تكلمتم في مناسبات عديدة عن أهمية معايشة الحياة بفهمٍ وإدراكٍ ووعي وإمعان نظر، فما معنى هذا؟
الجواب: من الأهمية بمكان أن يُحسِن الإنسان قراءة لغة الحوادث والأشياء التي تحيط بحياته، وأن يفكر في الآيات الكامنة في الآفاق والأنفس، وأن يغذِّي حصيلة معارفه باستمرار، بغض النظر عن الاسم الذي يمكن أن يُطلق على هذه العملية.. فما من إنسانٍ يدقّق النظر في حياته كلَّ يوم، ويزيد من حصيلة معارفه بكل ما هو جديد إلا ويوسِّع من باقاته المعرفية ومحبته وشوقه؛ لأن الإنسان إذا غذَّى حصيلةَ معارفِه باستمرار تعمّق في المعرفة مع الوقت، وألهب هذا التعمق محبته، وبالتالي يزداد شوقه للوصال مع ربه سبحانه وتعالى، وكل هذه أرصدة مهمّة بالنسبة للمؤمن من أجل الفوز بالحياة الأبدية.
يجب على الإنسان أن يقوم بعمل إحصائية جادة لسلوكه وتصرفاته، ويفكر في مقدمات هذه السلوكيات والتصرفات ونتائجها، وإيجابياتها وسلبياتها.
التفكّر في الآفاق والأنفس
إذا نظرنا إلى بنية الإنسان -ولو بنظرة سطحيّة- وتفكّرنا في آفاقه الأنفسيّة؛ فستَنْفَتِحُ مداركُنا على أشياء كثيرة؛ ومثالُ ذلك: وضعُ العين والأنف وسائرِ الأعضاء الأخرى، كلٍّ في مكانه المناسب، وقيام كُلِّ عضو بوظيفته المتوقعة منه على أكمل وجه، وتنظيم الأنشطة التي تقوم بها هذه الأعضاء بلا قصور كالتنفس والأكل والكلام، فضلًا عن الأنشطة الفسيولوجية الأخرى مثل تنفيذ الأوامر والإشارات بين المخ والأعصاب والأعضاء بشكلٍ سريع ومتناغم للغاية؛ كل هذا يكفينا لندرك كيف أن هذا المجهول الذي يطلق عليه الإنسان مزود بجاهزية رائعة وعجيبة.
إن نجاحَ الإنسان كما أنه مرهونٌ بعدمِ تراخيه وسرعتِه في إنجاز الأعمال الواجبة عليه باستخدامه قوَّتَهُ حتى نهايتها؛ فإنه مرهونٌ أيضًا وبالقدر ذاته بأن يعيش حياته بشكل منظّم ومنهجيّ.
وكذلك لو فكّرنا في خلق الكائنات والموجودات بشكلٍ يتواءم تمامًا مع أفكار الإنسان وآماله واحتياجاته، وفي ذلك التواؤم الكامل بين كل كائن في الكون وبين المخلوقات الأخرى المرتبطة به، والروعةِ التي خُلِقت عليها هذه الكائنات بحساب دقيق يَبُزُّ قوانينَ الاحتمالات، وتجهيزِ الإنسان بإمكانياتٍ وخصائصَ وقدراتٍ تؤهّله أن يكون فهرسًا ومثالًا مصغَّرًا للكون؛ لقادَنا كلُّ هذا بالضرورة إلى أن وراء هذا النظام وذلك التناغم ناظمًا حكيمًا.
ولكن مع الأسف بات البعضُ لا يقدر على قراءة هذه الآيات البيِّنات، فَحَصَرَ حياتَه في الدنيا فقط، وراح يعيش حياة اعتياديّة بلا معنى ولا وعيٍ، بل صار يتصرف وكأنه لن يموت أبدًا، انطلاقًا من شعوره بتوهّم الأبدية الناشئ عن طول الأمل، ولا جرم أن هؤلاء سيرحلون مع أوزارهم كما رحل غيرهم، ومن جميلِ حكمتِه جل شأنه أنه يبتليهم أحيانًا ببعض الأمراض والبلايا والمصائب التي تنفّرهم من الحياة وتسبِّب لهم متاعبَ وآلامًا؛ حتى يكسر فيهم هذه المشاعر السلبية، ويُوقظهم من غفلتهم، ويدفعهم إلى محاسبة أنفسهم مرة أخرى.
