﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾(البَقَرَة:2)
كلمة “هدى”الواردة في الآية الكريمة هي بصيغة المصدر، وتحمل معنى أن الإنسان لا يستطيع الوصول إلى الهداية وإلى الهدف المنشود وراءها دون جهده الخاص، وبتعبير آخر فإننا إن أخذنا التنوين أيضاً بنظر الاعتبار نعلم بأن هذا الكتاب -الذي لا توجد فيه ذرة واحدة من الشك والريبة- هو مصدر الهداية للمتقين… للمتقين فقط، لأن نفوسهم خلت من الشبه والريب، وتوجهت قلوبهم وأرواحهم لتقبل الحق ورعاية سنن الفطرة الإلهية وشريعته الغراء، وصفت نفوسهم واستعدت لقبول الهداية والاستفادة منها دون أن يمنعهم عن ذلك أي فكر أو حكم مسبق.
ولكن كلمة “هدى”الموجودة في آخر الآية ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾ (البقرة: 5) مذكورة بصيغة المصدر، أي أن الله تعالى قد يتكرم على عباده بالهداية دون وجود علاقة السبب والنتيجة التي خلقها وجعلها من أسباب الهداية. وباب التقوى هو الباب الذي يوصل وينفتح على هذا الكرم والعطاء. والمرتبة الأولى لمثل هذه التقوى هي الإيمان والمعرفة الحقة، والمرتبة الأخيرة هي الوصول إلى مرضاة الله تعالى. وكما جاء في التصريح المختصر للآية لا يجد طريق الخلاص إلا من وصل إلى هذا المستوى من التقوى. ثم إنه على الرغم من سياق الآية وكون الهداية مرتبطة بايجاد الله تعالى لها فإن وصول الإنسان إلى الأمن والأمان وإلى الاطمئنان في الدنيا، وإلى الفلاح يوم القيامة يرجع بمقياس كبير إلى سلوكه وتصرفاته التي يبديها بإرادته الحرة.
اذن يمكن القول باختصار بأن كلمة “الهدى”الأولى سبب، وكلمة “الهدى”الثانية نتيجة مُضَمَّخَضة بعطر اللطف والإحسان، وكلتاهما جواب لدعاء “اهدنا”الوارد في سورة الفاتحة، وبيان كذلك لكيفية السلوك للموجودين على الصراط.
﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا﴾(البَقَرَة:10)
يرد في بعض التفاسير بأن ﴿فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً﴾ هو من باب “الجزاء من جنس العمل”، لكني أرى أن من الأفضل الاقتراب إلى معنى الآية هكذا:
ان الله زاد قلوبهم مرضاً لأنهم تلوثوا بالشرور والمعاصي في مستوى النية، وكلما وجدوا الفرصة مواتية حاولوا تحقيق نياتهم الشريرة هذه، وكلما زادت الأسباب زادت النتائج، وهذا يعني دخولهم داخل حلقة مفرغة. أي إنهم لم يستطيعوا تخليص قلوبهم من هذه النيات السيئة، بل لم يفكروا أصلاً بهذا، وهذه النيات السيئة ولّدت نيات سيئة أخرى، والأعمال التي بُنيت على هذه النيات أنتجت وولّدت أعمالا أخرى، وبالدخول إلى مثل هذه الحلقة المفرغة تم هلاك المنافقين. إذن فعندما نقوم بتفسير الآية ﴿فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً﴾ علينا أن ننظر إلى معناها كنتيجة طبيعية للدخول إلى هذه الحلقة المفرغة.
إن صحة البدن هي الأساس والقاعدة والمرض شيء عارض، كذلك فالفطرة السليمة هي الأساس، والمرض القلبي هو الاستثناء، لذا فمن لا يهتم بصحة قلبه وصيانته وتهيئة جميع الشروط المعنوية لوقايته، يدع هذه اللطيفة الربانية لقمة سائغة للفيروسات والجراثيم. ومع أن البداية قد تكون شيئاً صغيراً، فإن الانتقال من خطأ إلى آخر، ومن ذنب إلى ذنب، ومن معصية إلى اخرى، سيؤدي في الأخير إلى انفراج الزاوية، وإلى معاص كبرى تفوق حد التصور. أي يؤدي إلى كبرى المعاصي وهي الشرك بالله لأن هناك طرقاً عديدة مؤدية إلى الكفر.
إن كان فساد العقيدة أو التقلب بين الشبهات والريب هو مرض المنافقين، فهذا يعني في الوقت نفسه وجود قابلية كامنة للكفر والالحاد. فإن لم تتدارك العناية الإلهية هذا المرض، ولم تتكسر الحلقات الموصلة من المعاصي إلى الكفر، فإن المعاصي بتزايدها أضعافاً مضاعفة قد تؤدي إلى الكفر. بل يحدث أحياناً أنَّ الإنسان عندما تحيط به الشكوك والريب قد تكون سبباً في قطع الخط الموصل بينه وبين الله فيزداد إرتيابه في كل شيء ويحسب أنه هو وجميع الناس في هذا الشك سواء فيظلُّ يتلوى في أجواء هذا الشك أضعافاً مضاعفةً. أنه عندما تحيط به الشكوك والريب في الخط الموصل بين الله وبين نفسه، ويرتاب في كل شيء ويقيس الآخرين على نفسه، لذا يعيش متقلبا في شبه وشكوك وتردد في مستوى الإلحاد… يعيش هذا في نفسه ويتوهم أن الآخرين أيضا مثله دون إيمان ودون إذعان ولا يمكن الوثوق بهم أو الاعتماد عليهم… أي يعيش في عالم صنعه خياله المريض ووهمه، وينتهي به الأمر بالانسحاق تحت هذه الأمراض.
﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ﴾(البَقَرَة:17)
تصور هذه الآية الكريمة العالم الداخلي وتبرزه أمام الأنظار بمثال ملموس ومشاهد.
فنظراً لكون المنافقين يعيشون بين المسلمين ويختلطون بهم لذا يتيسر لهم أحياناً لمحة من نور الإيمان. ولكن النفاق المتغلغل في قلوبهم ورؤوسهم يمنعهم من الاستفادة من هذا النور.
أجل! إن هؤلاء المنافقين قد انقلبوا إلى وضع لا يبصرون مع أن عيونهم مفتوحة، إما بسبب عدم الاهتمام بنور المشعلة التي يحملها الرسول الأكرم في يده أو الإستهانة بها، أو بسبب إفساد استعداداتهم الفطرية. ولكنهم مع هذا يواجههم نور المشعلة الذي يأخذ بالأبصار، وبدلاً من النظر إليه بعين الإيمان نراهم يسارعون بشكوكهم وترددهم بطمس القوة النابعة في أرواحهم ويزيلون تأثيرها. حتى إن كلمة “استوقد”تشير إلى أنـهم كانوا يخططون لكيفية قلب هذا النور إلى نار محرقة بدلاً من الاستفادة منه في قطع الطريق.
أما الكفّار فلم يتعرفوا على الإيمان وعلى النور المنبعث منه أبداً… لم يروه أبداً، ولم يدخلوا في جوه القدسي. لذا عندما أحس الكافرون -لهذا السبب أو ذاك- بهذا النور في وجدانهم “باستثناء المعاندين منهم”حاولوا التمسك به وقضاء بقية حياتـهم كمؤمنين مخلصين. ولا شـك أن للفرق بين النور والظلام وبين الإيمان والكفر دوراً كبيراً في هذا. فالذين كانوا يرون من قبل أشياء أخرى عندما رأوا هذا النور دخلوا إلى عالم جديد… عالم يحف به جمال الإسلام وجاذبيته. لهذا عندما نقارن بين تدين الذين يسمعون عن الإسلام ويتعرفون به للمرة الأولى ويؤمنون به ويعيشونه، وبين تدين المسلمين المولودين في البلدان الإسلامية -إلا القلة منهم- يفهم بشكل أوضح صحة ما قلناه أعلاه.
﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾(البَقَرَة:18)
﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾(البَقَرَة:171)
إحدى الآيتين متعلقة بالمنافقين والأخرى بالكفار. وكما هو مشاهد هنا فهناك قاسم مشترك بين المنافقين وبين الكفار في موضوع التعصب وعدم التحمل وعدم اللين، وفي زاوية النظر والفكر الباطل. لذا يوصف كلا الطائفتين بأنهم صم بكم وعمي. ولكن الأسباب بين الفريقين مختلفة حسب الآيتين. فالسبب في الآية الأولى يرجع إلى عدم رجوعهم إلى فطرتـهم الأصلية السابقة، أما السبب في الآية الأخرى فيعود إلى عدم استعمالهم لعقولهم. والعنصر المشترك الذي يجعلهم صماً بكماً وعمياً هو عدم اهتدائهم إلى الخالق جل شأنه بقراءة كتاب الكون الموضوع أمام أبصارهم وأعينهم كمعرض الهي بديع، وعدم قيامهم بتقييم هذا الكتاب حق تقييمه ولا بتدقيق الوجود والحوادث ودرسها وأخذ العبر منها، وعدم إعارة سمعهم للكتب المنـزلة ولصوت وجدانهم وضمائرهم. ولو أنهم قاموا بهذا لأسرعوا كالمؤمنين إلى شهادة “لا إله إلاّ الله”، أي لكانوا قد استعملوا عقولهم ورجعوا إلى فطرهم الأصيلة، وأمضوا حياتهم حسب الدستور والقانون الإلهي، وحسب أوامره ونواهيه. أجل إنهم صم لأنهم لا يستطيعون سماع كل شيء وهو يسبح الله تعالى بلسانه الخاص ويمجده. وهم بكم لأنهم لا يستطيعون الكلام عمَّا يحسونه في أعماق وجدانهم ولا يستطيعون التصريح به. وهم عمي لأنهم لا يرون الطرق والسبل الدالة على وجود الله تعالى ووحدانيته.
إن جئنا إلى خلاصة الآية، نرى أنها تصف الكافرين بأنـهم لا يعقلون، أي لا يستعملون عقولهم ولا يفكرون، والأمر كذلك لأنه لو كانوا يستطيعون التفكير، أو لو فكروا لكان في إمكانهم العثور على الطرق المؤدية للإيمان بكل سهولة، بدليل أن هؤلاء الكافرين المعاندين والمتمردين الذين آذوا الرسول الكريم صلىوسلمل وأصحابه في مكة سنوات طويلة وساموهم العذاب عندما عرفوا المسلمين بعد صلح الحديبية معرفة أفضل في ذلك الجو الهادئ تركوا عنادهم القديم ونظرتهم الجامدة القديمة، وعرفوا أنهم كانوا على خطأ كبير. لذا توجهوا نحو الحق. أجل وصول الكافرين إلى هذه النقطة الهامة مرتبط بإمعانهم بالتفكير والتقييم، لذا رأينا القرآن الكريم يلخص أمرهم في هذا الخصوص فيقول بأنهم لا يعقلون.
أما المنافقون الذين ذكر القرآن في حقهم أنهم ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إلى هؤُلاَءِ وَلاَ إلى هؤُلاَءِ﴾ (النساء: 143) أي مذبذبين بين الكفار وبين المؤمنين… تارة تراهم هنا وتارة تراهم هناك… يعانون من حرمان ضياء عيونـهم وضياء الشعور والإدراك لديهم. ثم إنـهم لكونـهم يحسبون أن الحياة منحصرة فقط في هذه الحياة الدنيا نراهم في حُمَّى الانكباب على لذائذ هذه الدنيا، لذا فالإيمان والكفر سواء لديهم، فأينما وجدت المتعة والحياة الناعمة المرفهة ذهبوا إليها، وعندما يرون مصلحتهم في الذهاب إلى المسجد يذهبون اليه. ولكن ﴿وَإذَا قَامُوا إلى الصّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ﴾ (النساء: 142) أي أنهم يديمون حياتهم بمعنى من المعاني في خط الإسلام ويأخذون أماكنهم خلف رسول الله صلىوسلمن ولكن بعيون عمياء لا ترى وبقلوب مظلمة، وبفكر خال من الإيمان ومن الصدق والإخلاص. أي أن خيبتهم الكبرى وسوء حظهم يكمن في عدم الإخلاص. وهكذا يستعمل القرآن الكريم في حق أمثال هؤلاء بأنـهم “لا يرجعون”أي لا يثوبون إلى الحق وإلى الحقيقة، ولا يثوبون إلى فطرة خلقهم السليمة. ومن هذا المنطلق نرى في أوصافهم الواردة في سورة المنافقون بأنـهم “لا يعلمون”و”لا يفقهون”، ولكن لا يرد في حقهم أوصاف من أمثال “لا يعقلون”أو “لا يتفكرون”، لأن هذه الأوصاف متعلقة بعدم الإيمان.
﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾(البَقَرَة:25)
إن آيـة ﴿وأُتُوا بِـهِ مُتَشَابِهاً﴾ تشير إلى مشابهة من زاوية نيل النعم والألطاف، وحسب تشبيه الأستاذ سعيد النورسي فهذه النعم المتشابهة قد تكون من ألطاف هذه الدنيا، أو من ألطاف الآخرة. فمثلاً يحمد الإنسان في هذه الدنيا أي يقول “الحمد لله”فيجد هذا الحمد بشكل ثمرة في الآخرة. أي أن كل تكبير وتسبيح وتهليل هنا هو بمثابة نوى وبذور منثورة ومزروعة في التربة تنتج نعماً مختلفة في الجنة. ولكن يجب الإشارة إلى شيء مهم في هذا الصدد وهو أننا لا نعرف العلاقة بين هذين الشيئين معرفة تامة.
والحقيقة أننا ننظر إلى كل شيء ضمن دائرة الأسباب، فنبقى تحت تأثير الأسباب عند قيامنا بالتحليل والتركيب الفكري. غير أن هناك أموراً عديدة تحدث في دنيا الأسباب هذه بحيث تقوم بإظهار هذه الحقيقة التي تذكرها هذه الآية أمام عيوننا بكل قوة. فمثلاً لم يقم أحد بحصاد الشعير من مزرعة زرعها بالحنطة مع أنهما من الصنف نفسه. ولا نقطف الكمثري من شجرة التفاح، ولا التين من أشجار العنب. كان الرسول صلىوسلمَ يأتيه الوحي، ولكن بينما كان الرسول صلىوسلمم يفهم ما يقوله جبريل عليه السلام لم يكن القريبون منه يسمعون شيئاً حتى ولا شيئاً كأزيز نحلة. وكذلك نـزول الله تعالى في الثلث الأخير من الليل إلى السماء الدنيا… ومئات من الأمور الأخرى… فهل نستطيع أن نقول أننا نفهم مثل هذه الأمور في إطار “السبب – النتيجة”؟
أجل فكما قال الإمام الغزالي فإننا لا نستطيع أن نفهم بعقولنا الدنيوية أي بـ”عقل المعاش” -أي بعقولنا التي نستعملها في معاشنا- مثل هذه الأمور المتعلقة بالآخرة فهما جيداً. ولكن عندما نُجهز في الآخرة بـ”عقل المعاد”عندئذ نستطيع فهم العلاقة بين قول “سبحان الله”وبين تناول ثمرة الجنة، لأن كل شيء يجري هناك حسب قوانين غيبية وميتافيزيقية، ونرى ونفهم بكل وضوح العلاقة السببية بين المكافآت والنعم الموجودة هناك وبين العمل هنا.
أجل… إن القوانين الفيزيائية الموجودة هنا لا تكون سارية هناك. فمثلا يقول الرسول صلىوسلمئ بأن صلاتنا ستكون أنيسنا وجليسنا وصديقنا في القبر، وإن الإنسان يدخل الجنة من أبوابها الثمانية المختلفة، وأن القرآن يتمثل ليكون شفيعاً لقارئه.
والآن لنأت إلى الآية… يقول فخر الدين الرازي بأن هذه الأمثلة تُعطى في القرآن الكريم لكي يتم فهم المسائل بشكل أفضل، وليس هناك من شيء مستبعد. أما الماهية الحقيقية للشيء فستظهر بكل خطوطها وتفاصيلها الحقيقية هناك، وعند ذلك يقول المؤمنون من أصحاب الأعمال الصالحة، “لقد رأينا هذا الشيء في الدنيا”أو “رأيناه قبل قليل في الجنة”.
أجل، إن نعمة ما هي إما ثواب عمل ما، أو تمثل ذلك الثواب. أو أن الألطاف السرمدية هناك هي سنابل لبذور العمل الصالح هنا. لذا فهما بهذا الاعتبار متشابهتان من الزاوية الداخلية. أما باعتبار أبعاد الجنة فهناك فرق هائل بينهما يسع الدنيا ويتجاوزها، لأن إحداهما ثمرة للحكمة والأخرى ثمرة للقدرة. إحداهما تحمل صفة السرمدية، والأخرى مؤقتة وزائلة. إحداهما تملك أبعاد لذة سرمدية، والأخرى أبعاداً جسدية. إحداهما إحسان بدرجة “عين اليقين”، والأخرى لطف رحماني في ذروة “حق اليقين”.
﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾(البَقَرَة:30)
كانت الملائكة قد علمت هذا بالعلم الخاص الموهوب لها. وهذا يعني اطلاعهم -بمقياس ما- على لوح المحو والإثبات. ففي العلم الإلهي لا يوجد هناك علم بالأول ثم بالآخر، ولا علم بالجنين ثم بالإنسان الكامل، ولا بالالكترون ثم النواة… الخ. لأنه علم يحيط بكل شيء في اللحظة نفسها. لذا فعندما نقول في موضوع أخذ العهد والميثاق بأن الله أخذ العهد والميثاق في عالم الأرواح أو في رحم الأم. فهذا قول صحيح إلا أنه ناقص ومحدود. وربما كان من الأفضل القول إنه لا يزال يأخذه، لأن عالمنا متغير في كل حين، أما بالنسبة للحق تعالى فالتغير غير وارد في حقه. والحقيقة أن قول “جددوا إيمانكم بـ”لا إله إلا الله”لا يمكن فهمه إلا عندما نفهم فكرة أخذ العهد والميثاق ضمن هذا العلم المحيط بما كان وبما هو كائن وبما يكون.
والآن لنعد إلى موضوعنا مرة أخرى:
كانت الملائكة قد اطلعت من لوح المحو والإثبات على أن الإنسان سيفسد في الأرض وسيسفك الدماء، لذا استفسروا هذا الاستفسار، مثلما نقول عندما نقابل أناس سوء: لماذا خلق الله أمثال هؤلاء؟ ومن المحتمل أن الملائكة لم تطلع ولم تحط علما بخروج الأنبياء والأصفياء والأولياء “الذين يعدون شموس الإنسانية وبذورها”من بين الناس، ولهذا ألم يقل الله تعالى جواباً لهم ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 30)؟
إن مثل هذه الخلافة المهداة من الله تعالى للإنسان كما يمكن حملها على أساس أن الله تعالى أعطى للإنسان حق التدخل بنسبة ما وبمقياس ما في جميع مناحي الوجود والحوادث، يمكن حملها أيضاً وتفسيرها على دوره في التعيين والتأثير على العلاقات بين الناس وبين الأمم. ومثل هذا الامتياز والهبة تعني السماح للإنسان في العمل والتصرف في كل شيء تصل إليه يده نيابة عن الله وباسمه ونائباً عنه… يكون فرشاته في عملية تذهيب كتاب الوجود… وبستانياً في بستان الكرة الأرضية، وعاملاً تحت إرشاداته في جميع شؤون الدنيا وأي رأي أو فكر حول أن الإنسان مالك أو صاحب حقيقي لأي شيء يعد تخطياً للحد وجهلاً.
لذا نجد أن الله تعالى يقول “إني جاعل”بدلاً من “إني خالق”أي أنه في موضوع الخلق الأول تناول عملية الخلق ليس بذاته، بل من قبل صفاته، أي كأن جعله خليفة بناء وتشكيل من الدرجة الثانية، ليس أصالة بل نيابة كمراقب وناظر، أي أنه أودع فيه هذه الخلافة ليس كطبيعة أولية في خلقه، بل كصفة موجودة فيمن يحقق في نفسه شروط هذه الخلافة في الأرض. من المحتمل أن أحد الأمور الموجودة خلف قيام الملائكة بالاستفسار “أو بالأصح بالاستعلام”الخشية من اختلاط الأمور المعمولة نيابة بالأمور المعمولة أصالة. مما جعل لوجود الخير بجانب الشر ووجود نوى البر بجانب نوى الإثم، ووجود القلب والإرادة والأحاسيس والمشاعر الطيبة والوجدان والضمير بجانب مشاعر الكره والشهرة والغضب والطمع… الخ أي لوجود نظام نفسي مركب في فطرة الإنسان وفي أغوار ماهيته دورٌ في هذه الملاحظة الظاهرية للملائكة. وهذا ظاهر في الجواب الإلهي لهم ﴿قال إني أعلْمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾، وهذا الجواب يشير إلى أن هذا الموضوع موضوع عميق لا يحيط به الملائكة علماً، ويشير من جانب آخر إلى قبول الله تعالى عذر الملائكة في عدم الإدراك هذا.
﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾(البَقَرَة:31)
ليس آدم عليه السلام هو المخاطب الوحيد في تعلم الأسماء، بل ربما كانت الإنسانية كلها من أولها لآخرها مخاطبة بهذا الخطاب. وما علّم آدم عليه السلام يُعد بمثابة نواة وبمثابة بذرة. فكما كانت جميع فصائل الدماء والأعراق مندرجة في صلبه، كان كل ما تم تعليمه له نواة وبذرة لجميع العلوم. وأصبحت وظيفة تطوير هذه النواة وتنميتها وتوسيعها ملقاة على عاتق الأجيال القادمة.
وكما يمكن أن يكون هذا التعليم قد تم بالوحي الذي أوحاه الله تعالى للأنبياء، كذلك يجوز أنه حصل بدرج الله تعالى رغبة التعلم في فطرته وفي جوهره ولبه استجابة لحاجاته، وأن هذه الرغبة والاستعداد النبوي السريع والكبير للتعلم قادته لتعلم الأسماء والمسميات كذلك.
وعلاوة على هذا فهل كان الهدف مما عُلّم به آدم عليه السلام هو الوصول إلى هذه المعلومات عن طريق لغة من اللغات؟ أم كان ضمن ملاحظات على الطريق الموصل من الأسماء إلى المسميات ومنها إلى صاحب ومالك كل شيء؟ أم لتعليم العلاقات الموجودة الظاهرة منها والخفية في عالم الوجود؟ سواءً أكانت مجموعة المعلومات الملكوتية؟ أو كانت أسماء الملائكة أم أسماء بني الإنسان ومسمياتهم وأقدارهم ومصائرهم؟ كل هذه أمور فرعية لا نقف طويلا أمامها.
﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾(البَقَرَة:44)
مع أن هذه الآية تخاطب قسماً من بني اسرائيل بشكل مباشر، إلا أنـها تخاطب المسلمين كذلك بشكل إشاري. وما يراد هنا بالأخص هو التنبيه على وجوب وجود وحدة وعدم تناقض بين ما يقال وبين ما يُفعل. أي وحدة بين القول والعمل. لذا نرى أن آية أخرى تعبر عن هذا المعنى بأسلوب آخر فتقول: ﴿لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾ (الصف: 2).
أجل! الحال والقال أو القول والفعل لغة بجبهتين لنصرة الحق وتمثيله. فإن تكلمت هذه اللغة ذات الصورتين والمظهرين بإسم الحق وصرخت به كان تأثيرها عظيما. لأنه يجب على الإنسان أن يطبق على نفسه أولاً ما يدعو الآخرين إليه، وألاّ يكون هناك تناقض بين أقواله وأفعاله، وبين مظهره ومخبره. جاء في الأثر أن الله تعالى قال لعيسى عليه السلام: “عظ نفسك أولاً فإن قبلت نفسك تلك الموعظة فعظ الآخرين، وإلا فاستح مني”. إذن يجب أن يعيش الإنسان حسبما يؤمن به، وأن يعكس أعماق عالمه الداخلي من أفكار وأحاسيس، بعد عملية تجريد نفسي. فمن لا يقوم الليل، عليه ألا يتحدث عن صلاة التهجد، وأن يستحي من هذا. ومن لا يستطيع الصلاة بكل خشوع وخضوع، ولا يتصرف بأدب تجاه الله تعالى ولا يحس بالمهابة والمخافة منه، يجب ألا يتحدث عن صفات الصلاة الكاملة. وإذا لم يكن مضحياً يجب ألا يتكلم كلمة واحدة عن موضوع العيش من أجل الآخرين. لأن الله تعالى ربط -لحكمة ما- قوة تأثير ما يقال بطراز تصرف القائل. تأملوا كيف أن دفاع الكثيرين عن الإسلام وأجوبتهم ومنافحتهم عن الإسلام تبقى دون أي تأثير. بل نرى بعض هؤلاء -لقلة اخلاصهم- يتنازلون عن كثير مما كانوا يدافعون عنه سابقاً تماشياً مع أفكار بعض المعارضين. ويشرح شيخ الإسلام “مصطفى صبري أفندي”هذا بقوله: “إن أمثال هؤلاء ليسوا مخلصين فيما يقولون أو يجيبون أو يكتبون من كتب. ولو كانوا مخلصين لعاشوا حسبما يقولون، ولما شاهدنا هذا التذبذب في حياتهم…”حيث لم يستطيعوا العيش في وحدة واحدة بين القول والعمل… وهكذا ترددوا وتذبذبوا… وأوقعوا الذين يتبعونهم في الشك وفي الشبه.
