﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ * قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾(الأَعْرَاف:115-116)
أعتقد أن هنا أمراً كثيراً ما يخفى عن الأنظار، وهو أن السحر كان من أهم الأمور التي كان الناس يهتمون بها، وهذا ما نفهمه من اجتماع الناس لرؤية الألعاب السحرية في ميدان في يـوم العيد. وقد أراد موسى عليه السلام للسحرة أن يكونوا هم البادئين باظهار سحرهم. وعندما ابطل موسى سحر هؤلاء ذُهل الناس وفي مقدمتهم السحرة الذين أدركوا -وهم الذين بلغوا الذروة في السحر- أن ما جاء به موسى لم يكن سـحراً فآمنوا على الرغم من فرعون وسطوته. وقدم السحرة بايمانهم الفوري هذا خدمة كبرى، لأن الناس -الذين كانوا يثقون بهؤلاء السحرة وأخذوا أماكنهم في صفهم- آمنوا بايمان هؤلاء السحرة.
إذن فقد كان هناك فئة من المشعوذين الذين أسسوا عالمهم على الكذب وعلى خداع الناس وكان هناك حكم فردي مطلق يجبرهم على سلوك هذا الطريق، ثم هناك الجماهير المساقة على الدوام حسب أهواء هاتين الطبقتين، لذا فعندما بدت حبالهم وعصيهم وكأنها حيات تسعى فترة قصيرة، إذا بعصا يابسة تنقلب إلى حية وتبتلع كل ألاعيب السحرة. أما الجماهير التي كانت تتابع بكل فضول وذهول ما يحدث أمامها فقد أفاقوا ولم يكن أمامهم إلا أن يقولوا ﴿آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الأعراف: 121) جنباً إلى جنب مع رموز الباطل الذين كانوا أول من هتفوا بهذا الاعتراف الكبير بكل وضوح ودون أي تردد، بعد أن انفتحت قلوبهم فجأة للنور الآتي اليهم من وراء الآفاق…
يكرر القرآن هـذا المشهد في عدة مواضع وبأسـاليب مختلفة وملائمة للسياق، وهو بذلك يسوق لنـا العبر من خلال فرجة بـاب التاريخ الذي يكرر نفسه… يعرض هذه العبر وكل واحد منـا يستطيع أن يأخذ منها حسب قابلياته وسعة أفقه.
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾(الأَعْرَاف:189-190)
هناك حقيقة واقعية وهي أن بعض المؤمنين يدخلون أحياناً في دائـرة الشرك وإن لم يكن هذا الدخول بقطعية أهل الشرك. وكما تبين هذه الآية الكريمة فإن الحب المفرط للأولاد درب من دروب الشرك. فبدلاً من النظر إلى أولادنا وأحفادنا بأنـهم نعمة ولطف وأمانـة من قبل الله مودعة في رقابنا، ننظر إليهم وكاننا مالكون لهم، بل يقوم البعض بترك الصلاة والعبادة بسببهم فكأن حبهم للأولاد أكثر من حبهم لله تعالى. وبدلاً من حبنا للأولاد من أجل الله، نقوم بحبهم دون التفكير في الله “إن كان هذا التعبير جائزاً”ونحس بمستوى من العلاقة ومن العاطفة والحب يؤدي إلى درجة شرك ضمني دون قصد. إذن يجب التصرف حسب قاعدة “لا يسع قلب واحد حبين”. ونكون على أهبة دائمة ضد الشرك. طبعاً إن هذا سهل جداً من ناحية القول ومن ناحية مجرد الكلام، ولكن تطبيقه في الحياة أصعب مما يبدو. ومع ذلك فيجب أن نفعل كل ما في وسعنا للتطهر من الشرك، وبذل كل عناية لعدم الإقتراب من أماكن تشم على البعد منها رائحة الشرك. فإن فعلنا هذا يأتي دعاء الرسول صلىوسلمه كوصفة مهمة وضرورية “اللهم إني أعوذ بك من أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم”.