إن كنا نريد أن نعيش حياتنا متفحّصين إيّاها وشاعرين بها ومفكّرين فيها يجب أن نبرمِجها من جديد، ونربطَها بنظامٍ جادّ.
بيد أن الحياة ليست شيئًا متراكمًا ومكدّسًا بعضُه فوق بعضٍ هكذا اعتباطًا ودون معنى، بل هي نعمةٌ إلهية عظيمة علينا أن نعيشها حِسًّا وشعورًا ومعرفةً، وذلك من خلال إخضاعها لدراسة وتحليل جدّيّيْن، وعلينا أن نضع كلَّ شيء في مكانه الصحيح، فبها يتميز الإنسان عن سائر المخلوقات، وبفضلها يكتسب الإنسان أفضلية حتى على الملائكة والروحانيين، فالحيوانات ليس عندها إدراك للزمان، وتتحرّك وفق غرائزها، وأما الملائكة والروحانيون فيعيشون فيما فوق حدود الزمان، ولذا يمكن القول إن الإنسان والسلوكيات الإنسانية هي مظروف حقيقي للزمان، بناء عليه فإن الحياةَ دون علمٍ بهذا كلّه لا تُعَدّ حياةً في الحقيقة.
بل يجب على الإنسان أن يركِّز على الجهة الخاصة بعالم الملكوت إلى جانب عالم الملك، وأن يحاول فهم نفسه، وأن يفكر في روحه، وينظر في علاقته بربه سبحانه وتعالى، وأن يضع في اعتباره أن هناك مَن هُم أكثر منه عقلًا وذكاءً ما زالوا تائهين في أودية الكفر والضلال، وأن يشكر ربه على إيمانه الذي أنعم عليه به، فثمة أناسٌ يحملون منطقًا ومحاكمةً عقليّةً أعمق منّا، لكنهم للأسف لم يستغلوا هذه النِّعمَ التي خصّهم الله بها، فلم يستطيعوا التعرّف على مفخرة الإنسانية سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يَقُدْهم ذلك إلى الاستفادة من القرآن الكريم، وعليه فإن التفكير في هذا كلِّه سيثير مشاعرَ الشكر لدى الإنسان، وسيساعده على انتهاز الفرص واستغلال الإمكانيات التي بحوزته بما يمكن أن يعود عليه بالنفع الأكبر.
يجب علينا التزام اليقين التام بأن الله سبحانه وتعالى ليس بظلّامٍ للعبيد، وأنه لا يفعل شيئًا عبثًا.
والخلاصة أنه يجب على الإنسان أن يُطَـــرِّزَ حياتَه كلَّها بنسيج التدبُّر والتفكُّر والتذكُّر، وإذا ما أراد أن يحصل على نقشٍ جميلٍ ونتيجةٍ ذات مغزى فعليه أن يعتنيَ بحركةِ الإبرة بينما يزخرف بها ويطرّز، ولا سبيل إلى ذلك إلا بأخذ الحياة التي يعيشها على محمل الجدّ. أجل، يجب على الإنسان أن يَعِيَ علاقَتَه مع ذاته مادّيًّا ومعنويًّا، وأن يَعِيَ علاقتَه مع الحوادث والأشياء أيضًا؛ وبتعبير آخر: يجب على الإنسان -رغم جِرْمِهِ الصغير- أن يحسن دراسة العلاقة بينه وبين الذات العليّة المقدّسة المنزهة عن الجوهر والعرض من ناحيةٍ، ويدرسَ ويدقِّقَ النظرَ في الحوادث المتعلقة بنفسه من ناحية أخرى.
مشاعر التوكل لا تعني التعبير عن العجز، وإنما هي تعبيرٌ عن الاستناد إلى مصدر القوة والقدرة الحقيقي.
