سؤال: يُلاحظ أن وسائل الإعلام في وقتنا الحاضر قد تسبّبت في وجود العديد من السلبيات نتيجةَ إخلالها بالقواعد الأخلاقية، فإذا كان هذا هو الوضع القائم فما الواجبات التي تقع على عاتق وسائل الإعلام برأيكم؟
الجواب: عند النظر إلى أحوال الناس وسلوكياتهم اليوم فإننا نلاحظ فسادًا كبيرًا وعِلَلًا وأسقامًا كثيرةً تنخر في صحة المجتمع، وتُشير إلى هذا تلك الزيادةُ الخطيرة في تناول العقاقير المضادة للاكتئاب في السنوات الأخيرة، حتى إنها بلغت عشرة بالمائة؛ وهذا يعني أن العديد من الناس يعيشون تحت ضغط واكتئاب كبيرين، بل إن هناك الكثير من الناس الذين تبدو صحتهم على ما يرام ولا توجد أدنى احتمالية لإصابتهم بأي مرض نفسي عند النظر إليهم في الظاهر، إلا أنهم يتناولون مثل هذه العقاقير، ولولاها لما استطاعوا أن يكونوا متّزنين، ولأضرّوا بأنفسهم والآخرين.
الذنبُ ذنبٌ، ولكن سحقَ الناسِ بسبب هذا الذنب وتعريضَهم للخزي والهوان ذنبٌ أكبر.
ولو جئنا بأناس عاشوا في عهودٍ مختلفة وشاهدوا حال الناس في عصرنا لحكموا بتدهور الحالة النفسية لدى أغلبية المجتمع، فللأسف سيطرت على مجتمعنا اليوم كثيرٌ من الأمراض النفسية مثل جنون العظمة، وجنون الشك، والانفصام العقلي، لكن نظرًا لأن أغلبية الناس تعاني من الداء نفسه فقد صاروا لا يميزون مرض بعضهم البعض، فكما يَعتبر المجانين أنفسَهم عقلاء وأن غيرَهم هم المجانين؛ فإن الناس في عصرنا الحاضر قد أصبحوا لا يعون أمراض بعضهم بعضًا.
وغالبًا ما يكمن سبب هذه المأساة في كثير من العوامل التي تُتلِف أعصاب الإنسان وتسوقه إلى الجنون، فالناس يقومون ويقعدون في توتّرٍ على الدوام؛ ويبدأ التوتر معهم من داخل البيت، ويستقبل الطفلُ الحياةَ في توتر، ويخلد الناس للنوم في توتر، ويصبحون على توتر، ولا ريب أن هذا كله يؤثّر في حياتهم الأسرية والوظيفية وعلاقاتهم الإنسانية، فتراهم يغضبون لأتفه الأسباب، ويشغلون بالهم بأهون الأمور، ويكسرون خاطر من حولهم لأسباب بسيطة، وبما أنهم منزعجون فإنهم يُزعجون ويُضايقون المحيطين بهم، وتنتابهم حالات روحية تدفعهم إلى التخريب والتدمير.
يجب على المؤمنين بالله حق الإيمان ألا يذيعوا عيوب الناس وخطاياهم، وعليهم أن يكونوا قدوةً لغيرهم في هذا الأمر، وبدلًا من الانشغال بعيوب الآخرين لِينظروا إلى فضائلهم ويُقدّروها.
والواقع أن البيئة لو عجّت بالسلبيات التي تشوِّه الأذهان وتكدّر المجتمع فمن المتعذر أن نجد فيها تصرفات متوازنة وأطوارًا لينة وأفكارًا سليمة بعدما أثارت السلبياتُ الناسَ ووجهتهم إلى نَواحٍ سلبية، ولا مشاحة في أن وسائل الإعلام تعدّ من أهم العوامل التي تفضي إلى مثل هذه السلبيات؛ فإن تقديمَ الأخبار التي توتِّر الأجواء، ونشرَ الأكاذيب التي توقِع بين الناس، والتجسسَ على عورات الناس أو الجماعات غير المرغوب فيها، والمبالغةَ في تصدير الحقائق من أجل زيادة نسبة المشاهدة، وغيرَ ذلك من الأخطاء؛ تتسبب -مع الأسف- في كثيرٍ من السلبيات وحدوثِ تصدّعات خطيرة في بنية المجتمع.
