راع كل أبنائك
إن أيّ تقصير في مبدأ عدم تفضيل أحد الأبناء على الآخر كفيلٌ بأن يُفقِدَنا السيطرة على أبنائنا، وتوجيهات النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموضوع لها مغزى كبير وعميق:
عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما –له ولأبيه صحبة وأبوه من أصحاب بدر- قال: “أعطاني أبي عطيّةً، فقالت عمرة بنت رواحة (وهي أمُّ النعمان وزوجة بشير): لا أرضى حتى تُشهِد رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية، فأمرتني أن أُشهِدك يا رسول الله، قال: “أَعْطَيْتَ سَائِرَ وَلَدِكَ مِثْلَ هَذَا؟”، قال: لا، قال: “فَاتَّقُوا اللهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ”[1].
أي راعِ كلّ أبنائك، وليس واحدًا منهم فقط، فإن وجّهتَ عنايتك واهتمامك بواحدٍ منهم فقط وأجزلتَ له في الهبة والعطيّة؛ ضعُف شعور البِرّ لدى باقي الأولاد تجاهك، وتزعزَعت ثقتهم بك.
العدل مبدأ إنساني عالمي
حقًّا، لقد وضع النبي صلوات ربي وسلامه عليه حلًّا جذريًّا لهذه المسألة، وحلّ المشكلة المحتملة من الأساس، إن تفضيل أحد الأبناء على الآخرين من شأنه أن يثير مشاعر الآخرين نحوه، بل ويجعلهم أعداء له، لا تعتقدوا أننا نشرح هذه المسائل اعتمادًا على المبادئ الضيّقة لعلم النفس، وإنما نحنُ نركّز هنا على عالمية الحقائق التي يريد القرآن أن يرسّخها في أرواحنا، وعلى موافقتها لطبيعة الإنسان ومعقوليّتها ومنطقيّتها وإنسانيتها.
إن أيّ تقصير في مبدأ عدم تفضيل أحد الأبناء على الآخر كفيلٌ بأن يُفقِدَنا السيطرة على أبنائنا.
لا تقصص رؤياك
وكما هو معلومٌ أن نبي الله يوسف بن يعقوب عليهما السلام رأى في منامه أن النجوم والشمس والقمر يخرّون له ساجدين، فما كان من أبيه الذي كان من المفترض أن يسعد ويفتخر بهذا الأمر إلا أن ﴿قَالَ: يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ (سُورَةُ يُوسُفَ: 12/5)، لأن هذا النبي العظيم كان يدرك كنهَ الطبيعة البشرية بمقتضى أفضليّة النبوة؛ فأحسّ أن هذا الأمر سيثير غيرةَ إخوته نحوه، فقصُّ مثلِ هذه الرؤيا لا بدّ وأنه سيفضي إلى غيرة الذين لـمّا يبلغوا بعدُ مرتبةَ تزكية النفس، ومع الأسف تحقق في النهاية ما كان منه يقلق عليه السلام؛ حيث ألقوا أخاهم يوسف عليه السلام في غيابة الجُبّ، وقد كشفوا بصنيعهم هذا أثر الغيرة في الإنسان حتى وإن كان في بيت النبوّة.
أجل، بدهيّ أن تفضيل أحد الأبناء على إخوته سيثير لديهم شعور الغيرة والحسد وكرهًا لاشعوريًّا بسبب اختلاف المعاملة.
إن تفضيل أحد الأبناء على الآخرين من شأنه أن يثير مشاعر الآخرين نحوه، بل ويجعلهم أعداء له.