ولقد كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على وعي بهذه الحقيقة فأراد أن يخلّف قدوةً حسنة لأمته، وأن يرى ويسمع أشياء جميلة فيما حوله، فاهتمّ بكلِّ شيء، ودقق النظر فيه، واستنبط من أسماء الجبال والأودية التي كانت تقابله في أسفاره معانيَ جميلة، وتفاءل ببعض الأحداث التي وقعت حوله، وحينما كان يمرّ مع أصحابه على بعض الأماكن التي هلكت فيها الأمم السابقة كان يحثّهم على السرعة في المسير، كما أنه غيَّر بعضَ الأسماء التي تنبئ عن معانٍ سيّئة، واستبدلَها بأسماء ذات دلالة إيجابية، ولو نظرنا إلى كتب الأحاديث والسيرة فسنجد أنه صلى الله عليه وسلم قد غيّر أسماءَ العديد من صحابته، وسمّاهم بأسماء جميلة، وهذه الأحداث وغيرها تدل على دقّة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، وتُبيّن أنه كان مرهفَ الحسِّ إزاء الأحداث الواقعة من حوله.
الجانب الملكوتي للأشياء
من المعلوم لدينا أنه ما من شيءٍ في هذا الكون يقع عبثًا أو على سبيل الصدفة؛ إذ كلُّ شيءٍ يجري في إطار برنامجٍ وخطة محددة، لذا فعلينا أن نستوعب هذه الحقيقة جيّدًا، وأن نعالج ما قد يختلط منها في الأذهان، حتى إنه لا يصحّ أن ننسب إلى الصدفة حتى عدم القدرة على تمرير الخيط من الإبرة أو سقوط الإبرة من أيدينا أثناء فعل ذلك، فما من شيء في الكون يقع صدفةً ألبتّة، ولو استشعرنا هذه الحقيقة وفطنَّاها بإيمان عميق فسنرتقي في مدارج التعرف على خلفية الحوادث الواقعة وحِكَمها.
ينبغي أن تقرّبنا الابتلاءات التي نتعرض إليها إلى الله أكثر وتجعلنا أكثر لجوءًا إليه، وبذلك يكفّر الله تعالى ذنوبَنا بمثل هذه العقوبات الصغيرة ولن يُبقِيها إلى الآخرة.
أجل، ثمة معانٍ تشير إليها الأحداث من حولنا، فمثلًا قد نتصبّبُ عرقًا ونحن نتكلّم في مكان ما ونشعر بالملل والاضطراب، أو يقع من أيدينا كوب ماء خطأً أو نتعثر عند سيرنا، فيجب آنذاك أن نفكر في دلالة هذه الأحداث بالنسبة لنا، وفيما اقترفَتْه أيدينا من ذنوبٍ جعلَتْنا نقع في مثل هذه العثرات؛ لأن المصيبة التي تحلّ بنا وفقًا للمعنى الذي ذكرَتْه الآية الكريمة ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ (سورة الشُّورَى: 42/30)، هي بمنزلة قلنسوة حِكْناها بأيدينا ووضعناها على رؤوسنا، وكأنه سبحانه وتعالى يقول: إنكم لو نَظَرْتم إلى ظاهر هذه الأحداث فحسْب أو عَزَوتموها إلى بعض الأسباب الظاهرية ليس إلا؛ فستضيقون بذلك من إطار المسألة، علمًا بأنكم عندما توسِّعون نظرتَكم إلى هذه الأحداث فإنه يسهُل عليكم استقراء الكثير من المعاني الكامنة فيما وراء هذه الأسباب المادّية.
