حينما ننظر إلى الطبيعة العامة للقرآن ومحتواه، نشاهد أنه يهتم بكل ما يتعلق بالإنسان ويحيط بكل جوانب حياته، فقد تَناوَل في دائرة واسعة من الأزل إلى الأبد، داخلَ الإنسان وخارجَه وسعادتَه الدنيوية والأخرويّة، وتحدث عن كلّ ذلك، فكما أنه نظَّم للإنسان حياته الاقتصادية والمادية، فقد شرح للأنظار بكل دقّةٍ جوانبه الروحية التي تتعلق بوجدانه وسرّه ولطائفه المعنوية.
لم يُؤلَّف تفسير من منظور علم النفس رغم أنه من الواضح مدى علاقة هذه الأمور بالإنسان.
القرآن وتحقيق التوازن
إن النظام الذي وضعه القرآن ليس عبارة عن نظام متعلِّق بالدنيا، بل إنه يستوعب العالم الآخر إلى جانب هذا العالم، وباختصار: إنه كتاب يُحقق التوازن بين عالمي الدنيا والآخرة.
ولو أن القرآن حصر النظر في التكوين المادي للإنسان، واكتفى بتحقيق سعادته المادية فقط، -وهذا هو السائد في الغرب في العصر الراهن، حيث النظرة أحادية، ومتمحورة حول المادة، وخادمة للبدن والجسد، وبالتالي لا تبشر بسعادة حقيقية-.. وكذا لو أنه لم يأخذ ضمير الإنسان بنظر الاعتبار ولم يوجه الأنظار إلى عالمه الداخلي ومشاعره المعنوية، لكان هذا فيه -من دون شك- نقصًا بيِّنًا، ولَا نعكس ذلك النقص على روح الإنسان بالأثر السلبي.
يهتم القرآن بكل ما يتعلق بالإنسان ويحيط بكل جوانب حياته، فقد تَناوَل في دائرة واسعة من الأزل إلى الأبد، داخلَ الإنسان وخارجَه وسعادتَه الدنيوية والأخرويّة.
القرآن ومراعاة مخاطبيه
ولن تتحقق السعادة الدنيوية والأخروية إلا بأن يكون هناك تواؤمٌ بين البنية الداخلية والخارجية للإنسان، ولهذا نلاحظ أن من أهداف القرآن مراعاة مشاعر الإنسان، وقد ركّز عليها بين فينة وأخرى، وقبل كل شيء إذا أمعنَّا النظر فيه فسنرى أنه راعى مستوى مخاطبيه على الدوام؛ بحيث إن كلّ من خاضَ فيه بفكره فسيجد فيه خطوطًا لها علاقة بأعماقه الروحية، وأعتقد أن هذا من المواطن التي تكمن فيها إحدى المزايا المهمّة للقرآن، فعلى الإنسان أن يبحث على الأقل لمدة ساعة من أصل أربع وعشرين ساعة عن ذاته في القرآن وأن يحاول العثور على حقيقة نفسه فيه.
أجل، إن خطاب القرآن للإنسان هو خطاب خالق الكون تبارك وتعالى له بلسان القرآن، وهذا يقتضي أن يكون هذا الكتابُ شارحًا للتكوين المادي والمعنوي للإنسان، وأن يتميز بالحديث عن لدنياته ولطائفه بقدر حديثه عن تكوينه الاجتماعي، فالواقع هو أن الإنسان يود أن يكون الكتاب الذي يقرؤه ملامسًا لدواخله، وملاطفًا لمشاعره، وأن يستثيره إلى المنافع ويحذّره من المخاطر، ويوجه أسرته وأمته ويدير عقولهم وإرادتهم.
ومن استطاع أن يُمعن النظر فسيرى أن كل هذه الخصائص موجودة في القرآن المعجز البيان، بل إن ذلك موجودٌ في كل آية منه، ومن لم يتعمّق في القرآن لِنَقْصٍ فيه، وكان يعيش في وادٍ والقرآن في واد آخر، فلن يتصوَّر أن يكون القرآن في مجتمع كهذا منبعًا للهداية.. ونعتقد أن هذا هو السبب الذي يكمن وراء ما تعيشه الأمم المسلمة من الذل والهوان منذ عصور، وزوالُ هذا البؤس منوطٌ برجوع الأمة إلى القرآن بكلّ صدق وإخلاص.