ميثاق الشرف الاجتماعي
فيا ليت المؤسسات الصحفية والإعلامية والمؤسسات التابعة للدولة تجتمع فيما بينها وتوقّع على ميثاق شرف، وتتفق على مبادئ معينة وتُبِرم فيما بينها -بتعبير جان جاك روسو- “عقدًا اجتماعيًّا” ينصّ على عدم توتير الأجواء، والالتزام بالقواعد الأخلاقية، وتقديم التقارير الصحيحة والدقيقة، وعدم التلاعب بكرامة الناس وشرفهم! ليت هذه المؤسسات الصحفية والإعلامية تتعهد بتجنّب التصرفات غير المسؤولة والمتهورة، ومراعاة حساسية الشعب! ليتها تراعي وتحسب منذ البداية النتائج التي تتمخض عن وصول أخبارها إلى الرأي العام! ليتها تبثّ أخبارًا تقوّي أواصر الوفاق والاتفاق بدلًا من إلهاب فتيل العداء والمشاحنات! ليتها تتجنب تقديم الأخبار والبرامج التي ترفع الضغط وتوتّر الناس!
فمن الأهمية بمكان أن يتمّ تفعيل وتطبيق المواد التي ينصّ عليها قانون الصحافة بدقة بالغة، وأن تُفرَض عقوباتٌ رادعة على الذين يخلّون بهذه القوانين! ولكن الأهم هو تبنّي تلك المواد ومراعاتها؛ ولهذا فمن الأهمية بمكان أيضًا إقناع العاملين بمؤسّسات الإعلام بأهمية هذه الموضوعات، وتوحيد آرائهم وأفكارهم حول القواعد الأخلاقية، وإبرامهم “ميثاقَ شرفِ” يتفق عليه الجميع.
من الناس مَن ينزلق أحيانًا بسبب اتباعه لنفسه وشيطانه، ثم تأتي وسائلُ الإعلام وتُفشي سرّه وتكشف خبايا أمره، وعندها يظل الشخص طوال عمره منكّس الرأس من الخزي والعار الذي لحق به.
ولكن رغم أننا قطعنا أشواطًا كبيرة في العملية الديمقراطية في السنوات السابقة، وتقدمنا خطوات كبيرة في ترسيخ القيم الديمقراطية فمن الصعب أن نقول إن المجتمع الآن مهيّأٌ تمامًا للقيام بمسؤوليات هذا الميثاق، حيث إن الشعورَ العام في المجتمع والبنية الاجتماعية -مع الأسف- غير مهيَّئين لتحقيق التطورات المطلوبة في هذا الأمر؛ إذ إننا لسنا على المستوى المطلوب من حيث انفتاح الفكر وسعة الوجدان.
ومع هذا فإن عدمَ مراعاة بعض وسائل الإعلام لهذا الأمر وتهورهم فيه لا ينبغي أن يدفعنا إلى أن نتشبه بهم، وعدمَ الوصول إلى اتفاق جماعي في هذا الموضوع لا يستلزم تركَه كُلّيةً، فإن إتيان الآخرين للمنكر لا يبيح أو يجيز لنا هذا المنكر، بل لو كان 99.9% من الناس يرتكبون المنكرات فإن هذا لا يجيز للباقين مجاراتهم، لأن الله تعالى سيحاسب الجميع فردًا فردًا في الآخرة، وحينها لا تزر وازرة وزر أخرى، ولا يُعفى عمّن قلد ذنوب الآخرين واقتدى بها؛ لأنه إن كان لا بد من الاتباع والتقليد فليقلَّدْ الآخرون في صوابهم فقط وليس في أخطائهم.
أسلوب الخطاب
ومن ثمّ فعلى كل من يسعى لإقامة حياته على القيم الدينيّة والأخلاقية أن يراعي الدقة في مسألة القواعد الأخلاقية لوسائل الإعلام، وأن يكون قدوةً للآخرين في هذا الأمر؛ فمثلًا يجب على العاملين في البرامج التلفزيونية أن يستخدموا لغةً محترمة عند خطابِ بعضهم بعضًا، كأن يقولوا “السيد المراسل فلان” أو “السيدة المراسلة فلانة”، وبذلك ينتعش حسّ الاحترام بين أفراد المجتمع.
والواقع أن هذه المعاملة الطيبة كانت سجية عامة في مجتمعنا، ففي البيئة التي نشأتُ فيها لم يكن هناك أحد يخاطب غيره باسمه مجردًا، بل لا بد أن يضيف إليه “السيد فلان”، “أخي فلان”، “أختي فلانة”، فلا يذكر أحدٌ غيرَه إلا بمثل هذا الاحترام، أما إذا تخلى أحدٌ عن هذه المعاملة المحترمة ونادى غيره باسمه مجرّدًا فإن هذا يعتبر من قبيل الغلظة والفظاظة، وكأنهم كانوا يعتبرون هذا الخطابَ الفظّ عادةً جاهليّةً لأناسٍ لم يخرجوا من البادية بَعدُ.