ويمكن النظر في موضوع حب الأولاد من زاوية مختلفة: قد لا يؤاخذ الإنسان في المسائل العاطفية. غير أنه مكلف من الناحية الدينية بتعديل مشاعره الفطرية. فمثلاً قد يكون أحدهم نـهما في الأكل والشرب وقد يتمنى عيش حياة ارستقراطية، ويظهر رغبة وحرصاً شديدين في هذا الأمر، فيتصرف دون أن يحسب حساباً لعواقب هذا السلوك. لأن الإنسان بفطرته خلق ضعيفاً أمام رغباته وبخيلا وعجولاً. فهذا موجود في فطرته. كما أنه يحمل بين جنباته بجانب مشاعر الحقد والكره والعداء مشاعر محبة ومشاعر إنسانية. وهذه الخصال بمثابة ممرين يؤديان إلى الشر وإلى الخير. لذا كان عليه القيام بسد المنافذ والأبواب المفتوحة في ماهيته على الشر، وأن يسيطر على مشاعره العدوانية بأفكاره وبمشاعره الدينية، وهذا ما ندعوه بالتعبير الديني “إكتساب الفطرة الثانية”، لكي يصل إلى الكمال المقدر له. أي أن يجعل من فطرته -التي يفتح لها الباب على كل شيء- باباً واحداً فقط مؤدياً به إلى الله تعالى وتقوية صلته به.
وحب الأولاد من هذا القبيل، فهو موجود في فطرة الإنسان، ولولا هذا الحب لما تلقى الأطفال أي رعاية، ولما اهتم احد بهم وبتربيتهم وتعليمهم. ولما تقدم لا البلد ولا الإنسانية. نرى حوالينا العديد من الأولاد الشقاة والعصاة، ومع ذلك يبقون في رعاية آبائهم وأمهاتهم. ولولا هذا الحب الموجود في فطرة الإنسان نحو الأولاد لامتلأت الشوارع بالاولاد المطرودين من البيوت. ولكن يجب ملاحظة ضرورة تعديل القلوب من ناحية هذه العاطفة -كغيرها من العواطف الأخرى- بعاطفة حب الله تعالى لكي يتم الوصول إلى الإستقامة المطلوبة. لأن الإرتباط بالله إن لم يكن هو محور الحياة فلا مناص من الإنحراف. لذا وجب نمو حب الله تعالى وتجذره في كل قلب. وهذا مرتبط برياضة وبتدريب معينين. أي إن قال أي إنسان لم يعرف في حياته أي رياضة روحية “إنني أهب مالي وولدي في سبيلك يارب!”كان هذا أحياناً رياءً وأحياناً كذباً. لأن من الضروري قبل هذا طرد الخصال القبيحة من الروح واستنبات الخصال الحميدة خصلة خصلة مكانها لكي تتشرب اعماق نفوسنا بالاسلام ويصبح قطعة من طبيعتنا ومن فطرتنا فتكون تصرفاتنا الجميلة طبيعية آنذاك. وإلا لما استطعنا التخلص من الثنائية في التفكير ومن الثنائية في العيش وفي التصرف.
والآية تنتقل من آدم عليه السلام إلى بني آدم فرداً فرداً وجماعة جماعة، وتمتد كسلسلة طويلة حيث تظهر ضمن وحدتها العامة وضمن نوعها تمايزاً واختلافاً، وغنى في محتواها. هذا الإنسان الذي إن أفلح في بلوغ الهدف سبق وبزّ بثوابه الملائكة، وإن أخلد إلى الأرض كان أدنى من الشيطان الملعون وأحقر. وعندما تذكر الآية هذه الحلقات الصالحة أو الفاسدة من هذه السلسلة للسلالة الإنسانية تستعمل أسلوباً معيناً في شرح هيئتها العامة لذا عندما ندرك هذا لا نحتاج إلى طرح سؤال: من هذه الأزواج؟ أهي آدم عليه السلام وزوجته حواء؟ أم قصي وزوجته من قريش؟ أم غيرهم؟
إن هذا الإنسان بروحه واستعداداته ومحتواه وخلقه وغناه مخلوق مع زوجه من نفس واحدة نستطيع أن نطلق عليها اسم “الفرد الحقيقي”، ثم خلق من هذا الإنسان -أو من جنسه- مخلوقات أخرى، بشكل أزواج. أي أنه خلق زوج الإنسان وشكّله من العناصر الرئيسة لماهيته، وجعل أحدهما محتاجاً للآخر. ومتمماً له، ويجد الطمأنينة والراحة معه، يفهم أحدهما الآخر ويشعر به ويستطيع أن يبثه ما يعتلج في قلبه… أي كل منهما وجه لوحدة واحدة من الخلق، فيتم التذكير هنا بوحدة الخلق، ويتم التذكير باننا كنا مظهراً للخلق ونعمته، أي عندما تمتليء قلوبنا بمشاعر الشكر تمتليء كذلك عقولنا وإدراكنا بأحاسيس الحمد أيضاً.