لذا نرى أن مثل هذه الكتب وإن كتبت بنية خدمة الإسلام إلا أن هذه الأجوبة ورد الشبه زادت من تشوش الأفكار وأدت إلى فوضى فكرية يصعب السيطرة عليها. لذا كان من المهم البحث عن طرق التأثير الفعّال. لذا كان من الضروري تحلي المرشد والمبلغ بصفة الإخلاص العميق والحقيقي بجانب العلم، والعيش حسب هذا العلم ومعرفة طرق التبليغ والارشاد وفهم المخاطب ومعرفة ماذا يقول وكيف يقول وأين يقول.
هنا يجب التذكير بشيء آخر، وهو ورود احتمال فهم خاطئ لآية ﴿لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾ (الصف: 2). فهذه الآية لا تفيد معنى: “إياك أن تذكر شيئاً لم تعشه”؛ لأن العيش عبادة والتبليغ عبادة أخرى. فمَن لم يطبق كليهما حملَ ذنْبَين وابتعد عن قوة التأثير خطوتين ومن لم يطبق أحدهما حمل ذنباً واحداً وابتعد عن التأثير خطوة واحدة. لأن قوة التاثير -كما ذكرنا- تعتمد على تطبيق ما يتم تبليغه.
أجل! إن أمر الآخرين بالمعروف ونـهيهم عن المنكر ونسيان تطبيق هذا على النفس تناقض صارخ. ومثل هذا التصرف الخاطئ يقلل تأثير أمور إيجابية كثيرة كقوة البلاغة والبيان والعلم. وهذا هو ما تذكرهُ هذه الآية لكي لا يقع أي إنسان عاقل في مثل هذا التناقض. وتريد من الإنسان أن يؤمن وأن يفكر وأن يعيش وأن يبلِّغ. وما عداه لغو وثرثرة تذهب بـهيبة المتحدث، وهذا يعني أنه نسي نفسه تماماً. لذا كان على الواعظ وعلى الناصح والمرشد والمبلغ والكاتب والمبرمج أن يكون جاداً في الأعمال التي يقوم بـها لكي يؤخذ مأخذ الجد ولكي لا يلقي أي ظل من الشك على المواضيع التي يتناولها ويقدمها، وألا يبقى -بتصرفاته العوجاء في مجال الإرشاد- مغلوباً على أمره أمام الكلمات المنمقة للداعين إلى طريق الضلالة.
﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾(البَقَرَة:54)
فُسِّرَ ﴿فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ﴾ في هذه الآية بـ:”اقتلوا أنفسكم، أو ليقم الذين لم يعبدوا العجل بقتل الذين عبدوا العجل”. ولكن يمكن تفسيرها كما يأتي أيضاً:
ما دمتم قمتم بتخريب الوحدة الدينية والاجتماعية والفكرية بعبادتكم العجل واتخاذه إلهاً، وبتهيئة أرضية للخلاف والخصام، إذن فهيا تقاتلوا… أو موتوا من جهة النفس والأنانية لكي تحيوا من ناحية الروح والقيم. أو حسب التعبير التصوفي: “اقتلوا في أنفسكم المشاعر السيئة أمثال القوة الشهوية والغضبية… الخ واعتبروها مشاعر أنانية سلبية لكي تكونوا أهلاً لبعث جديد لحياتكم الروحية والقلبية”.
ومهما كان القصد من دعوة الذين عبدوا العجل أو لم يعبدوه لقتل أنفسهم، فإن دعوة كل فرد لمثل هذا التكفير والتطهر-للذين عبدوا العجل بسبب كفرهم البواح، وللذين لم يعبدوه بسبب سكوتهم- تحمل دلالات ومعاني عديدة.
وبجانب هذا فإن عملية التطهر المباركة هذه، وهذا الإمتحان الصعب في تدمير النفس ولجريانه في داخل الذات كان أكثر إيلاماً. ومما يسترعي النظر أنه بدلاً من أمر “قاتلوا”الذي كان يرد في صدد قتال الآخرين، صدر أمر “فاقتلوا أنفسكم”مما ينبئ عن مضاعفة الآلام الداخلية والقلق النفسي كعامل تطهر وتطهير لتلك النفوس الآثمة.
﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾(البَقَرَة:65)
المسخ الوارد في هذه الآية الكريمة -والله أعلم- هو كما قال مجاهد مسخ في الأخلاق والسيرة أكثر من كونه مسخاً للصورة. أي أصبحوا من ناحية الأخلاق والطبع ودناءته كالقرود. والمسخ الأخلاقي يفتح الباب لانتقال هذا المسخ إلى أجيال عديدة. ويمكن مشاهدة هذا المسخ الأخلاقي في بعض المجتمعات الحالية.
وكمـا يمكن أن تكون كلمة “السـبت”بمعنى اليـوم المعروف في الأسـبوع، كذلك يمكن أن تكون مشـتقة من مصدر ليـوم الراحة الذي يعظمه اليهود والذي يقضونه في العبـادة. والتفسير الأخير هو الأرجح.
لذا فإن معنى الآية حسب التفسير الأخير هو:
إن هؤلاء اليهود الذين حملوا مسؤولية هينة وصغيرة وهي تخصيص يوم واحد فقط لعبادة الله قد هربوا من هذه المسؤولية، ونقضوا العهد الذي قطعوه على أنفسهم أمام خالقهم. هذا العهد الذي كان شيئاً طبيعياً لخلقهم بشراً، وضرورياً لكونـهم قوماً مختارين من قبل الله. وهم بارتكابهم مثل هذه الخطيئة والإثم سقطوا إلى ما دون مرتبة الإنسان، وجحدوا فضل اختيارهم على الناس وعلى الأقـوام الآخرين، فمسخ الله إنسانيتهم ومشاعرهم وأفكارهم وأبدلهم عنها نفسية فردية في الفكر والفلسفة والحياة، فانعكس هنا كله على مظهرهم الخارجي فبدوا بائسين متمسكنين.
﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا﴾(البَقَرَة:67)
نرى شيئين رئيسيين يسترعيان الانتباه من الوهلة الأولى في هذه الآية الكريمة:
الأول هو امتحان الله تعالى لبني إسرائيل في أمر أشربت فيه نفوسهم حتى لم يعودوا قادرين على تركه، فكان هذا الامتحان من أجل إظهار إخلاصهم وإخبار الآخرين بنتيجة هذا الامتحان. والثـاني هو صدور مثل هذا الأمر للقضاء تماماً على عادة عبادة البقر التي كانت منتشرة آنذاك بين بني إسرائيل. لأن الأصل هو التزام العبد بعقيدة التوحيد الخالص، وقلع كل ما ينافي هذا التوحيد الخالص من القلب وإبعاده عن حياته.
ولكن بني إسرائيل لم يفهموا من الوهلة الأولى معنى مثل هذا الأمر ولم يستوعبوا الحكمة الدقيقة الموجودة فيه. كما أن عد البقرة مقدسة في مصر وعدم استطاعتهم فهم حكمة إطاعة هذا الأمر وعدم ادراكهم علاقته بما كانوا يتوقعونه ويتخيلونه -كما يحدث لدينا أحيانا- من أمور تأتيهم مع الرسالة أدى إلى أنهم فضلوا تأخير التنفيذ بشتى المعاذير وكسب الوقت للتملص منه بدلاً من القيام بتطبيق الأمر فوراً. وكما دلت حادثة العجل فيما بعد، فقد ظهر أنهم لم يكونوا قد تخلصوا نهائياً من تقديس البقر الذي توارثوه من المصريين. وإلى جانب هذا فإنـهم عدّوا القيام بذبح البقرة التي يقدسها الأهالي بمثابة إعلان عصيان ضد سلطة فرعون، مع أن هذا الأمر -أي ذبح البقرة التي يعدها الأهالي مقدساً- كان من أسس رسالة موسى عليه السلام. لذا عدوا هذا الأمر وكأنه أمر بما لا يطاق فقالوا: “أتتخذنا هزوا؟”.
وسياق الآية يبين لنا المعاذير التي كانوا يقدمونـها ويستترون وراءها، ثم القرار الصارم والقاطع لنبي كريم.
