﴿اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾(الأَنْعَام:124)
ولادة الإسلام ورسالته في مكة ثم انتشاره في أرجاء العالم بعد ذلك مبنية على حكم عديدة. وكما يمكن تقييم الآية الكريمة ﴿اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ من هذه الزاوية أيضاً، يمكن تقييمها أيضاً من الناحية الإنتروبولوجية والجغرافية والتاريخية والإنسانية ومن ناحية المكان واللغة وسائر الأبعاد الأخرى للمسألة. أجل! إن الله تعالى هو أعلم بمن يختاره لنبوته ولرسالته، وفي أي مجتمع يظهر رسوله. كما أنه هو الأعلم متى يظهر رسالته وفي ضمن أي جو من الصراع الدولي والديني والإنساني وبعد بلوغ هذا الصراع أي مستوى يرسل رسولاً جديداً وديناً جديداً. والآن لنتفحص هذه الأمور:
1- البعد الإنساني للرسالة:
تشير هذه الآية إلى أن الله تعالى هو الأعلم بالرسول الذي يختاره ويودع إليه أمانة تبليغ هذه الرسالة الإلهية، ولمن يتم توجيه هذه الرسالة. وفي العهد النبوي كان هناك من يظن أن وليد بن المغيرة وعروة بن مسعود الثقفي أولى بالرسالة وأنسب. وقد ذكر القرآن رأي هؤلاء في هذين الشخصين في آية أخرى فقال: ﴿وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ (الزخرف: 31). ورد القرآن عليهم فقال ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ (الزخرف: 32). ولا شك أن قضية خطيرة جداً وأمراً خطيراً جداً مثل أمر النبوة لا يمكن تركه لرأي هذا أو ذاك. فاذا كان الله تعالى يعلم -وهو يعلم دون شك- اللطائف الإنسانية الموجودة في روح الإنسان وقلبه ويهدف إلى إحيـاء هذه اللطائف فيه فهو الأدرى بلاشك بانسب شخص للقيام بـهذه المهمة. لذا فالشخص الذي يشرفه الله تعالى بالرسـالة هو أنسب الأشخاص.
إن قيام الوليد بن المغيرة وغيره باستصغار نبينا صلىوسلمت والنظر إليه باعتباره غير أهل للرسالة يُعدّ اقترافاً لجرم كبير، وهم بـهذا العمل هبطوا في نظر الله تعالى إلى أوطأ درجة ومنـزلة واحقرها. والله تعالى يخبرنا بالهوان والصغار الذي سيصيب هؤلاء في سياق الآية نفسها ﴿سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ﴾ (الأنعام: 124).
والله تعالى يقول:﴿اللهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنْ النَّاسِ﴾ (الحج: 75) فما علينا إلا توقير واحترام من اصطفاه الله تعالى واطاعته. وإلا فابداء أي تذمر ضد من اختاره الله يهبط بمنـزلة ذلك الإنسان ويجعله حقيراً ومهاناً، ويكون محروماً من الفيوضات والبركات التي يتمتع بها الأنبياء والأولياء والأصفياء والمقربون.
أجل! مثل هذا الشخص -مهما كانت منـزلته- سيكون حبيس الهوان والصغار، ويحرم من كل الفيوضات الربانية.
ثم أن عظمة رسولنا صلىوسلما ولياقته وقابلياته معروفة ومسلم بـها في جميع العصور والعهود ومن قبل الجميع. ومع أن الكتب المنـزلة القديمة حرفت، فإن علماء أجلاء من أمثال العلامة رحمة الله الهندي والعلامة الجسر وجدوا في هذه الكتب أربع عشرة ومئة بشارة ونصاً حول مجئ هذا الرسول الكريم. أجل! فقد أجمع الأنبياء -اعتباراً من داود وسليمان وموسى عليهم السلام وانتهاءً إلى يحيى وزكريا وعيسى عليهم السلام- على البشارة بقدوم هذا الرسول الكريم، واخبروا أممهم وأقوامهم بأنه سيكون جامعاً لجميع فضائل الأنبياء عليهم السلام. وبـهذا الاعتبار فالرسـول صلىوسلما هو صاحب “مقام الجمع”.