المحكمة إن أدانت المتهم وحكمت عليه بأنه لصُّ أو ناقصُ مروءة فليسَ من حقِّ وسائل الإعلام نشرُ هذا الخبر، فلا أحدَ يحوز فضلًا أو يكسب ثوابًا لمجرد أنه أخبر الرأيَ العامَ عن مثل هذه الوقائع.
فلو راعينا اليوم مثل هذه المعاملة المحترمة عند كتابة المقالات الصحفية أو عند تقديم البرامج التلفزيونية وخاطبنا بعضنا البعض بـ”السيد فلان”، “السيد الأستاذ”، “صاحب المقام”، بل لو عبَّرنا عن انتقاداتنا بنوعٍ من الاحترام كأن نقول مثلًا: “لقد تفضّلتم بكذا، ولكن ثمة وجه آخر للمسألة وهو كذا… “، وأصررنا على هذا التعامل المحترم؛ فإنني أعتقد بأن هذا السلوك سيلقى قبولًا حسنًا وتقديرًا كبيرًا لدى الآخرين؛ لأن القدرةَ على السريان لدى الأجسام المظلمةِ الكثيفةِ محدودةٌ، أما الأجسامُ الجميلةُ النورانيّةُ فإنها تسري بسرعة هائلة.
أجل، لا بدّ أن ننتقل بالأمر إلى موضوعات أهم وأعظم، وأن نسعى إلى إحياء قيمنا الضائعة مرة أخرى، وأن نحسّن ونعدِّل الأسلوب واللغة غير المنضبطة، وأن نكون ممثّلين للخير والجمال في جميع أنشطتنا، وأن نراعي لأقصى درجة حسن استخدام اللغة التي تُعدّ وسيلة تبادل بين الحضارات والثقافات، وأن نتجنّب الكلمات الزائفة، وأن نستخدم -بقدر المستطاع- الكلمات التي تعبر عن ثقافتنا الذاتية وجذورنا الروحية.
الصدق والأخلاق
ولا جرم أن الصدق من أهم الأمور التي يجب مراعاتها عند تقديم الأخبار في وسائل الإعلام وكتابة المقالات وإعداد البرامج التلفزيونية، ولا يجوز لمؤمنٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يكذب عن قصد ويفتري على الأبرياء أو أن يشوِّه سمعتهم بالكذب والافتراءات، دع عن الكذب والافتراء، بل وحتى لا يجوز لمؤمن يمثّل الصدق أن يبالغ في الأخبار التي يقدِّمها، أو يذيع أخبارًا غير متأكد من صحتها، بل لا يجوز له أن يقدّم لوسائل الإعلام حقائقَ يُعتقَد أنها ستضرّ أفراد المجتمع.
وللأسف الشديد فإن بعض الناس رغم إيمانهم بالله لا يستطيعون الحفاظ على التوازن أحيانًا، ولكن يلزم ألا ننسى أن الحقيقة إن لم يُعبَّر عنها كاملةً عند الإخبار عن أي حادثة وذُكرَت أمورٌ تخالف الواقع فستضيع المصداقية بعد ذلك عند ظهور خلاف الأمور المدَّعاة، وسترتد هذه الأمور المشوبة بالإفراط والتفريط على أصحابها.
بات الناس يتصيدون لغيرهم الذنوب والعيوب بدلًا من إخفائها وسترها، ويتجسّسون على حياتهم الشخصية، ويتسابقون في الكشف عن عيوبهم.
من أجل ذلك يلزم ألا نبتّ في الأمر إن لم تتضح لنا مقدماته وخلفياته، وألا نشرع فيه دون تروٍّ وفهمٍ عميقٍ للمسألة، وأن نتجنّب الأخبار المبالَغ فيها، وأن نكون معتدلين في تفسيراتنا وتأويلاتنا، وبذلك لا نخدع الناس، ولا نضيِّع مصداقيّتَنا وثقةَ الناسِ بنا، فضلًا عن أننا في الوقت ذاته سنخلِّف أدوات صحيحة للمحللين والمؤرخين الذين يأتون من بعدنا.