﴿فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَى﴾(البَقَرَة:73)
إن ضرب المقتول ببعض البقرة المذبوحة وقيام المقتول بالإشارة إلى القاتل يعد معجزة. وضرب المقتول ببعض البقرة ليس إلا جانبًا من جوانب استعمال الأسباب. أما الناحية المتوجهة إلينا من هذا الأمر فهي موضوع لعلم الطب الحديث أو لعلم الأحياء “البيولوجيا”، فبقاء خلايا الدماغ حية عدة دقائق بعد الوفاة، والتوصل إلى بعض النتائج بعد تشريح الجثة أمور تتجاوزنا وتتجاوز الموضوع الذي نتناوله، فقد يجوز أنه لو تم تدخل بشكل ما في تلك الدقائق لأمكن الحصول على بعض المعلومات المخزونة في لاشعور المتوفى. وكما يمكن النظر إلى هذا الموضوع من ناحيته الإعجازية فقط، كذلك يمكن التوجه به بواسطة تكنولوجيا متقدمة في المستقبل إلى هدف عظيم في هذا الصدد يقترب من الحدود التي رسمتها المعجزات.
وبعد أن أقترب هؤلاء القوم من تنفيذ الأمر بعد اللّتيا والتي رأوا بركة الطاعة والانقياد أضعافاً مضاعفة فقد تخلصوا أولاً من الاحتكاك الداخلي فيما بينهم بعد معرفة القاتل في تلك الجريمة الغامضة. كما تخلصت أرواحهم بنسبة معلومة من الفكر المادي ومن عدم الإيمان بالبعث والنشر، لأن حادثة إحياء القتيل ببعض البقرة قد فتحت أمامهم كوة واسعة على حقيقة البعث بعد الموت.
﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ﴾(البَقَرَة:78)
ترسم هذه الآية صورة بعض المثقفين المغفلين آنذاك الذين تعلقت قلوبهم -كما هم الآن أيضا- بأوهام وأماني حول عالم مثالي “يتوبيا”، بدلاً من التعلق بحقائق الدين. والحقيقة أننـا نرى في أسس الماركسية والشيوعية والرأسمالية هذه الأماني التي هي نوع من الهروب من الدين إلى عالم الخيال واليوتوبيا والتكهنات. ومن المؤلم أن التاريخ يكرر نفسه في موضوع الأماني هذه، وسار في هذا الأمر النصارى على نهج اليهود، كما لم يتردد بعض المسلمين أيضاً من اقتفاء اثر هؤلاء. أجل! فالمسلمون اليوم تائهون يدورون -مثل السابقين- في فلك الآمال التي أطلق القرآن الكريم عليها اسم “الأماني”. وحال العالم الإسلامي الآن أكبر شاهد على هذا فقد ورد حديث عن رسول الله صلىوسلمه : “لَتتبعن سُنَنَ مَن قَبلَكُم شِبراً بشبرٍ وَذراعاً بذِرَاعٍ حتى لَو سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ. قلنا يا رسُـول الله آاليهود والنصارى؟ قال: فَمَنْ”.
والأماني جمع “أمنية”وتأتي بمعنى التمنيات والخيالات التي لا يمكن تحقيقها في الواقع. ومع أنها قد تختلط مع المثالية، إلا أنها تعني الفرضيات والنظريات التي يستحيل تحقيقها. ومع أن بعضها قد يبدو ممكن التحقيق إلا أن أنـها في الأعم الغالب أمور خيالية تبقى معلقة في الخيال ولا يمكن الوصول بها إلى الهدف المنشود. لذا كانت هذه الأماني تكهنات وخيالات خادعة بالنسبة للمتمني، وحسرة قاتلة بالنسبة للمجتمع.
فإذا كان المثقفون في مجتمع ما غير قادرين على الرؤية الواضحة وعلى القراءة الصحيحة للأمور، وإذا كان أنصاف المثقفين وكتل الجماهير الغافلة والمستغفلة تركض وراء سراب مثل هذه الخيالات والأوهام والأماني، فمعنى هذا أن هذا المجتمع محكوم عليه بالوقوع في شباك المستحيلات ومقضي عليه هناك.
﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾(البَقَرَة:87)
ذكر الكثير من المحققين بأن روح القدس هو جبريل عليه السلام. وهذا هو الوارد في العديد من التفاسير. غير أن حسان بن ثابت أنشد في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا:
وجبريلُ أمينُ الله فينا وروحُ القُدس ليس له كِفاءُ
وقد استحسن رسول الله صلىوسلمَ هذا الشعر.لذا فجبريل ليس روح القدس. كما أنه لا يمكن أن يكون عيسى عليه السلام لأن الآية تقول ﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ فالمؤيِّد ليس هو المؤيَّد. وأنا أعتقد أن روح القدس قوة وقدرة ملكوتية في إمرة الله تعالى لتنفيذ إرادته وتعود لعالم اللاهوت. وعندما يؤيد هذا الروح النبي عيسى عليه السلام يكون مصطبغاً بالصبغة الإنجيلية، وعندما يؤيد رسولنا صلىوسلمه يكون مصطبغاً بالصبغة القرآنية.
لقد أُرسل سيدنا المسيح عليه السلام بمعجزات بينة وواضحة وضوح الشمس… معجزات تقود إلى الإيمان والاقتناع، أو في الأقل إلى الإلزام… معجزات واضحات بنفسها لا تحتاج إلى أي شيء آخر من ناحية الدلالة. وقد وردت هذه المعجزات في القرآن الكريم في عدة سور منها خلق طير من الطين ثم نفخ الحياة فيه بإذن الله، وشفاء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله، وإخبـاره بالغيب وبما يأكل الشاكون فيه وفي نبوته وما يدخرونه في بيوتـهم. ويمكن حدس وجود شيء خاص في كونه مؤيداً من قبل الروح القدس، وهو كون مهمته ورسالته ذات طابع خاص. وليس روح القدس -كما يحسب بعض النصارى- جزءً من شخصية المسيح عليه السلام بل هو تجل لإنعام ولطف خاصين لتأييده. ولا بأس أن يتم هذا التجلي عن طريق جبريل عليه السلام أو بأي ملك آخر.
قام روح القدس منذ البداية أي منذ حمل مريم عليها السلام وحتى وضعها بالتمثل بصور وبأشكال مختلفة وبتعقب عيسى عليه السلام عن قرب. وكان على اتصال قريب بقدر هذا النبي الكريم. وعندما صدرت الإرادة الإلهية بإرساله نبياً إلى قوم منهمكين بالمادة وغارقين فيها، قام بتأييده وبتوجيهه وبتربيته تربية روحية في جو ميتافيزيقي سامٍ يهدم الفكر المادي ويجعل عاليه سافله.
ثم هناك موضوع شهادة البراءة والتطهير لأم المسيح عليهما السلام سيدتنا مريم العذراء الطاهرة من قبل محكمة القرآن ضد الافتراءات والتهم الشنيعة المسندة إليها من قبل المفترين والجاحدين. لأن تبرئتها هي تبرئة لإبنها الرسول الكريم أيضاً. والله أعلم بالصواب.
﴿فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ﴾(البَقَرَة:90)
أي إنـهم بعد أن تيسرت لهم فرصة الخلاص من الغضب الذي تعرضوا له سابقاً، لم يحاولوا الاستفادة منها فتعرضوا لغضب آخر. ويدل فعل “باء”في هذه الآية على الاستحقاق وعلى الاستقرار أيضاً، أي على دوام الغضب واستمراره. ولا يعود سبب تعرضهم لغضب على غضب إلى إنكارهم التوراة كما ورد في بعض التفاسير، وفي تفسير آخر إلى إنكارهم الإنجيل بل حتى إنكار القرآن الكريم فقط، بل إلى إنكارهم أيضاً ما جاء به زكريا ويحيى عليهما السلام بل حتى القيام بقتلهما. وكل منا يعرف أن من قتل نبياً يستحق الخلود في جهنم. لذا كان من المفيد الإشارة إلى أن قيام بعضهم بمعارضة أنبيائهم وكتبهم وما قاموا به من إيذاء لموسى وعيسى عليهما السلام وأخيراً ما قاموا به ضد رسولنا الكريم صلىوسلمم كان القشة التي قصمت ظهر البعير كما يقال مما أدى في الأخير إلى تعرضهم واستحقاقهم غضباً فوق غضب.
قام هؤلاء أولاً بتكذيب الأنبياء الذين أنقذوهم من عذاب فرعون وأبانوا لهم الصراط المستقيم المؤدي إلى الكمالات الإنسانية، ثم قاموا بقتل بعض الأنبياء الذين جاءوا فيما بعد فاستحقوا غضباً شديداً، بل استحقوا غضباً فوق غضب. وبينما كانوا ينتظرون نبي آخر الزمان الذي جاءت أوصافه في جميع الكتب السابقة، لم يستطع معظمهم الاستفادة من الفرصة الذهبية عندما بعث هذا النبي الموعود بجوارهم وبالقرب منهم، وأنكروه فاستحقوا غضبا فوق الغضب الذي كانوا يحملونه على كواحلهم.