أجل!… لقد تجلت فيه وحدة الأنبياء العظام، أي أن الرسول صلىوسلمً كان برسالته العالمية الشـاملة جامعاً لأفكار جميع الأنبياء العظام للإنسانية ورسالاتهم. لـذا فهو يعد من جهة تأسيس جميع قضايا الإيمان الضرورية مؤسساً، ويعد من جهة تصحيحه للتحريفات مصححاً، ويعد مجدداً في الأمور التي احتاجت للتجديد والتكميل، لذا فلا رسـول ولا نبي بعده. لأن قضايا العقيدة وصلت إلى وحدة متكاملة، فمن يأتي بعده سيمزق هذه الوحدة المتكاملة. لذا فهو الرسـول والنبي الأخير، أي هو خاتم الأنبياء والمرسلين. لأن الإنسانية وصلت بـه في الفكر والشعور وفي الدين والعقيدة وفي الإدارة والسلوك والطريق إلى جميع مفاتيح المغاليق في العقيدة والفكر والحياة بحيث لم تبق هناك حاجة لرسالة جديدة. لذا كان على الإنسانية جمعاء تنظيم جميع قضاياها الحيوية في ضوء هذه الرسـالة الأخيرة وعلى هداها.
والجانب الآخر لهذا الموضوع هو أن نبوة محمد صلوسلميع ورسالته كانت قبل جميع الأنبياء والمرسلين. فقد ورد في أحد الأحاديث: “أول ما خلق الله نوري”، وفي حديث آخر “كنت نبياً وآدم منجدل في طينته”أي أن تخطيط إرساله نبياً كان قبل الجميع، وقد تناول المتصوفة هذا الأمر تحت عنوان “الحقيقة الأحمدية”ووقفوا عندها كثيراً. وهم يرون أن الحقيقة الأحمدية هي في الوقت نفسه حقيقة الكون، وأرادوا به اظهار عظمة الرسول صلىوسلمة وانه كان مظهراً لأعظم رسالة.
من المفيد هنا أن نقف لحظة أمام هذا الأمر الآتي: إن الرسول صلىوسلمن وصل إلى مرتبة لم يصل إليها أحد. إذا أخذنا بنظر الاعتبار النور الذي نشره من ناحية الكم ومن ناحية الكيف أيضاً، ولا يستطيع أحد الوصول إليه. وهذا من الناحية العملية أكبر دليل وبرهان على عظمة الرسالة التي حملها ونشرها.
ذلك لأن مئات الأديان كالبوذية والبراهمية والطوطمية وغيرها وحتى الأديان السماوية كالمسيحية واليهودية قد أصابـها التحريف والتبديل بنسبة ما باستثناء الإسلام. قد تكون المسيحية اليوم أكثر انتشاراً من الإسلام، غير أنه من الصعب اليوم العثور على المسيحية الحقيقية حسبما جاء بـها السيد المسيح عليه السلام، ومن الصعب اليوم أن تفهم المسيحية التي غرقت في لجة تأويلات وتفسيرات معقدة. ولو لم نطلع في القرآن الكريم على الهوية الحقيقية للمسيح عليه السلام، لما كان بامكاننا قبوله بالشكل المقدم في الكتاب المقدس في خضم التناقضات العديدة الموجودة حوله. لأن عيسى عليه السلام الذي يظهر أمامنا في انجيل يوحنا وفي إنجيل متى ولوقا لا يختلف في شيء عن الله تعالى “حاشا لله”، فهو على العرش بجانب الله ويتقاسم معه الربوبية، ولا تتخلص الإنسانية من خطيئتها المتوارثة -حسب زعمهم- ولا تستطيع أن تدخل الجنة التي فقدتها إلا بفضله. أجل!… إن ماهية المسيح عليه السلام معقدة ومضطربة وبعيدة عن التصديق إلى هذه الدرجة في النصوص الحالية للكتاب المقدس. ومثل جميع الحقائق الأخرى، فلم نعرف حقيقة المسيح عليه السلام إلا بفضل رسالة نبينا صلىوسلمل ….؟