قد لا يراعي الآخرون شيئًا من هذا، ويتلاعبون بشرف الناس وكرامتهم، ويشوِّهون سمعة الكثيرين بقولهم “أطلق الشائعةَ فإن لم تصب هدفها فسيبقى أثرُها”، وقد لا يكون بوسعنا مواجهة هذا الأمر، ولكن وإن لم يكن لنا تأثيرٌ أو نفوذٌ على الآخرين فلا يصح أن نكون مثلهم ولا ينبغي لنا هذا، فما يقع على عاتقنا هو أن نبلّغ الصدق دائمًا، وأن نطرح كلَّ شيءٍ بصدق، وأن نتكلم بصدقٍ، ولا نتخلى أبدًا عن الصدق.
من جانب آخر ثمة مسائل مرتبطة بحياة الناس الشخصية، إن الله تعالى لم يكلّف أحدًا بالتجسس على الناس والبحث عن عيوبهم، والتجسُّسُ يعني تفقُّدَ أحوال الناس وتتبُّعَ عوراتهم، وهو أمر حرّمه الإسلام، فما يجبُ علينا عند الاطلاع على بعض آثام الناس هو سترها وليس إفشاؤها طالما أنها لا تضرّ بالحقوق العامة.
ما يجبُ علينا عند الاطلاع على بعض آثام الناس هو سترها وليس إفشاؤها طالما أنها لا تضرّ بالحقوق العامة.
فمثلًا لا يقع على عاتق أحدٍ شهِد جُرمًا شخصيًّا أن يبلّغ القائمين على الأمر به، وكما أن هذا الأمر ليس من وظيفته فكذلك لا مسؤولية عليه إن لم يبلّغ، بالعكس يعتبر سترُه فضيلة.
وكلنا يتذكر هذه المرأة التي جاءت إلى سيدنا رسول الله ﷺ معترفةً له بالزنا، فلم يتوقف النبي صلى الله عليه وسلم عند الواقعة، ولم يصرّ على معرفة تفاصيلها، ولم يصغِ كثيرًا إليها، بل إن وجهَه صلى الله عليه وسلم قد احمرّ حتى كاد يقطر دمًا، ثم حوّل وجهه إلى الميمنة، وسكت كأنه لم يسمع شيئًا، فقد حاول الرسول صلى الله عليه وسلم أن ترجع المرأة عن كلامها، ومنحها الفرصة تلو الأخرى خلال سنوات طويلة كي تستغفرَ وتتوبَ ولا تعود لطلَبِ الحدّ.
لكن مع الأسف اصطبغ هذا الأمر في أيامنا بشيء من الصفاقة والوقاحة؛ حيث بات الناس يتصيدون لغيرهم الذنوب والعيوب بدلًا من إخفائها وسترها، ويتجسّسون على حياتهم الشخصية، ويتسابقون في الكشف عن عيوبهم، وكثيرًا ما يتلاعبون بشرف الناس وكرامتهم وأعراضهم، وكل ذلك من أجل جذب الأنظار وزيادة أعداد القراء والمشاهدين فحسب، الأمر الذي نتج عنه أن ساءت حياة الكثيرين منهم، وهذا أمر لا يتوافق مع الدين ولا مع الإنسانية، سامحوني.. إنها وقاحةٌ صريحةٌ.
ما يقع على عاتقنا هو أن نبلّغ الصدق دائمًا، وأن نطرح كلَّ شيءٍ بصدق، وأن نتكلم بصدقٍ، ولا نتخلى أبدًا عن الصدق.
إن تقديمَ المتهمين الذين انتهكوا حقوق الآخرين وأفسدوا النظام العام ومعاقبتَهم شيءٌ، وفضحَهم أمام الملإ والتعامل بتهوّر دون مراعاة لكرامة الناس وشرفهم شيءٌ آخر، فإن الجرم لو وقع تتدخل النيابة العامة في الأمر، وتحيل المتهمَ إلى المحكمة، فإن ثبتَت الأدلةُ ضدّ هذا المتهم ينالُ عقابه، لكن مثل هذا التحقيق والتنقيب ليس من مهمة وسائل الإعلام.