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾(البَقَرَة:114)
إن حصرنا معنى هذه الآية بسبب نـزولها وقلنا إنـها تشير إلى النصارى الذين كانوا يمنعون الناس من الوصول إلى بيت المقدس واستخرجنا منها هذا المعنى نكون بذلك قد ضيقنا واسعاً. لأن سبب النـزول يعد خاصاً، أما الحكم فيكون عاماً وذلك في العديد من الأمور. إذن فإن الذين حاولوا صلب المسيح عليه السلام سواء في ذلك العهد أو فيما بعد يعدون اظلم الناس. كذلك الذين وقفوا بوجه الرسول صلىوسلمَ في الحديبية ومنعوه من دخول الكعبة والذين ظاهروهم عليه يعدون كذلك من أظلم الناس. وكذلك من يعطل الجوامع ومساجد الله. فمن يتدخل في الحياة الدينية للناس إلى درجة وضع الحظر على المساجد هم أيضاً من أظلم الناس…الخ. وما دام القرآن كتاباً كونياً إذن يجب تناول هذه الآية وتفسيرها من جميع هذه الأوجه، فهذا هو الأنسب والأكثر ملاءمة لروح القرآن.
يجب القيام بتقييم كل شيء حسب قيمته الذاتية، فهذا هو ما يستلزمه الحق والحقيقة، لذا كان من الظلم تقييم أي شيء دون أو فوق قيمته الذاتية. لذا كان الإفراط في التقليل من قيمة الشيء أو الإفراط في إعطائه قيمة أكثر من حقه ظلماً كبيراً. لذا كان الشرك بالله من كبائر الظلم وعظائم الانحراف، وكان هدم المساجد أو غلقها وهي أماكن ذكر الله حيثُ منها تنطلق الدعوة إلى توحيد الله والتصدي للكفر والالحاد يُعدّ ظلماً يلي في ظلمه ظلم الشرك بالله.
ولا شك أن مثل هذا الاعتداء على المسجد الأقصى يعد ظلماً أكبر من الظلم الموجه للمساجد الأخرى، ويكون الظلم أكبر لو كان هذا الاعتداء موجهاً للمسجد النبوي، أما إن كان موجها للمسجد الحرام فهو ظلم وكفر وإلحاد خارج حدود التصور. فإن نظرنا إلى هذه الآية التي نـزلت في حق المسجد الأقصى من هذه الزاوية علمنا المعاني التي تحتويها الكلمات المختارة بكل عناية في هذه الآية. ثم إن الكلمة هنا لم تأت بصيغة المفرد، أي لم تأت بصيغة “مسجد”بل بصيغة الجمع “مساجد”مما تومئ إلى عموم المسألة.
ومن هذا المنطلق نعلم أن شاهبور وبختنصر نالا نصيبهما من الظلم والإثم باعتدائهما على المسجد الأقصى، وكذلك أوسباسيونوس وتيتوس. إن جميع الظالمين في الشرق أو الغرب من المتجاوزين والمعتدين على حرمة المعابد سيطالُهُمْ هذا الإثم والظلم. أما القوة الغاشمة التي ستهدم الكعبة والروضة المطهرة قبيل يوم القيامة فسترتكب ظلما يسجل على جبينها بحروف لا تمحى أبداً.
﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾(البَقَرَة:117)
يأتي معنى فعل “بَدَعَ”في اللغة العربية بمعنى الإيجاد والخلق على غير مثال أو أنموذج سابق. وتعرض الأرض والسماوات التي لا حد لوسعتها أنموذجا للجمال الذي لا يمكن أن يشـبع الإنسان منه. أي هي من الكائنـات والمخلوقات العجيبة التي لم يسبق وجود أنموذج لها من قبل. فهي مذهلة ومدهشة ولا يمكن أن يكون هناك أكثر منها جمالا وجاذبية لعدم وجود مثال سـابق لها من جهة، ولطبيعة مادتها الأصلية وهيئتها الحالية من جهة أخرى. وهي تشير وتومئ بمليارات من الإشـارات النورانية إلى خالقها ومبدعها.
أجـل! خلقت الأرض والسماوات جميعاً بكل ما فيها وبكل جمالها وجلالها الأخاذ وبكل أسرارها وبدرجة الكمال التي لا كمال فوقها، ودون أي نقص أو قصور بكلمة “كن”من قبل خالقها. وهي ليست أجزاء جاءت وانفصلت منه تعالى، وليست ظهوراً لـه سبحانه، لأن العلاقة بين الكون وبين مبدعه تبارك وتعالى هي علاقة الخالق بالمخلوق. أي أن هذه العلاقة ليست تولداً منه أو صدوراً عنه أو ظهوراً حتمياً وغير إرادي له. وعلى فرض المستحيل لو كانت هـذه هي العلاقة لمَا كان كل هـذا الصدور والظهور معرضاً للتفتت والتجزؤ والنفاد مثل نفاد وقود الشمس في يوم من الأيام. بينما يُخْلَق كُل شيء ثم ينمو ويتطور ثم ينمحي ويذهب ويفنى ثم يعقب هذا الفناء وجود آخر بنفس الجمال والجاذبية… أجل! كل شيء يأتي واحداً إثر آخر، ثم يرحل واحداً إثر آخر، ولكن يبقى بديع السماوات والأرض وحده دون زوال أو تحول أو فناء.
وعندما يتكرم الله تعالى ويهب نور الحياة للآتين، فهو يعبر لأولي الألباب عن معنى الوجود. وعندما يحل القادمون الجدد بنفس النعم المهداة إليهم، بعد ذهاب الزائلين، فهو يشير إلى أبديته وأزليته.
﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾(البَقَرَة:124)
جاء في بعض الروايات حول تفسير هذه الآية أن إبراهيم عليه السلام كان أول من ختن وأول من استضاف وأول من قلم أظافره وأول من خفف وحفّ شاربه… الخ. ولكن يمكن القول بأن هذه الأمور كانت موجودة قبله لأنـها -حسب ما أثـر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- من الفطرة السليمة. لذا كان علينا أن ننظر إلى هذا السبق أو الإمامة هنا بمعنى نسبي. فمن المحتمل أنـها كانت بالنسبة إلى قومه وليس أول الناس في مثل هذه الأمور منذ آدم عليه السلام. فمثلاً يقول النبي موسى عليه السلام ﴿وَأَنَا أَوّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الأعراف: 143). ومن الواضح أنه لم يكن أول مؤمن. إذن فالأولوية هنا نسبية أي نسبة إلى قومه. لذا فإن أصح ما يمكن قوله بخصوص امتحان إبراهيم عليه السلام وابتلائه هو أنه اجتاز هذا الامتحان بأفضل وأكمل شكل وأنه رد كل ما يعود إلى الشرك بصورة واضحة بينة يفهمها حتى المبتدئون.
وتأتي كلمة “البلاء”من نفس جذر “الابتلاء”والتجربة. ويُفهم من كلمة الابتلاء أنها بمعنى إظهار بعض المكتسبات الداخلية أو الباطنية للإنسان بعد امتحانه، أو إظهار نواحي الجمال أو القبح فيه… الخير أو الشر… السمو أو الدناءة.
ولكن الإنسان يملك حياة جسدية ونفسية وأهواء وشهوات إلى جانب حياته الروحية والقلبية فهو من ناحية حياته الروحية والقلبية قريب من عالم الغيب ومن الحق تعالى، وهو يحاول في الوقت نفسه ضمن حياته النفسية الوصول إلى مراتب الإنسان الكامل، فهو في صراع دائب بين التكاليف والأوامر الإلهية وبين مطالب الجسد والنفس، وتكون أمامه خيارات للترجيح، وهو ينجح أحياناً في هذا الاختيار وأحياناً يفشل ويجانبه الصواب. إذن فهذا ابتلاء وامتحان واضح يظهر فيه الفائز والخاسر.
﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾(البَقَرَة:144)
أول ما نلاحظه في الآية ذكر الرضا مع تحويل القبلة إلى الكعبة. وقد يتساءل البعض عن العلاقة بين ذكر الرضا مع تحويل القبلة لكي يتم استعمال مثل هذا الأسلوب.