2- البعد المكاني للرسالة:
﴿اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾، بنشأة رسولنا صلىوسلمو في مكة حكم عديدة أيضاً من ناحية الرسالة. فمعلوم أن مكة المكرمة تحيط بسرة الأرض. والكعبة سـرة الأرض وقلب الوجود. ويقول بعض الأولياء من أرباب الكشف أن الكعبة والرسـول صلىوسلمب خلقا معاً، وإن حقيقة الكعبة والحقيقة الأحمدية مترافقتان ومتقارنتان. ففي نـزول الحقيقة الأحمدية اخطأ بعض الأولياء عندما قالوا إن حقيقة الكعبة متقدمة على الحقيقة الأحمدية. بينما الحقيقة الأحمدية لم تتأخر عن حقيقة الكعبة ابداً.. وهاتان الحقيقتان وجهان لوحدة واحدة. ولو أريد لأي دين عالمي أن يمثل في الأرض لكانت مكة المكرمة -التي نشأ فيها الرسول صلىوسلم – هي أفضل مكان له. ثم ألا يصفها القرآن الكريم بأنـها “أم القرى”؟ أجل إنـها أم المدن وأم القرى وقد عملت كحاضنة للرسول صلىوسلمل في نشأته، بل غذته كما يغذي رحم الأم الجنين. إن النبي موسى عليه السلام لم يتلق رسالته إلى بني إسرائيل من “الأيكة”، بل من الأرض المباركة طور سيناء. وكما رنّت هذه الأرض بالدين الموسوي، وكما تلقى موسى عليه السلام رسالته الأولى إلى بني إسرائيل من هذه الأرض حسب مستواهم، كذلك ما كان لرسالة القرآن العالمية الشاملة في الزمان والمكان أن تنطلق إلا من البلدة التي توجد فيها الكعبة… وهكذا كان.
والجانب الآخر من المسألة هو أن مكة كانت بلدة استراتيجية من وجوه عدة، إذ كانت ملتقى عدة دول آنذاك… كانت كالساحل الذي تضربه الأمواج تتكسر عليه. كما كانت مكة والمدينة مهداً لمدَنيات قديمة مثل مدَنية سبأ وحضرموت وصنعاء، ويقال إن المسافر الذي كان يخرج من المدينة متوجهاً نحو حضرموت كان يسافر في ظلال وارفة ولا تمسه الشمس حتى وصوله إلى حضرموت. وألا يذكر القرآن هذه الجنان ويصفها بجنة الأرض أو جنة عدن؟. وهكذا كانت مكة والمدينة مهدين لمثل هذه الحضارات القديمة كما كانتا على علاقة بمدنية بيزنطة في روما ومدنية الساسانيين في إيران. وقد التقت ثقافة روما بواسطة مدينة انطاكيا، مع ثقافة مصر القديمة “أنتجت”أو “أتجبت”مدينة الإسكندرية التاريخية.. كانت روما تعد آنذاك القوة العالمية العظمى، وقد نـزلت سورة “الروم”في حق القوى العظمى في تلك الأيام. وفي سنوات الولادة أسست الإمبراطورية الساسانية حكمها في اليمن لفترة معينة. وقامت أحياناً بتحريض اليمن ضد أهل مكة. ولم يكن مجئ جيش أصحاب الفيل إلى مكة لتخريبها إلا نتيجة تحريض الساسانيين ولكن الله تعالى لم يسمح أن يصيب مكة أي ضرر، وأبقاها بلدة آمنة.