ولو نظرنا إلى المسألة من حيث التربية الإسلامية، والمفاهيم الإنسانية، وقواعد الأخلاق العالمية للاحظنا أن المحكمة حتى وإن أدانت المتهم بأن حكمت عليه بأنه لصُّ أو ناقصُ مروءة أو شريرٌ فليسَ من حقِّ وسائل الإعلام نشرُ هذا الخبر، فلا أحدَ يحوز فضلًا أو يكسب ثوابًا من الله لمجرد أنه أخبر الرأيَ العامَ عن مثل هذه الوقائع، بل الثواب في سترها؛ لأن النبي ﷺ أوصى في أحاديثه الشريفة بستر الذنوب والعيوب، وبشَّرَ الذين يسترون عيوبَ الناس في الدنيا بستر عيوبهم في الآخرة[1]، فهذا هو ما تقتضيه الأخلاق والتربية الإسلامية.
ليت المؤسسات الصحفية والإعلامية تجتمع وتوقّع على ميثاق شرف، وتُبِرم فيما بينها “عقدًا اجتماعيًّا” ينصّ على عدم توتير الأجواء، والالتزام بالقواعد الأخلاقية، وتقديم التقارير الصحيحة والدقيقة، وعدم التلاعب بكرامة الناس وشرفهم!
ولذلك فكما أن قصد المسلم لمالِ غيره أو روحه أو عرضه يُعدُّ جرمًا عظيمًا فكذلك نشر مثل هذا الجرم باللسان أو القلم يعد جرمًا ووقاحةً أخرى، فمن الناس مَن ينزلق أحيانًا بسبب اتباعه لنفسه وشيطانه، ثم تأتي وسائلُ الإعلام وتُفشي سرّه وتكشف خبايا أمره، وعندها يظل هذا الشخص طوال عمره منكّس الرأس من الخزي والعار الذي لحق به، بل قد لا يقتصر هذا الخزي على الشخص وحده، ويتعدّى إلى أسرته أو عشيرته أو جماعته؛ فلا حقّ لأحدٍ أن يكون سببًا في خزي الناس وتحقيرهم، فمثل هذه الوقاحة لا علاقة لها بحقِّ استقصاءِ الأخبار أو إذاعتِها، فليس هناك دِين إلهي أو نظامٌ بشري سليم يسمح بذلك الحق ألبتة. أجل، الذنبُ ذنبٌ، ولكن سحقَ الناسِ بسبب هذا الذنب وتعريضَهم للخزي والهوان ذنبٌ أكبر.
الصدق من أهم الأمور التي يجب مراعاتها عند تقديم الأخبار في وسائل الإعلام وكتابة المقالات وإعداد البرامج التلفزيونية، ولا يجوز لمؤمنٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يكذب عن قصد ويفتري على الأبرياء.
ولقد ورد أن بني إسرائيل لحقهم قحطٌ على عهد موسى عليه السلام فاجتمع الناس إليه فقالوا: يا كليم الله ادع لنا ربك أن يسقينا الغيث، فقام معهم وخرجوا إلى الصحراء وهم سبعون ألفًا أو يزيدون، فقال موسى عليه السلام: “إلهي اسقنا غيثك وانشر علينا رحمتك وارحمنا بالأطفال الرضع والبهائم الرتع والمشايخ الركع”، فما زادت السماء إلا تقشعًا والشمس إلا حرارة.. فقال موسى عليه السلام: “إلهي اسقنا”.. فقال الله تعالى: “كيف أسقيكم؟ وفيكم عبدٌ يبارزني بالمعاصي منذ أربعين سنة فنادِ في الناس حتى يخرج من بين أظهركم ففيه منعتكم”.. فصاح موسى في قومه: “يا أيها العبد العاصي الذي يبارز الله منذ أربعين سنة اخرج من بين أظهرنا فَبِكَ مُنِعْنَا المطر”.. فنظر العبد العاصي ذات اليمين وذات الشمال فلم ير أحدًا خرجَ، فعلم أنه المطلوب، فقال في نفسه: إن أنا خرجتُ من بين هذا الخلق افتضحتُ على رؤوس بني إسرائيل، وإن قعدتُ معهم مُنِعوا لأجلي، فانكسَرت نفسُه ودمعَتْ عينُه، فأدخل رأسَه في ثيابه نادمًا على فعاله، وقال: إلهي وسيدي! عصيتُك أربعين سنة وأمهلْتَني، وقد أتيتك طائعًا فاقبلني! وأخذَ يبتهل إلى خالقه، فلم يتمّ الكلام حتى ارتفعت سحابةٌ بيضاء فأمطرت كأفواه القِرب، فعجب موسى وقال: “إلهي سقيتَنا وما خرج من بين أظهرنا أحد”، فقال الله: “يا موسى سقيتُكم بالذي به منعتكم”، فقال موسى: “إلهي أرني هذا العبد”، قال: “يا موسى إني لم أفضحه وهو يعصيني أأفضحه وهو يطيعني؟!”[2].إن هذا الخلقَ إلهيٌّ وعلينا أن نتحلى به، إلى جانب الاستغفار والتوبة الجماعية.