وكما سنذكر بإيجاز عند تناول شرح نكت الآية رقم 150 من سورة البقرة فإننا بتناول هذه الآية من زاوية تصوفية نرى وجود علاقة وثيقة بين “الحقيقة الأحمدية”وبين “حقيقة الكعبة”. وأوجز إيضاح لهذا هو ما قاله بعض المتصوفة بأن حقيقة الرسول محمد صلىوسلمق وحقيقة الكعبة توأمان خلقا معاً في عالم الاحتمال.
كان المسجد الأقصى في عهد معين في مكة وفي المدينة هو القبلة بسبب حكم عديدة. لذا كان الرسول صلىوسلمس ينتظر يوم وصاله مع مكة والتوجه نحوها بلهفة وبفارغ الصبر، يفوق في شوقه شوق العاشق لمعشوقته، ويبث ما يعتلج به فؤاده إلى الله. والحقيقة إنه صلىوسلمر مثل سائر الأنبياء كان -ولا مشاحة في المثال- كطائر أخروي لا يقف تطلعه عند حدٍّ حتى في العالم الآخر كلما علا وارتفع تطلع إلى الأعلى والأرفع بحيث يستغرق ذلك إهتمامه كُلّهُ. فقد عرج إلى الأعلى حتى وصل إلى سدرة المنتهى وكان قاب قوسين أو أدنى منه، وأتم سياحته في عوالم أخرى دون أن تحول دونه أي قوة جذب أو أي شيء آخر، ودون أن يصاب بالدوار أو يزيغ بصره. وكان هذا عمقاً آخر في عظمته.
أجل! كان هذا النبي الكريم سيد الإنس والجن الذي ساح في مثل هذه العوالم، والذي كانت أجنحة الملائكة مفروشة تحت قدميه يرنو ببصره إلى السماء ويخاطب ربه طالباً منه تيسير اجتماعه مع حقيقة الكعبة ومتسائلاً بكل لطف ونـزاهة: متى يا رب؟ وعندما حقق الله تعالى رغبته هذه كان من الطبيعي أن يرضى، لذا قال له ربه ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾ وكان هذا يعني في الوقت نفسه رضا ربه عن هذه القبلة التي اختارها له.
وبهذا المحراب الجديـد رجع المسجد الأقصى خطوتين إلى الوراء -مع الاحتفاظ بكامل مكانته المباركة المتميزة- ليكون هذا البيت العتيق الذي لا تبلى مكانته في القلوب هـو مطمح النظر الإلهي في فترة كانت البشـرية فيها متهيأة للانطلاق نحو عهد فكري جديـد ونحو عهد عقيدة جديدة، ولكي يشع نوره ويفشي سـره إلى توأمه الرسول صلىوسلمي وإلى المؤمنين المنطلقين في إثره ولكي يحتضنهم بحرارة لم يحظ بـها أحد من قبل، ولكي يتم عيش المبدأ والمنتهى معاً للمرة الأولى وللمرة الأخيرة أيضاً.
﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَيهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾(البقرة: 144) في تمام الآية هناك توجه مختلف. فتوجه الرسول صلىوسلمَ في البداية إلى المسجد الأقصى كان يشكل تـهيئة لتليين قلوب يهود المدينة لقبول نبوته. أي تنبيه قلوبـهم وجعلهم يقولون: “يحتمل أنه نبي”. وعند تحويل القبلة إلى الكعبة ساعد على تليين قلوب مشركي مكة الذين كانوا يعدون أنفسهم على ملة إبراهيم عليه السلام ولكن ملة مغايـرة للمسلمين، وجعل هؤلاء المشركين يتذاكرون نبوة محمد صلىوسلمو . أي أن الإسلام عندما أظهر بأنه يحترم الأماكن التي يعدها اليهود والمشركون أماكن مقدسة فانه كان يؤثر على وجهة نظر هؤلاء. وهذه الآية أنموذج للآيات القرآنية التي تراعي الروح والنفس الإنسانية، وتأخذ الجهة النفسية للإنسان بنظر الاعتبـار وبشكل عميق ومتداخل. ولعل هذا الموضوع من اقل المواضيع التي تم الاهتمام بـها في تاريخ التفسير.
يأتي “الشطر”بمعانٍ عديدة منها نصف الشيء أو جزء منه أو جهته. وهذا يبين وجوب وضرورة التوجه إلى الحرم الشريف أي إلى الكعبة المشرفة قدر الاستطاعة. وقد فهم العديد من الصحابة وأئمة التابعين هذه المسألة على أساس إمكانية الإنسان للتوجه إلى الكعبة حسب الأماكن التي يوجد فيها. أي أن الموجود في الحرم الشريف يجب أن يتوجه إلى منتصف الكعبة أو إلى جزء منها في الأقل بشكل تام. أما الموجودون بعيداً عنها “عن الكعبة”فيجب أن يتوجهوا شطرها. وهذا هو مقتضى الآية ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُم فَوَلُّوا وُجُوهَكُم شَطْرَهُ﴾.
كما أن جملة ﴿وَحَيثُ مَا كُنْتُم﴾ في الآية تشير إلى أنه مع وجوب وضرورة التوجه نحو القبلة في الصلاة فهي تومئ أيضا إلى أنه لا حاجة لأي مكان خاص للصلاة مصداقاً لقوله صلىوسلمر : “وجُعلت لي الأرضُ مسجداً”.
﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾(البَقَرَة:150
بعد وصول الرسول صلىوسلمَ المدينة وتشريفه لها، قضى 16 أو 17 شهراً وهو يتوجه في صلاته نحو المسجد الأقصى. وكانت الكعبة في تلك الأيام مملوءة بالأصنام والأوثان طبعاً. ولما كان الرسول صلىوسلمَ قد أرسل بدين التوحيد وعدم إبداء أي اهتمام نحو الأصنام، لذا مُنع فترة معينة من التوجه في صلاته نحو الكعبة لكي يُظهر موقفه القطعي والأكيد نحو الأصنام.
والحقيقة أن هناك علاقة وثيقة بين الحقيقة الأحمدية وبين حقيقة الكعبة وكان الرسول صلوسلملم يشعر -حسب فطرته التي فطره الله عليها منذ الأزل- بـهذا، ويود التوجه نحو الكعبة ويحن إلى هذا، وهذا التوجه والحنين شرحه القرآن الكريم: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ﴾ (البقرة: 144).
أما هدف الرسول صلىوسلمد من تقليب وجهه في السماء فهو رغبته أن يضع الله تعالى حكماً جديداً في موضوع تحويل القبلة. أجل! كان ينتظر نبأَ من السماء لذا نرى أن الآية في عقبها تبلغه البشارة ﴿فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرضَاهَا﴾ (البقرة: 144). والظاهر أنه من الصعب فهم هذه الحقيقة. ولا يفهمها إلا شخص كالرسول صلىوسلمن الذي كان يدرك هذه العلاقة الوثيقة بينه وبين الكعبة حق الإدراك بفطرته.
أجل! كانت لحقيقة الكعبة علاقة وثيقة به. ولكن كانت مسألة التوحيد التي هي سبب بعثته أهم بكثير جداً من قدسية الكعبة ومن كونـها قبلة للصلاة. لذا توجه الرسـول صلىوسلمح في مكة في صلاته نحو المسجد الأقصى واستمر على هذا مدة اخرى في المدينة كذلك.
أما يهود المدينة فانـهم بدأوا يدعون -انطلاقاً من كون قبلة المسلمين نحو المسجد الأقصى- بأنـهم هم الأصل وأن المسلمين تابعون لهم لكي يجعلوا من هذا الموضوع حجة لدينهم. ولو شاء الرسول صلىوسلمَ لحول القبلة إلى الكعبة عند أول وصوله إلى المدينة.
ولكنه لم يكن يتصرف بمشيئته وبرغبته، بل كان على الدوام متعلقاً بالله مخلصاً له في كل شـأن من شؤونه ينتظر الأوامر منه، مرجحاً هذه الأوامر على رغبات قلبه، فقد كان إنسان الذروة يستشرف أبعدَ الأفاق الإنسانية إلاَّ أنه لم ينسَ كونه عبداً رسولاً يأتمر بأمر الله تعالى.
كما أن الرسول صلىوسلمع -بتوجهه في الصلاة شطر المسجد الأقصى- أشعل نور الهداية في قلوب العديد من اليهود أمثال عبد الله بن سلام. ويحتمل أن صفة الرسول هذه كانت مذكورة في كتبهم. على أي حال فقد كان هناك بعض اليهود الذين اهتدوا إلى الإسلام. وبعد ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً من هذا التوجه شطر المسجد الأقصى تم المقصود، ولم يبق في يد هؤلاء الناس أي دليل يستطيعون استعماله ضد المسلمين. أي لم يعد بمقدور المشركين القول: “انتم تتوجهون نحو الكعبة المملوءة بأصنامنا، إذن فإن ديننا هو الأصل!”ولا بمقدور اليهود القول: “انتم تتجهون إلى قبلتنا، إذن فديننا هو الأصل”. في مثـل هذا الجو جاء الأمر الإلهي بالتوجه شـطر المسجد الحرام فحقق الوصال بين ذات الرسـول صلىوسلمش وذات الكعبة المشرفة.