لذا يمكن القول من هذه الزاوية بأن الجزيرة العربية كانت أرضاً ملائمة لتقديم رسالة الإسلام العالمية. أجل إن رسالة تخاطب العالم أجمع يجب أن تنبثق من مكان بحيث ما أن تظهر هذه الرسالة للوجود حتى يكون بالإمكان نشرها في العالم. وكانت مكة والمدينة صالحة من الناحية الإستراتيجية لهذا الأمر. فما أن وقفت دعوة هذه الرسالة على قدميها في هذه الأرض المباركة حتى واجهت هاتين الحضارتين وهاتين الثقافتين. ثم بواسطة هاتين الحضارتين وهاتين الثقافتين استطاعت هذه الرسالة الوصول إلى أمم وشعوب عديدة. فبواسطة إحداها وصلت إلى أبواب اوروبا، وبواسطة الأخرى وصلت إلى أقاصي آسيا لكي تؤدي مهمتها العالمية الشاملة.
كانت مكة آنذاك مركزاً تجارياً مهماً يأتي إليها التجار من مختلف البلدان للاستيراد وللتصدير وكانت مكة مدينة صالحة للتجارة صيفاً وشتاءً، وكما جاء في القرآن فإن قوافل التجارة كانت تسير إلى الشام وإلى اليمن من مكة، حتى إن مكة اصبحت قلب التجارة في تلك المنطقة، حتى إن المسلمين عندما هاجروا من مكة إلى المدينة نافسوا تجار اليهود الذين كانوا يحتكرون التجارة في المدينة، وبعد فترة عجز التجار اليهود عن منافستهم. وهذا يرينا أن التجار المكيين كانوا بفضل تمرسهم بالتجارة الدولية على علم بالبنية الاجتماعية والثقافية للدول العظمى. ونعرف اليوم بشكل أفضل بأن فهم الطابع الاجتماعي والخصائص الاجتماعية العامة لأمة والاطلاع على اهتماماتها، ومعرفة بنيتها الاقتصادية من أهم الأسس في إقامة العلاقات معها. كان أهل مكة في ذلك العهد على علم بثقافة وعادات الأمم المجاورة بفضل العلاقات التجارية التي اقاموها معها. وكان هذا الأمر ملائماً لتشكيل أساس مناسب للدعوة إلى الرسالة التي ظهرت هناك فيما بعد. أجل!… إن ظهور الرسول محمد صلىمسلهج برسالته العالمية الشاملة في ذلك المكان المبارك، في مكة المكرمة أمر هام جداً. ولو قمت بتغيير هذا المكان أي لو أخذت هذه الرسالة من مكة ومن المدينة ونقلتها إلى الطائف أو إلى الرياض أو إلى عمان لتغيرت موازين عديدة وخسرنا جميع المميزات التي كانت تتميز بها مكة، وهذا يعني أعاقة نمو هذه الرسالة وانتشارها. أجل!… إن مكة والمدينة كانتا مدينتين ضروريتين للدعوة وللرسالة.
ويجب أن نذكر أيضاً إن ظهور هذه الرسالة في جو صحراوي ملتهب يعد شيئاً إيجابياً. فمثل هذه الصحارى بلعت غزاة عديدين مثل نابليون وهتلر وقواد الرومان وغلبتهم. أما المجاهدون المسلمون الأوائل الذين كانوا قد تعودوا على مشاق هذا المناخ فقد انتصروا في كل معركة دخلوها. بينما كان الآخرون يتقدمون بصعوبة في هذه الربوع، أما المجاهدون المسلمون فقد كانوا -متأقلمين مع هذه الطبيعة المناخية والجغرافية- يستطيعون التقدم بكل سهولة وبكل سرعة كما كانوا يملكون تفوقاً لوجستيكياً. فمثلاً لو أن جيشاً متعوداً على مناخ تركيا أو مناخ الشام دخل معركة تبوك لكان من المحتمل أن يكون التلف مصير مثل هذا الجيش.
