﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾(التَّوْبِة:20)
يرد الجهاد بالمال قبل الجهاد بالنفس في القرآن الكريم على الدوام عدا في آية أو آيتين. أجل! يخيل لي أن الإنسان ما دام حياً يفضل ويعز ماله على حياته على الدوام. والحديث الشريف يقول: “من قُتل دون مالِه فهو شهيدٌ”. وهو بينما يعلمنا حكما معينا، يشير من طرف آخر إلى هذه الجبلة الإنسانية. وما المثل الشعبي عندنا من أن “المال شقيق الروح”إلا تعبير عن الحقيقة نفسها بشكل آخر.
غير أن هناك أناساً تركوا الدنيا قلبياً وليس عملياً أو كسبياً منهم أبو بكر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف y. وهناك أناس لم يملكوا مالاً في الدنيا منذ البداية، في حالة هؤلاء تأتي النفس قبل المال، هذا طبعاً إن لم يصلوا إلى إدراك البديل الحقيقي لها.
أجل! ليس من السهل كما يتبادر إلى الذهن الإيمان وعمل كل ما يقتضيه هذا الإيمان. فالعيش ضمن أحاسيس ومشاعر العادات التي تشكلت وترسخت ضمن سنين طويلة عندما تضاف إليه الفطرة يكون من الصعب جداً على الإنسان التضحية بماله ونفسه. وهاكم سيدنا حمزة رضي الله عنه -عم الرسول صلىوسلمس وأخاه في الرضاعة- فقد تردد لبعض الوقت قبل إعلان إيمانه. وبدلا من الغضب على الذين لا يجتازون الإمتحان الصعب في موضوع التضحية بالمال وبالنفس، وهو امتحان صعب بالنسبة للجميع… علينا أن نبدي اهتماما كبيراً بـهم، وأن نعينهم في الدعاء بظهر الغيب.
أجل!… إن كان الإيمان هو تجاوز العقبة الأولى للشيطان، فإن ترك الإنسان لقومه وقبيلته وأهله وأقربائه والهجرة إلى بلد آخر تجاوز لعقبة أخرى لا تقل صعوبة عن العقبة الأولى. إن القيام بـهجر الوطن والديار ثم عدم الإكتفاء بـهذا بل الجهاد في سبيل الله في الموطن الجديد يعد تجاوزا لعقبة صعبة أخرى، ومن يوفق في هذا يكون قد تجاوز نفسه ووصل إلى النجاة.
﴿وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾(التَّوْبِة:72)
إن جنة عدن كما تبدو في هذه الآية الكريمة وكما وصفت في أحاديث نبوية عديدة، جنة فيها بعض النعم الروحانية ولكن أكثر نعمها جسدية ومادية.
أجل! هناك قسم من الناس تقوى عندهم الرغبات المادية وتغلب عليهم المطالب الجسدية. ولمثل هؤلاء تكون جنة عدن الجامعة لكل النعم مكافاة جيدة. أما البعض الآخر فتقوى عندهم الملكات الروحية لذا لا تعني النعم المادية كالأكل والشرب والحور العين…. الخ شيئا كثيرا، لأنـهم يتطلعون للإشباع الروحي وللأذواق المعنوية. لمثل هؤلاء هيئت جنة “الفردوس”وآية ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَر﴾ تشير إلى هذه الحقيقة.
ونظراً لتمييز جنة الفردوس فقد أرشدنا الرسول صلىوسلمع في حديث له: “فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس”.
أولا وقبل كل شي فجَنة الفردوس ببِنيتها المخروطية نقطة إشـراف ومشاهدة مركزية على جميع الجنات الأخريات. ثانياً: إن لم يكن “الإيمان بالغيب”متوسعا ومتطورا في الأمم السابقة، لـذا لم تتطور هذه الأمم في الأمور المرتبطة بالغيب وبالمعاني المجردة ولم تتعمق عندها هذه المعاني. أما الأمة المحمدية فبسبب تعمقها أكثر من الأمم السابقة في موضوع الإيمان بالغيب وبما يتعلق به من أمور فلا تشبع أرواحها إلا بالنعم واللذائذ الروحانية، لذا أوصى الرسول صلىوسلما أمته بأن تطلب في دعائها جنة الفردوس. أي يمكن القول بأن جنة عدن، هي أفق نعم الأمم الأخرى، أما جنة الفردوس فهي جنة أمة محمد صلىوسلمن .