فمثلًا قد يؤلمكم موضع في جسدكم فتلجؤون إلى بعض السبل للتداوي وتنسبون الأمر إلى الأسباب الظاهرية، والحال أنه لا حرج في ذلك، بل إنه يقع على عاتقنا المحافظة على نعمة الصحة التي وهبها الله لنا، إلا أنه من الخطأ الاقتصار على ذلك فقط وتجاهلُ وجودِ مسبّب الأسباب سبحانه وتعالى وراء مثل هذه المعاناة والأزمات؛ لأن هذه المصائب قد تكون ناشئةً عن بعض العثرات والانحرافات التي وقعنا فيها، وقد تكون إشاراتٍ لتفعيل شعور الاستغفار لدينا، فما علينا إلا قراءة هذه الإشارات بشكلٍ صحيح، والتوجه إلى الله بالاستغفار والتوبة، فإن تجاهَلْنا هذا الأمر تعرّضْنا لمصائب أكثر فداحة.
يجب علينا أن نعتبر كل أزمة نتعرض لها -صغيرة كانت أو كبيرة-قطرة مطر تنزل علينا من سحائب رحمة الحق تعالى.
يجب علينا أن نعتبر كل أزمة نتعرض لها -صغيرة كانت أو كبيرة- قطرة مطر تنزل علينا من سحائب رحمة الحق تعالى. فينبغي أن تقرّبنا الابتلاءات التي نتعرض إليها إلى الله أكثر وتجعلنا أكثر لجوءًا إليه، وبذلك يكفّر الله تعالى ذنوبَنا بمثل هذه العقوبات الصغيرة ولن يُبقِيها إلى الآخرة، علمًا بأنّها لو بقيت إلى الآخرة لكان عقابُها هناك أكبر بكثير، ومن ثمَّ فعند تدقيق النظر في المسألة من هذه الناحية يمكن رؤية تجلّيات رحمة الله تعالى في باطن حوادث عديدة يبدو ظاهرُها مؤلمًا ومريرًا.
وبقدر ما تُمنَحُ الحياةُ عنايةً وتفحّصًا لكل صغيرة وكبيرة؛ بقدر ما يتمكن صاحبها من رؤية المنافذ المنفرجة من العالم المادّي الذي يحياه، ومن هنا يستطيع أن يشاهد بعضَ الحقائق الخاصة بعوالم الملكوت، ويرى يقينًا بأنه ليسَ متروكًا وحيدًا، ويشعر دائمًا بأنّ قوّة الله تعالى وقدرتَه وعنايتَه ورعايتَه تحيط به من كلّ حدَبٍ وصوب، ويشاهد في الوقت عينه كلَّ أزمة يعيشُها تحذيرًا وتنبيهًا له؛ فيستفيد منها باعتبارها فرصةً للتعافي والنجاة من التشتت والفرقة.
يجب على الإنسان أن يركِّز على الجهة الخاصة بعالم الملكوت إلى جانب عالم الملك، وأن يحاول فهم نفسه، وأن يفكر في روحه، وينظر في علاقته بربه سبحانه وتعالى.
ومن جانب آخر إنّ الإنسان عندما يتناول الأحداث التي يتعرّض لها بنظرةٍ مدقّقةٍ متفحّصة ويرى الأسباب الحقيقية التي وراءَها يستطيع أن يتخلّص من الوقوع في خطأ إرجاع التأثير الحقيقي في الأشياء إلى الأسباب. وهذا هو طريق الوصول إلى أفق التسليم والتوكل، وحينها يَترك الأثقال التي يحملها على ظهره في السفينة التي يسيح داخلَها، ويُصبح هذا المبدأُ -في جانب منه-وسيلةَ بلوغٍ إلى المعية الإلهية، وأداةَ حصولٍ على قوّة خارقةٍ يستطيع أصحابها أن يغيّروا تغييرَ مدار الكرة الأرضية.. وبالتالي فإن مشاعر التوكل لا تعني التعبير عن العجز، وإنما هي تعبيرٌ عن الاستناد إلى مصدر القوة والقدرة الحقيقي.. وهنا يلزم التأكيد على أن كلّ كلامنا هذا لا علاقة له بنفي الإرادة أو بتجاهل الأسباب.
