على المرء أن يقوم بما آمن به أولاً، ثم ينطلق ليبوح -بتجرّدٍ وفناءٍ والتفات عن الذات- بما خالج صدره من مشاعر، وما تردد في أعماقه من أصداء، وما انقدح في ذهنه من أفكار إثر قيامه بما آمن به. ألاَ فليستحي من يعظ في التهجد والقيام وهو في ليله من الغافلين النيام، وكذا من يعظ في الخشوع والخضوع وهو في صلاته غافل لاهٍ لم يلتزم بما يجب من الأدب والوقار بين يدي الله، ولا ينبسنّ ببنت شفة عن “نَذْر العمر للآخرين” من كان بلا “قلب منذور” للآخرين. أجل، لقد قضت حكمة الخالق أنّ تأثير القول رهن بتخلّله في قائله وقيامه به، فقال منبهًا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُون) (الصف:2-3).
ولا يذهبنّ بأحدٍ الوهمُ إلى أنّ الآية عندما تحذّر المؤمنين وتُنكر عليهم بصيغة السؤال، أنها تقول لهم: “كُفّوا عن قول ما لا تفعلون”، بل تقول لهم: “قد غدوتم ترجمانًا للحق بأقوالكم، فلِمَ لا تترجمون أقوالَكم إلى أفعال أيضًا؟ فالقول المنفصل عن الفعل هو من أعظم ما يجلب غضب الجبار ومقته”. إذًا ليس المراد منع الإنسان من قولِ ما لم يفعلْ، بل تحفيزه على فعل ما يقول. فالفعل عبادة والقول عبادة، فإذا تركهما معًا فقد اقترف إثمين اثنين وحُرِم “التأثيرَ” من وجهين، ومن ترك أحدَهما فقد اقترف إثمًا واحدًا وحُرِم “التأثير” من وجه واحد. أجل، قولُك لما لم تفعل، أو بالأحرى تركُك لفعل ما تقول، يجلب الغضب الإلهي، ويُخمد جذوة كلماتك، ويزعزع ثقة الخلق بك، ويحيل عباراتك مفرداتٍ جافةً حدُّها الآذانُ إلى أمدٍ، ثم مصيرُها النسيان إلى الأبد.