لا شك أن رضوان الله متحقق لكل من دخل الجنة، ولكن الرضوان الأكبر -الذي يعد أسمى نِعَم الجنة وأعظمها- أفق آخر من الوسعة والشمول والغنى الذي يجعل نائله مستغنيا عن كل شيء، ولن يتيسر هذا إلا لأمة صاحب المقام المحمود وصاحب الحمد. أن تقدم الرسول صلىوسلمغ وهو يحمل لواء الحمد والثناء للذات الجليلة ووصوله إلى المقام المحمود، الذي يكون فيه كل شيء تسمعه ويسمعه حمدا وثناء، متناغماً ومتوافقاً مع تشريف أمته المستحقة للفردوس وتكريمها بالرضوان الأكبر.
اللّهم عفوك وعافيتك ورضاك اللّهم وفقني إلى ما تحب وترضى.
﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾(التَّوْبِة:111)
معنى هذه الآية أن الله يطلب الأنفس والأموال الزائلة للمؤمنين مقابل بدائل باقية لا تزول!.. إنه يطلب أنفسهم وأموالهم لكي يعطي لهم مقابلها الجنة في الآخرة. ولكن كما يلاحظ فإن الأنفس متقدمة على الأموال في هذه الآية. ذلك لأن النفس تكون أكثر أهمية في الآخرة ويأتي من بعدها المال المنفق في سبيل الله، والذي زاده هذا الإنفاق قيمة وثمنا. أي انني إن لم أدخل الجنة ولم أستطع الولوج فيها فماذا يعني المال الذي ليس إلا زينة بسيطة من زينات الجنة؟ لذا فالتعبير عن هذه الحقيقة يكون بتقديم النفس على المال هنا خلافا لما جاء في مواضع أخرى.
والحقيقة إن كل ما يبدو أنه ملك مؤقت للإنسان هو في الحقيقة ملك لله تعالى. فمنذ الوجود الأولي للإنسان وكذلك جميع الوسائل الضرورية المهداة لإدامة هذا الوجود ليس إلا لطفاً جبرياً وإحساناً. كما إن إظهار كل هذه الألطاف والهبات وكأنـها ملك للإنسان مع منحه صلاحيات قانونية وحقوقية معينة للإفادة منها ليس إلا إحسانا ثانيا. أما القيام بشراء ماله وملكه وكأنه مال وملك خاص في يد صاحبها المؤتمن ليعطَى بدل هذا المال والملك الزائل والفاني ألف ضعف فهو كرم فوق كل إحسان. هو كرم كبير بحيث أننا لو فرضنا عدم وجوده فإن المؤتمنين إما أن يستعملوا هذه الأمانة الموجودة في أيديهم في إتجاه أهوائهم وشهواتـهم، فيخونون بذلك الصاحب الحقيقي للمال، أو تزول هذه الودائع وتفنى متى ما جاء أوان هذا الفناء فيخسر هؤلاء أفضل تجارة وأكبر كسب وأكثره بركة.
أجل، عندما يتحقق هذا العقد المتسم باللطف والكرم، يترك الأحياء الفانون أماكنهم ليصلوا إلى الوجود الأبدي. ويزول المتاع الدنيوي الفاني، لتحل محله النعم الخالدة في دار البقاء… ترمى الدنيا ذات العمر القصير تحت التراب، لتخرج سنابل جنات خالدات في عالم أبدي… تترك النفس رغباتـها ولذائذها بشكل متوازن، لتفوز في المقابل برضا الله تعالى. وفي أثناء تحقيق هذه المبادلة التي تتم ضمن إطار الإرادة الإنسانية الحرة يتم الإعتناء بإظهارها في شكل بيع وشراء أو كأخذ وتحصيل قسري.
إن مثل هذا الميثاق الممتد من الأزل ميثاق بشري وكوني عميق إلى درجة أنه ورد في التوراة وفي الإنجيل وفي القرآن وتكرر في هذه الكتب وتم التأكيد عليه وإن كان في أساليب مختلفة.