعنوي الموجود في المجتمع والنشاطَ الفعال المتراكم فيه منذ عصور، حول هدف سامٍ، فلسوف يجتمع الجمهور الأعظم من الإنسانية -ولو بنسبة معينة- حول هذا المركز الجاذب، إن لم يكن من يومه، ففي القابل القريب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: فتح الله كولن، ونحن نبني حضارتنا، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طــــ2، ٢٠١2، ص : 36،37.
ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.