على كل من يسعى لإقامة حياته على القيم الدينيّة والأخلاقية أن يراعي الدقة في مسألة القواعد الأخلاقية لوسائل الإعلام.
لكنه من المؤسف أن كثيرًا من وسائل الإعلام محرومةٌ من مثل هذه التربية؛ إنها تلعب بشرف العديد من الناس بهدف رفع نِسَب المشاهدة، حتى إنها لا تتورع عن أن تنشر في الصحف والمجلات ومواقع الانترنت أو القنوات التليفزيونية بعضَ أخبارٍ مختلَقَة تقدّمها دون مصدرٍ أو توثيق، تفعل هذا وكأنها فتحت عيونها وراحت تنتظر أن تفتضح عورات الناس كي يستغلوها وينشروها ويُتاجروا بها.
إنني حين أشاهد مثل هذه الأخبار لا أتمالك نفسي من أن أقول: “هذا يعني أنها تعاني ضحالة خطيرة في الفكر، ونظرًا لعدم امتلاكها أفكارًا مهمة تقولها للأمة تسعى إلى إثارة الهياج والحماس، والتعبير عن نفسها بأشياء غير سليمة.. إنها تحاول -من جهةٍ ما- سترَ عيوبها وأخطائها الشخصية بواسطة مثل هذه الأخبار والتعليقات”.
لو كان 99.9% من الناس يرتكبون المنكرات فإن هذا لا يجيز للباقين مجاراتهم، لأن الله تعالى سيحاسب الجميع فردًا فردًا في الآخرة، وحينها لا تزر وازرة وزر أخرى.
ومهما يفعل الآخرون فإنه يجب على المؤمنين بالله حق الإيمان ألا يذيعوا عيوب الناس وخطاياهم، وعليهم أن يكونوا قدوةً لغيرهم في هذا الأمر، وبدلًا من الانشغال بعيوب الآخرين لِينظروا إلى فضائلهم ويُقدّروها.. عليهم أن يسعوا إلى إعداد مواد إخبارية تُسعد الناس، وتُطلق وجوههم، لا تُخزيهم وتُخجلهم.. وكما أن الأخلاق الإنسانية تستلزم هذا فإن الأخلاق القرآنية التي تتمثل فيها الأخلاق الإنسانية بأسمى أشكالها وأعلاها تستوجب هذا أيضًا.. فلا يليق بالمسلمين أن يقولوا: “إن الناس جميعًا على هذا المنوال، ونحن نفعل مثلهم”، لأنه -وكما ذكرنا في البداية- لو تلبّس الجميع بالشرّ ولم يبق سوى إنسان واحدٍ فما يقع على كاهله هو مواصلة السير في الطريق الصحيح الذي يعرفه.
سيطرت على مجتمعنا اليوم كثيرٌ من الأمراض النفسية كجنون العظمة، وجنون الشك، والانفصام العقلي، لكن نظرًا لأن أغلبية الناس تعاني من الداء نفسه فقد صاروا لا يميزون مرض بعضهم البعض.
ولا تخفى الأهمية البالغة للأسلوب الذي يجب أن يتعامل به مَن يُمثِّلون الإسلام في هذه القضايا؛ فالتصرفات الصحيحة وكذلك الخاطئة التي يقومون بها لا تبقى قاصرة عليهم أنفسهم، بل تُعزى إلى الدين في الوقت نفسه، فإن كانت أحاسيسهم وأفكارهم كما يأمر الإسلام، وتصرفوا وفقًا للإسلام ونفذوا أنشطتهم كلها في إطاره؛ دفعوا الآخرين إلى التعاطف مع الإسلام، وعندها يقول من يراقبونهم “ما أجمل ما يحمله هذا الدين من نظامٍ بديع!”، وهكذا لا بد من العثور على السبل التي تؤدي بالآخرين إلى هذا القول، وجعلهم يغبطونهم على أنهم مسلمون، وإثارة الإعجاب والاستحسان لديهم. يتبع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر: صحيح البخاري، المظالم، 4؛ صحيح مسلم، البر، 58.
[2] ابن قدامة: كتاب التوابين، 55.
المصدر: المقال الأسبوعي للأستاذ كولن، موقع Herkul ، بتاريخ 11/04/2019