القرآن كتاب نزل من أجل الإنسان، وهو يقدم في مجال العلوم والفنون والاجتماعيات حضارةً محورُها الإنسان.
كيف نتنفَّس الفكر القرآني؟
وإذا كنّا نودّ أن يتنفس الناس على وجه الأرض الفكرَ القرآنيَّ، فعلينا أن ندقّق النظر مرة أخرى في تفسيرات القرآن المتعلقة بالإنسان، ونظرته إلى المجتمع، وشرحِه للعلاقة بين (الله-الإنسان-الكون)، فلا نستطيع القول: إنه تم إلى يومنا الراهن معالجة القرآن من هذا الجانب على الوجه اللائق، ويلاحَظ أنه لم يُؤلَّف تفسير من منظور علم النفس رغم أنه من الواضح مدى علاقة هذه الأمور بالإنسان.
القرآن وعلم النفس
وعلم النفس من العلوم التي ينبغي أن تتناول الجهات الملكوتية الحقيقية واللّدنية معًا، فهناك حاجة ماسّة إلى تفسير للقرآن يشمل هذه الجوانب أيضًا.
إن علم النفس في عصرنا قد تحدَّث عن أمور جديدة، ولكنه لم ينجح في الإدلاء بتفسير للإنسان بحيث يتناوله بأعماقه الحقيقية، وأقول بكل صراحة إنه من غير الممكن أن يضع علم النفس أسسًا ويتحدث عن قواعد حول الجوانب الروحية للإنسان بحيث يلبي رغبة العقل السليم في هذا المجال.
وقد تَعتبرون قولي هذا مجرّد ادّعاء، إلا أنني أقول هذا من منظور شمولية القرآن؛ لأن القرآن كتاب نزل من أجل الإنسان، وهو يقدم في مجال العلوم والفنون والاجتماعيات حضارةً محورُها الإنسان؛ ذلك الإنسان الذي خُلق وكأنه هو الكون العظيم بربيعه وصيفه وزهره ونحله.. وهذه هي الحقيقة التي عبر عنها سيدنا علي كرم الله وجهه بشعره فقال:
وتحسب أنك جرم صغير
وفيك انطوى العالم الأكبر!
أجل، إن العوالم فيه مكنونة، وهو كخلاصة للعالم، ومع أن الإنسان الذي انطوى فيه كثير من الحقائق ما زال يتعرض صباحَ مساءَ في أجواء مختلفة لبعض الحالات الروحية والنفسية؛ بحيث إنه يتدنى أحيانًا إلى بعض المراتب النباتية، وأحيانًا يتحول إلى كائن يستنشق الهواء ويخرجه، بينما ينحطّ إلى مرتبة الحيوان أحيانًا أخرى، فلا يشعر في هذه المرتبة إلا بالمشاعر البهيمية والشهوانية.. وفي مقابل هذا كله تمرُّ أحيانٌ تكون فيها الكائنات أمام قدميه وكأنها كرة صغيرة، وتمتد آفاقه الفكرية إلى مشارف العرش الأعظم، ويلبس السدرة وكأنها قميص، ويقترب من موطِئِ قدم الرسول صلى الله عليه وسلم في المعراج، ويسبق كل المخلوقات، وهذه الأمور مما تضيق عن فهمها وتعجز عن قياسها قدراتُ مختبرات العلوم الحالية.
والآن نتساءل قائلين: هل يمكن تفسيرُ هذا كله بالاندفاع الغريزي؟ وكيف لنا أن نفسّر الانفعالات وردّات الفعل والعواطف والدموع وآلافًا من ألوان الغضب بمثل هذه التفسيرات الواهية البسيطة؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: فتح الله كولن، البيان الخالد.
ملاحظة: العناوين الجانبية من تصرف محرر الموقع.