لكنه ربما لا يستطيع الجميعُ فهْمَ ذلك نظرًا لأن مثل هذه الأمور ليست مادّيّة مرئية.. فهذه المسألة مرتبطة بعض الشيء بالتعمق في التوحيد، والإيمانِ التام والقاطع بأن زمامَ كلّ شيء في يد الله تعالى، فمَن يُؤمن بأن كلّ الحوادث تجري وفقًا لمقتضى إرادة الله تعالى وعلمه المحيطين، ويعيشُ حياته مدقّقًا فيها يصل إلى حقائق شتى وعديدة تتعلق بحياته الشخصية وبالأوامر التكوينية والتشريعية على حد سواء، ويستطيع مشاهدةَ الحوادث واضحة جليّة.
الحياة نعمةٌ إلهية عظيمة علينا أن نعيشها حِسًّا وشعورًا ومعرفةً، وذلك من خلال إخضاعها لدراسة وتحليل جدّيّيْن.
إلا أنه يتعذر علينا أحيانًا فَهْمُ الحِكَمِ الخفية للأحداث التي تقع من حولنا فهمًا تامًّا، وبالتالي لا نستطيع رؤية التجليات الإلهية الكامنة فيها، ولا ندرك نوعيَّة النتائج الجميلة التي تخفيها لنا، وفي مثل هذه المواقف يجب علينا التزام اليقين التام بأن الله سبحانه وتعالى ليس بظلّامٍ للعبيد، وأنه لا يفعل شيئًا عبثًا.
حياة منتظمة ومنهجية ومتوازنة
إلا أن تحول عصرنا إلى عصر السرعة ومواصلة الناس في عصرنا حياتهم ومعيشتهم في دوامة الكد والسعي، ومحاولتهم الدائمة من أجل الوصول إلى مواقع أو أشياء معينة يتسبب -للأسف- في فقدانِهم كثيرًا من هذه المعاني، ولهذا السبب فإن كنا نريد أن نعيش حياتنا متفحّصين إيّاها وشاعرين بها ومفكّرين فيها يجب أن نبرمِجها من جديد، ونربطَها بنظامٍ جادّ.
إننا إن أردنا أن نجعل السرعة والحركة تجريان لصالحنا فعلينا أن نقسم أعمالنا فيما بيننا، وأن نفعّل دستور التعاون، وننظم ساعات عملنا تنظيمًا جيّدًا، ونرتب الوظائف الواجبة علينا وفقًا لخطة معينة، ونبذل لها أعلى معدّلات التركيز.
مع الأسف بات البعضُ لا يقدر على قراءة الآيات البيِّنات، فَحَصَرَ حياتَه في الدنيا فقط، وراح يعيش حياة اعتياديّة بلا معنى ولا وعيٍ، بل صار يتصرف وكأنه لن يموت أبدًا.
أي إن نجاحَ الإنسان كما أنه مرهونٌ بعدمِ تراخيه وسرعتِه في إنجاز الأعمال الواجبة عليه باستخدامه قوَّتَهُ حتى نهايتها؛ فإنه مرهونٌ أيضًا وبالقدر ذاته بأن يعيش حياته بشكل منظّم ومنهجيّ.. ومن المفيد هنا إدراك جزءٍ من حكمة فرض الصلوات الخمس؛ إذ إنها تقسِّم اليوم إلى خمسة أقسام فتُعلِّم المسلمين تنظيم أوقاتهم وما يجب أن تكون عليه حياتُهم من التنظيم والتخطيط.
فإن لم ينتبه الإنسان لهذا فقد ينسحق شيئًا فشيئًا بين تروس الأحداث دون أن يُدرك، حتى وإن ركض فرارًا منها كما يركض الكحيلان.. ويمكن للأعمال المُباشرَة أن ترهقه وتضجره؛ فيتعذّر عليه التفكير بصورة صحيحة في المشاكل التي تواجهه، وكذلك يستحيل عليه اتخاذ قرارات صائبة بشأنها.. وهذا يحولُ دون الحصول على نتيجة وثمرة من تلك الأعمال.. وبالتالي يُخفق فيما يوكَل إليه من أعمال، والأمرُّ من ذلك أنه ربما ينهار بعد مدة ويتعثر في الطريق، وعليه فإن كنّا نرغب في استثمار الحياة على أفضل نحوٍ والحصول منها على أفضل النتائج فنحن مضطرون إلى العمل والحركة ضمن أُطُرِ النظام والمنهج، ومثل هذا النمط من السعي والحركة سيكون أكثر بركةً بالنسبة من قطع الطريق بسرعة تفوق ذلك بعشرة أضعاف.