كيف يكون الولد عاصيا؟
ويمكننا أن نستوعب هذه الأفكار بشكلٍ أفضل من خلال العوامل النفسيّة الشعورية واللاشعورية التي ينتج عنها حبّنا وكرهنا وصداقتنا وعداوتنا:
فعلى فَرَضِ أن لكم صديقًا صدوقًا حميمًا، لكنه ذات مرّةٍ لم يتعامل معكم بروح الإيثار، وتغلب عليه شُحُّه، فقام بتصرّفٍ غير متوقّع ألبتة، فلا شك أن هذا التصرّف سيظلّ محفورًا في ذاكرتكم إن شئتم أم أبيتم، لأن كلّ حادثة تمضي بعد أن تترك أثرًا في حفيظة الإنسان، فإذا ما أعقبتها حادثة أخرى سرعان ما تنبعث وتحيا من جديد، وهكذا أنتم؛ إن قابلَتْكم حادثة أثارت هذه المشاعر البغيضة -التي تنام في سكون ضمن دائرة اللاشعور عندكم- وألهبتها؛ ثارت ثائرتُكم على الفور، وإن تراكمت هذه الحوادث السلبية فوق بعضها وانبعث عددٌ منها من جديد؛ فإنكم سرعان ما تقومون بتوبيخ هذا الشخص وتجتهدون في الدفاع عن أنفسكم.
هكذا الأطفال! فأي موقف سلبيٍّ بينكم وبينهم يستدعي أفكارًا مترسّخة في عقولهم أو في منطقة اللاوعي عندهم، ومن ثمّ يتسبب هذا الموقف في حَنَقِ الطفل عليكم وعدم إطاعته لكم بالكلية.
على كل مَن يبغي أن يكون أبًا أو أمًا أن يأخذ قسطًا من علوم النفس والتربية، أو يتعلّم مبادئ القرآن الأساسية في هذا الشأن إجمالًا على الأقل، ثم يشرع في حياته الجديدة.
تعلم كيف تربي ابنك
إنّ ما ذكرناه يشكّل جانبًا واحدًا فقط للمسألة، فإذا ما فكّرنا في المسألة على أنها شاملةٌ لكلّ مراحل حياة الطفل بات الأمر أكثرَ تعقيدًا، وخاصّة إذا ما اعتبرتموه طفلًا لا غير، ولم تقدّروا الوضع الذي سيكون عليه في المستقبل، فسيأتي يوم تتضررون فيه أنتم وأبناؤكم بسبب خطئكم هذا.
الذي يشهده الطفل في البيت من أقوال وأفعال متناقضة قد لا تظنون أنه يدركها، إلا أنها تثبت في ذاكرته وكأنها مقيّدة في دفترٍ، فإذا ما آنَ أوانها برزت كلُّها إلى الوجود على الفور. أجل، إنها تَظهَر لدرجة أنها تجرف العائلة والأبوين وتنحدِرُ بهم.
ومن ثَمّ فعلى كل مَن يبغي أن يكون أبًا أو أمًا أن يأخذ قسطًا من علوم النفس والتربية، أو يتعلّم مبادئ القرآن الأساسية في هذا الشأن إجمالًا على الأقل، ثم يشرع في حياته الجديدة.
إن تربية الأبناء ليست أمرًا بسيطًا، في فترةٍ ما تطلعتُ إلى تعلّم النحالة، وبالفعل ذهبتُ وأخذتُ دورة في هذا الموضوع، فأدركتُ مدى صعوبة الاشتغال بالنحل، فينبغي للإنسان أن يتعرّف على سبيل تربية الأجيال الصالحة؛ حتى يزوّد المجتمع بمواطنين صالحين، فالإنسان كائنٌ عظيم لديه استعداداتٌ كبيرة وطاقات عظيمة تؤهله لأن يرتقي إلى “أعلى علّيّين” أو ينحدر إلى “أسفل سافلين”، وعلى ذلك لا بدّ لكلِّ شخصٍ أن يعلم مدى أهمية تربية ذلك الكائن العظيم والارتقاء به إلى مستوى الإنسانية الحقيقية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] صحيح البخاري، الهبة،12؛ صحيح مسلم، الهيات، 18.
المصدر: من البذرة إلى الثمرة، دار النيل للطباعة والنشر 2015 ص 76/79
ملحوظة: بعض العناوين وبعض العبارات من تصرف المحرر.