وهناك مسألة أخرى، وهي أن جزيرة العرب لما كانت صحراء قاحلة لم تكن الدول الكبرى تطمع فيها، كما لم يكن البترول ولا الثروات الأخرى معروفة آنذاك. وكانت نباتاتها وأشجارها وأراضيها الخضراء قليلة جداً. لذا لم تكن مكة ولا المدينة -خارج أمور التجارة- مدناً يطمع فيها الآخرون أو يحبون استكشافها. لذا بقيتا مصونتين من احتلال الدول الأخرى. ومع أن الدول الكبرى آنذاك كانت تبعث من حين لآخر بعض الولاة إلى هذه الأماكن المباركة. ولكن هذه الدول كانت تعلم أنه لا يوجد لها ما تنتفع به في هذه الأماكن. لذا لم تنفذ ثقافات هذه الدول إلى هنا ولم تقم بإفساد فطرة الناس فيها. لذا وجد الإسلام الفرصة لكي يقوم بنشر عقائده الصافية والمصانة من تأثير المدنيات والثقافات الأخرى، في ربوع العالم بأسره. ولو حدث العكس، أي لو تعرضت مكة والمدينة لاحتلال فكري وثقافي اجنبي، لصادفت رسالة الإسلام صعوبات اضافية. لقد وجدت الثقافة الإسلامية في هذا المركز الأمين مهدها مثلما يجد المطر أرضه الصالحة التي تتفجر منها الينابيع الثرة التي لا تستطيع الدلاء تكديرها. لذا لم تستطع لا عقيدة الساسانيين ولا عقيدة روما الوثنية تكدير النبع الصافي لهذه الرسالة، فحسب مثل “لا تكدره الدلاء”لم تكن الدلاء المدلاة إلى هذا النبع الصافي -المستند إلى الفيض الأقدس وإلى الوحي والمحفوظ تحت أمن الجناح الألهي- قادرة على تكديره.
وهكذا فإن مكة الحائزة على صفة مميزة وهي كونها بمثابة مسقط لسدرة المنتهى، وكذلك بسبب موقعها الجغرافي المتميز كانت تملك أهمية كبيرة كمكان صالح للرسالة. وانتقلت أمانة حمل هذه الرسالة فيما بعد إلى مدن أخرى بعد تغير الموازنات الدولية والخصائص الاستراتيجية، ولكننا ننظر الآن إلى فترة ظهور الرسالة، وهي الفترة التي تشير إليها الآية الكريمة. لأننا نعلم أن مدينة بغداد والشام واستانبول اصبحت في عهود مختلفة مركزاً لانتشار الإسلام زمنا طويلاً. وحتى في العهد الذي كانت فيه استانبول تمثل الرسالة كانت مكة والمدينة محافظتين على مكانتيهما المباركتين كقرة عين للعالم الإسلامي وتاجاً على رأسه.
3- البعد اللغوي للرسالة:
يأتي في عدة آيات موضوع نـزول القرآن باللغة العربية. وهذا يبين كمال اللغة العربية ولاسيما في ذلك العهد. أجل!.. كانت اللغة العربية تعيش عهدها الذهبي الزاهر في ذلك العهد. إن لكل لغة عهدها الذهبي، فمثلاً كان عهد الملكة اليزابيث والكاتب شـكسبير العهد الزاهر للغة الانجليزية والظاهر أنـهم لم يقعوا في اخطاء في موضوع اللغة مثل ما وقعنا نحن. كما أن الانفتاح على علم التكنولوجيا وعلى الثقافات المختلفة يكسب اللغة غنى وثروة. وقد نظر الانجليز على الدوام باحترام وتوقير إلى هذا العهد. ويعد العهد الذي نـزل فيه القرآن العهد الذهبي للغة العربية إلى درجة أن أبسط بيان آنذاك كان يصاغ في آية من الروعة. لقد نـزل القرآن بلغة قريش ولكنه كان مفتوحاً أيضاً على لهجات القبائل الأخرى كذلك.
لقد بحث العديدون وكتبوا حول الناحية الأدبية للقرآن الكريم، وقد ظهر عباقرة عديدون في هذا الموضوع من أمثال عبدالقاهر الجرجاني والسكاكي والزمخشري في الماضي وحتى مصطفى صادق الرافعي وسيد قطب في عصرنا الحالي والعلامة سعيد النورسي صاحب كتاب “إشارات الإعجاز”.
