يقول لله سبحانه وتعالى: “لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ” (سورة الأحزاب: 12)، وبالفعل كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم قدوة لنا في أقواله وأفعاله وجلوسه وقيامه وسائر سلوكياته، ولا غرابة في ذلك؛ أما خوطب كما روي في الأثر: “لولاك لولاك ما خلقتُ الأفلاك”، وكما يقول الأستاذ نجيب فاضل رحمه الله: “لولاه ما خُلقنا”؛ هو مَنْ نورُه سابقٌ على سائر المخلوقات([1])، هو أينعُ ثمرة في شجرة الوجود، وبتعبير آخر: إن النور المحمدي هو نواةُ شجرة هذا الكون، وحبر القلم الذي سطّر كتاب الكون، وهو المرشد في معرِض هذا الكون، وكما يقول المحققون: “هو ذاتٌ جامعة لعلوم الأولين والآخرين، يستطيع بفضلٍ من الله وعنايته حلّ كلّ مشكلة، تعلّمَ الخلقُ منه الحكمةَ من خلق الدنيا وما فيها.
ورغم هذا كله فقد كان في الوقت ذاته صرحًا في المحو والتواضع، يمتدحه أحد صحابته قائلاً: “سيدنا”، إلا أنه يُعاتبه على قوله هذا، وإن كان بالفعل هو كذلك([2]).
إن النور المحمدي هو نواةُ شجرة هذا الكون، وحبر القلم الذي سطّر كتاب الكون، وهو المرشد في معرِض هذا الكون
ولما نزل قول الله تعالى: “فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ” (سورة القلم: 48) خاف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تذهب الظنون ببعض الصحابة في حقّ سيدنا يونس بن متى فقال صلى الله عليه وسلم: “لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ”([3]).
وذات يوم أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ، فَكَلَّمَهُ، فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ، فقال له: “هَوِّنْ عَلَيْكَ، فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ”([4])، وعندما بناء المسجد النبوي كان صلوات ربي وسلامه عليه يحمل الحجارة مع أصحابه.. ولما خرج ذات يوم في سفر مع أصحابه، واحتاجوا إلى طهي الطعام، وتعهّد كل منهم بالقيام بعمل ما؛ تكفّل صلى الله عليه وسلم هو أيضًا بجمع الحطب؛ وذلك لأنه لم يكن يريد أن يتميَّز عن أصحابه حتى في الأعمال العاديَّة التي يقومون بها.
وهكذا جمع أكملُ الكاملين الذي فُرشت النجوم تحت قدميه كأحجار الرصيف؛ في نفسه كلَّ الأضداد، فكان الكاملَ المكمّلَ بكل جهاته، وصرحَ المحو والتواضع أيضًا، فاستطاع بفضل مصداقيةِ وكمالِ حالِه ومقالِه أن ينفذ إلى الأرواح، وهذا أمر يدعونا إلى اتباع ذلك المرشد الأكمل على الوجه الأمثل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1] ) السيرة الحلبية، 1/ 240.
([2]) سنن أبي داود، الأدب، 10.
([3] ) صحيح البخاري، الأنبياء، 35؛ صحيح مسلم، الفضائل، 166-167.
([4] ) سنن ابن ماجه، الأطعمة، 30. والقديد: هو اللحم المملح المجفف.
المصدر: فتح الله كولن، جهود التجديد، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ1، 2017م، صـ280/ 281/ 283.
ملاحظة: عنوان المقال من تصرف محرر الموقع.