لقد شهدت شخصيًّا ثلاثة انقلابات عسكرية حتى اليوم. كما تحدثت وسائل الإعلام -أثناء قضايا أرجينكون والمطرقة[1]– عن محاولات انقلابية كانت بعض البؤر داخل الجيش تخطط لها.
أحداث غريبة
لكن انقلاب ١٥ يوليو ٢٠١٦ لم يكن يشبه أي واحد من الانقلابات التي وقعت بالفعل أو المحاولات التي تم الترتيب لها من قبل، لقد كانت مسرحية أعدت لأغراض سوداء ونوايا خائنة يمكن أن يفهمها حتى الأطفال.
إن فاجعة ١٥ يوليو لم تكن سوى سيناريو خائن تم ترتيبه من قبل أردوغان وبطانته.
لقد قيل الشيء الكثير عن تلك المسرحية وكُتب عنها الشيء الكثير. والحقيقة أنها تستحق أن يُعدّ حولها دراسات وبحوث معمقة.
إذا أردنا أن نتحدث عن التفاصيل فلعل ذلك يستغرق منا وقتا طويلا، لأن الحدث كله مشوب بأمور غريبة شتى؛ على سبيل المثال الساعة التي انطلق فيها الانقلاب، أي أن يخرج عدد محدود من الجنود ويستولوا على طرف من الجسر المعلق في إسطنبول مساء في ساعة الذروة حيث جميع الناس في الخارج، إلى أشياء أخرى غريبة يمكن أن نذكرها.
ذَكَر بعض الجنرالات فيما بعد أن ما تم هو انقلاب تم التخطيط له ليكون فاشلا. بل إن نائب الرئيس الأمريكي وقتها “جون بايدن” الذي زار تركيا في تلك الأثناء، شبَّه المحاولة بلعبة من ألعاب الكومبيوتر.
ولكن عندما أصف ما وقع بالمسرحية أو السيناريو ليس غرضي أن أقلل من شأن ما حدث. لا شك أن آثار هذه الكارثة كانت أشد ضررًا وفداحة من جميع الانقلابات التي وقعت في تركيا من قبل، وما زلنا نعاني من آثارها حتى اللحظة. لقد استشهد ٢٤٩ مواطنا من أبناء شعبنا في هذا الحدث المشؤوم. وأُودع حوالي ٥٠ ألف مواطن بريء في السجون. ولا يمرّ يوم دون أن نسمع عن أبرياء جدد يتعرضون لمظالم جديدة وتجاوزات مؤلمة.
ليت الكارثة اقتصرت على معاداة حركة الخدمة، إنما ذبحوا مستقبل تركيا بأكمله. لعبوا في كيمياء الوطن وأفرغوه من مضمونه.
انتهاكات إنسانية
لقد أُغلقت مئات المدارس وعشرات الجامعات، وصودرت آلاف من الشركات الخاصة، وانفصمت تركيا عن المسار الديمقراطي كليًّا، رغم أنها كانت تتقدم في ذلك المسار نحو الأفضل ولو ببطء. حصلت شروخ بين شرائح المجتمع، ونثرت بذور للعداوة والنزاع بين الناس يصعب تلافيها. لقد اتضحت نيتهم، وهي تأسيس نظام ديكتاتوري فاشي تحت غطاء نظام رئاسي جديد.
كان أردوغان يريد أن يبيد حركة الخدمة منذ زمن طويل، لكنه فشل في أن يحقق هدفه هذا عبر الطرق القانونية رغم جميع ألوان اللف والدواران على القانون وكافة المراوغات، فلجأ إلى هذا السيناريو أخيرا.
أبناء الخدمة مستنيرون ومثقفون، لم يؤذوا نملة في حياتهم، ولم يخرجوا إلى الشوارع في مظاهرات لإثارة الفوضى مطلقًا، لم يرموا أحدا بحجر ولم يؤذوا أحدا.
لعلكم تذكرون أنه سبق أن كشف عن نيته تلك عندما قال قبل هذه الأحداث بكثير: “إن لم تخضعوا لي، فيمكنني أن أعلن حركة الخدمة تنظيمًا إرهابيًّا في جميع أنحاء العالم من خلال مدعٍ عام وحفنة من رجال الأمن”. كان من باب المستحيل أن يحقق ذلك عبر الطرق القانونية، لأن أبناء الخدمة مستنيرون ومثقفون، لم يؤذوا نملة في حياتهم، ولم يخرجوا إلى الشوارع في مظاهرات لإثارة الفوضى مطلقًا، لم يرموا أحدا بحجر ولم يؤذوا أحدا. لذلك لجأ إلى سيناريو خبيث كهذا ليقول للناس: “ها هم رجال الخدمة يحملون السلاح كذلك”.
وهكذا استطاع أن يفتح الطريق المؤدية إلى تأسيس نظام ديكتاتوري يخطط له من جهة، كما استطاع أن يدشن حملة واسعة ضد الخدمة أطلق عليها “مطاردة الساحرات”[2] لم يسبق أن تعرضت الخدمة لمثلها من قبل.
كان أردوغان يريد أن يبيد حركة الخدمة منذ زمن طويل، لكنه فشل في أن يحقق هدفه هذا عبر الطرق القانونية.
براءة الخدمة
طبعا فشل في إقناع الرأي العام العالمي بأن حركة الخدمة تنظيم إرهابي، لكنه نجح في زرع العداء والكراهية ضد الخدمة في المجتمع التركي بفضل عشرات الصحف والقنوات التلفزيونية الموالية التي تلفق يوميًّا عن حركة الخدمة مئات من الأخبار الكاذبة دون انقطاع. وليت الكارثة اقتصرت على معاداة الخدمة، إنما ذبحوا مستقبل وطن بأكمله. لعبوا في كيمياء الوطن وأفرغوه من مضمونه.
هناك اليوم مئات الآلاف من المتضررين. عشرات الآلاف من العقول النوعية المثقفة الراقية التي تعشق وطنها، تقبع داخل المعتقلات، أو تعيش في المنافي الاضطرارية التي لجأت إليها بحثًا عن الأمان.
خلاصة القول، إن فاجعة ١٥ يوليو لم تكن سوى سيناريو خائن تم ترتيبه من قبل أردوغان وبطانته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] هي قضايا حوكم فيها بعض جنرالات وقيادات الجيش التركي وآخرين بتهمة التخطيط للانقلاب، بدأت من عام 2007م حتى عام 2013م.
[2] مصطلح أطلقته حكومة العدالة والتنمية بقيادة أردوغان على الحملة المنظمة التي استهدفت تصفية من يُزعم انتماؤهم إلى الخدمة من كافة القطاعات.
المصدر: مواقف في زمن المحنة، حوارات مع فتح الله كولن، إعداد: صابر عبد الفتاح، نوزاد صواش، ص: ١٦٠-١٦٣، دار النيل للطباعة والنشر، ٢٠١٧
ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف محرر الموقع.