لقد تحدى القرآن معارضيه منذ نـزوله وحتى اليوم ببلاغته وإعجازه، فكم من أديب وبليغ حاول الإتيان بمثله أو تقليده، ولكنهم خابوا وفشلوا. وكم من محب له زين مقالاته واشعاره بآياته وببليغ بيانه. ولكن لم يكن بمقدور أحد الوصول، أو الاقتراب من قمته، ولا يزال القرآن حتى اليوم -وهو يقرأ من قبل البلايين- يهمس لنا وهو يبتسم من سماء الوحي باستحالة الوصول إلى بلاغة اسلوبه وبيانه. وفي عهد الجاهلية كم من شاعر وأديب استسلم للقرآن الكريم عند سماعه له مرة واحدة، بل إن الوليد بن المغيرة -على الرغم من عداوته للإسلام- بُهت أمام بلاغة القرآن.
كما سحرت بلاغة القرآن اعدى أعداء الإسلام من أمثال عتبة بن أبي ربيعة وأبي جهل، ولم يجرأ أحد على تحديه. انظروا مثلاً إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي كان مطلعاً على الأدب الجاهلي وعلى الشعر الجاهلي إلى درجة أنه قال مرة بانه يستطيع أن يقرأ ألف بيت من شعر العرب.. هذا العقل الكبير بُهِتَ وسُحِر عندما استمع إلى سورة طه فاستسلم للقرآن مع أنه كان قد قرر قتل الرسول صلىوسلمي .
وحسب بعض الروايات والنقول لو اوقفت في ذلك العهد أي شخص ماراً في درب من دروب مكة وطلبت منه قراءة بعض أبيات من الشعر لاستطاع أن يقرأ لك شعراً طوال أربع أو خمس ساعات… كان هذا هو مبلغ انتشار الأدب بينهم. وعندما نـزل القرآن، نـزل بهذه اللغة الغنية. وقد نـزل بآيات يستطيع البدوي الإعتيادي فهمها، كما يستطيع الشاعر الفحل تذوق جمالها الأدبي. أجل!… فكما كان البدوي يحدو بايات من القرآن وهو يسوقُ أبله، كان أفصح البلغاء والأدباء يقرأونه بلذة ونشوة روحية وأدبية كبيرة.
هذا هو ضمن ما تعنيه آية ﴿اللهُ أعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رسَالَتَهُ﴾ فهو الأعلم بأي لغة ينـزل هذه الرسالة. لقد نـزل القرآن بلغة تُمكِّن القانوني من مراجعته من زاوية علم القانون فيجد فيه بغيته بسهولة، ويستطيع الإداري والمختص بعلم الكلام والمفسر مراجعته كل في ساحة اختصاصه فيجد فيه كل دقائق ساحة علمه واختصاصه ويستفيد منه. مع أنه من المعلوم أن لغة القانون شيء ولغة التفسير ولغة علم الكلام ولغة الأدب ولغة العقائد شيء آخر، وهذه اللغات يختلف بعضها عن البعض الآخر. ولكن القرآن يراعي جميع دقائق اللغة في جميع هذه الساحات المختلفة ولا يخل بأي قاعدة أو أساس فيها. وهاكم التاريخ الإسلامي وهاكم العلوم الشرعية وهاكم المدارس الفقهية “القانونية”المختلفة، وهاكم العشرات من المدارس الأدبية وهاكم آلاف المحققين والمدققين والمفسرين الذين انجبتهم هذه المدارس المختلفة… كل هؤلاء على آلاف مشاربهم وأذواقهم عدوا القرآن أهم مرجع لهم فكتبوا الآلاف من الكتب على ضوئه.
إذن فالله تعالى أعلم حيث يجعل رسالته… لمن يعطي هذه الرسالة، وفي أي بلد وبأي لغة ولا نقول أن الله أعلم بهذا من ناحية النسبة، بل نقول هذا ونعنى به أنه العليم الوحيد، ولا يكون لأي أحد آخر أي نصيب من هذا العلم، ولا يملك أي أحد آخر مثل هذا التقدير، ولا يحقق له هذا أبداً، ومن يدعي هذا يكون له الخزي في الدنيا وفي الآخرة.