الإنسان إذا غذَّى حصيلةَ معارفِه باستمرار تعمّق في المعرفة مع الوقت، وألهب هذا التعمق محبته، وبالتالي يزداد شوقه للوصال مع ربه سبحانه وتعالى.
وهناك عامل آخر يُعتبَر من أهم العوامل لِعَيشِ الحياة بتفحصٍ واستغلالها بصورة مثمرة، ألا وهو التوازن، فلا بدّ من توفّر نظام دقيق وانتظامٍ كامل في جميع الشؤون التي تُؤتَى بدءًا من تناول الطعام حتى النوم، ومن العمل حتى العبادة، ويجب ألا يَمنعَ أيٌّ من هذه الآخرَ، ولا يُستغنى بأحدهم عن الآخر؛ فيجب ألا تُهمل حاجاتنا البدنية ولا عوائلُنا، وألا يقعَ إخلالٌ بمسؤولياتنا تجاه المجتمع، وتجاه الله تعالى.. يجب الوفاء بشتى هذه الوظائف في إطار توازنٍ دقيق، وإعطاءُ كلِّ ذي حقّ حقّه، وحسب قول الله تعالى ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ﴾ (سورة الشَّرْحِ: 94/7) يجب علينا إذا ما تعبنا من عملٍ معيّن أن نتوجه إلى آخر، وهكذا فإذا ما أردنا أن نستريح من عملٍ ما علينا أن نكون على رأس عملٍ آخر، وفي ظل هذا يُمكن إنجاز أعمال عديدة معًا، ودون تأخير أي منها.
إن العيش وفقًا لمنهج وبرنامج محدد يمثل في الوقت عينه ضرورة من ضروريات التحلّي بالأخلاق الإلهية؛ لأن الله تعالى حين خلق الكون خلقه وفقًا لخطة وبرنامج معين نسميه نحن القَدَر؛ فجميع الموجودات التي في الكون بدءًا من أفعال الإنسان مثل رؤيته وسمعه وحديثه حتى حركات المجرات والسدم تتحرك في إطار توافق ونظام محدد وفقًا لبرنامج علمي وضعه الله تعالى في محيط علمه، ولما كان الله تعالى يطلب من عباده أن يتحلّوا بالأخلاق الإلهية فقد وجب عليهم أن يتحركوا وفقًا لبرنامجه القدري.
من الأهمية بمكان أن يُحسِن الإنسان قراءة لغة الحوادث والأشياء التي تحيط بحياته، وأن يفكر في الآيات الكامنة في الآفاق والأنفس، وأن يغذِّي حصيلة معارفه باستمرار
ناهيك عن أننا لا نستطيع إنشاء مبنى عادي دون مخطط؛ حيث إننا نفحص التربة قبل البدء في المبنى، وفي الوقت نفسه نضع في حساباتنا الزلازل المحتملة، فندعم المبنى بأساساتٍ مقاوِمة، وبالشكل عينه فإننا حين نُقبلُ على زرع الحقول نزرعها وفقًا لبعض الحسابات حتى ولو كان المطلوب أمرًا بسيطًا مثل بذر الحبوب، فمثلًا ننظر إن كانت الأرض خصبة أم لا، ونبحث إن كانت إمكانات الري كافية أم لا، ونراجع اتجاهات الرياح ونأخذ بعين الاعتبار تأثير أشعّة الشمس، فإن كانت مثل هذه الأعمال الجزئية تخضع لمجموعة من الحسابات الجادة فيستحيل القبول بأن الإنسان يحيا حياة عشوائية ودون تبصُّر..
نعم، يجب على الإنسان أن يقوم بعمل إحصائية جادة لسلوكه وتصرفاته، ويفكر في مقدمات هذه السلوكيات والتصرفات ونتائجها، وإيجابياتها وسلبياتها.