وهناك إشارات في العهد القديم فيما يتعلق باشعيا عليه السلام تومئ إلى أن الأحداث ستجري كما جرت؛ لأن بعض اليهود كانوا يقولون بناءً على هذه الإشارات: “إن قبلة النبي القادم ستكون إلى مكة. أما محمد فلا يزال متوجهاً في صلاته نحو بيت المقدس”. وهذا يلقي الضوء على بعض جوانب هذا الموضوع.
﴿وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾ (البقرة: 150) أي أن توجهكم في الصلاة شطر المسجد الأقصى كان نعمة، ولكن النعمة الأصلية الكبرى كانت في لقاء الأحبة. أي التقاء الرسول صلىوسلمه -الممثل للأمة الإسلامية- بالكعبة، ومن هناك العروج فيما بعد إلى سدرة المنتهى ليحظى بالنعمة الإلهية وجهاً لوجه، وهذا يمكن فقط بالتوجه شطر الكعبة. وهكذا يكون الله تعالى قد أتم نعمته، وهو شرف اختص به الله هذه الأمة التي أسبغ عليها رحمته.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾(البَقَرَة:153)
الصبر يعني عدم اهتزاز حال المؤمن وعقله، والثبات وعدم الهلع عند الصدمة الأولى الداعية إلى المعصية والمؤدية إلى إثارة المشاعر والأحاسيس السيئة أو في اللحظة الأولى من سماع أوامر الطاعة والدعوة إليها. والحديث الشريف الذي يقول “إنما الصبرُ عند الصَّدمة الأُولى”يصور هذا المعنى. وإلا فإن الصبر الذي يعقب الهزة والصدمة الأولى وبعد لباس العافية والأمن فليس صبراً بالمعنى الكامل.
من المفيد هنا الإشارة إلى أمر، وهو أن اكبر صبر هو الصبر على طاعة الله واتباع أوامره واجتناب نواهيه. ذلك لأن الإنسان لا يصل إلى برج التوحيد ولا إلى افق العبودية إلا بالطاعة. وبعد هذه المرتبة يكون الإنسان مستعداً للخضوع لجميع ما يأتي من قبل الله تعالى.
وهنا نريد أن نقول للذين عزموا على المضي في السياحة نحو الأبدية: إن كنتم عازمين على المضي نحو غاية تفوح من جوانبها كافةً رائحة الأبدية، فإن الوصول إلى مثل هذه الغاية يحتاج إلى سلوك طريق طويل وشاق. وحسب قاعدة “بقدر الكد تكتسب المعالي”فإن الطريق نحو الذرى يمر من الجبال والأودية والقمم، ويتعرض سالك هذا الطريق إلى العديد من المصاعب والمشاق. لأن هناك في داخل الإنسان نفساً أمارة بالسوء معرضة ومفتوحة لوساوس الشيطان وإيحاءاته وغواياته، وفي خارج الإنسان هناك الملحدون والمنكرون والظالمون الذين يقومون بشتى أنواع الظلم والبغي والهجوم والغدر. وهكذا فستعيشون على الدوام في أزمات مادية ومعنوية، تحاولون التحمل وانتم تصرون على أسنانكم، وفي الوقت نفسه قد تضطرون إلى تهيئة الأجوبة لكثير من الأمور التي تأتي من اليمين ومن الشمال في كل آن. فإن لم تكونوا مستعدين لهذا ومسلمين من الناحية الروحية والجسدية، ولم تكونوا قد تدربتم تدريباً جدياً ورضتم أنفسكم الرياضة المعنوية المطلوبة وبالمقياس المطلوب ضعتم في هذا الطريق وتهتم، ولم تستطيعوا مواصلة السير فيه، أو هو يتم في وادٍ من الوديان المعنوية المخالفة لأفكاركم الأساسية ولمشاعركم.
الحصن الأول تجاه هذه المخاطر المحتملة هو الاعتصام بالصبر، لأنه سيكون الأرضية الصلبة التي لا تزل عليها أقدامكم. إن قدر النجاح يخطط تحت مظلة الصبر، وبلوحة الصبر يتوضح مفترق طريق الخير وطريق الشر. كما لا تتحقق العبودية الحقة لله تعالى إلا بعلاج الصبر ومنشطاته. وبالصبر يمكن الصعود إلى مراتب حقائق الإيمان والإسلام والإحسان. وإذا كان للإنسان هدف طوال حياته للانتقال من الإيمان إلى المعرفة، ومن المعرفة إلى المحبة وإلى المخافة، ويريد تذوق طعم الأذواق الروحية والوصول إلى الوصال الحقيقي… إن كان له مثل هذا الهدف عليه أن يتزود بزاد الصبر الذي يكون سند قوته ومنبعها وصاحبه الذي لا يفارقه.
فإن فكرنا في أنواع الصبر، عرفنا أنه الفقرة أو المادة الأولى في الوصفة المكتوبة لرقي بني الإنسان.
إن الصلاة -التي تحوي على تمرين على الصبر أيضاً- أهـم وسـيلة لاستقرار الإيمان وتصفية الروح والوصول إلى صحة الجسد، واهم وسيلة في التفاهم والوفاق والتلاحم الاجتماعي، وهي أوضح ظاهرة لكيان الأمة. وهي رأس جميع العبادات، وطريق وخط سـفينة الدين، والسلم النوراني لمعراج القلب.
وكل من جعل إيمانه جزءً من طبيعته بالصلاة وأداة ينقي بـها روحه ويصفيه ويوسع ويعمق حياته القلبية، ويشعر في جوها الدافئ اللين بأنـه ضمن أمة كالبنيان المرصوص… كل من وفق إلى هذا اسـتطاع بسهولة تجاوز جميع مصاعب طريق العبودية والوصول إلى هدفه.
﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾(البَقَرَة:158)
﴿مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾(النِّسَاء:147)
نرى في هاتين الآيتين أن الله تعالى يقدم نفسه بصفة “شـاكر”مع أنه “مشكور”. وحسب رأيي العاجز فإن ما يراد الإشـارة إليه هنا هو مبدأ “المقابلة”. أي أن الله جل وعلا يقوم بمقابلة أفعال عباده تجاهه من جنس أعمالهم، وهذا من الخلق الإلهي. ولا يقتصر هذا على موضوع الشكر، بل نجد المقابلة في الآيات القرآنية وفي الأحاديث الشريفة في سائر المسائل الأخرى فمثلاً ﴿فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ﴾ (المائدة: 39).
والنبي صلىوسلمَ يروي عن ربه فيقول: “إذا تقرَّب العبدُ إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإذا تقرب منّي ذراعاً تقربتُ منه بَاعاً، وإذا أتاني مَشياً أتَيتُه هَروَلةً…”.
أجل! إن ما نريد الإشارة إليه هنا هو أن النعمة مهما كان مصدرها يجب مقابلتها. فإن تذكرنا الحقيقة التي أشار إليها الإمام بديع الزمان النورسي في الكلمة الأولى من أن الإنسان يعطي البقال أو بائع الفواكه دراهم مقابل ما يشتريه منه. حسناً… ولكن ماذا نفعل تجاه الله تعالى مالك وخالق كل شيء وواهبه؟ أو ماذا يريد هو منا؟ طبعاً يجب أن تكون مقابلتنا لنعمه هذه حسب ما أراده منا.
ولا تتغير المسألة إن أخذناها من ناحية العذاب. لننظر مثلاً إلى الآيات الآتية ﴿يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ (النساء: 142)
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾(البَقَرَة:165)
أحسب أن هذه الآية الكريمة تشير إلى الحقيقة الكلية الآتية:
يجب ألا يكون هناك عند المؤمن في الحب الإرادي أي حب يفوق حب الله تعالى. إن انقلاب الحب إلى طبيعة وشـعور يسري في كيان الإنسان ويجعله محباً ولهاً يحتاج إلى زمن، ويكون بنسبة نصيب ذلك الإنسان من المعرفة الإلهية. والحب الإرادي علاقة وترجيح حيث يشير الحديث الشريف “لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس جميعاً”إلى هذه المرتبة. والحقيقة أن الحب الحقيقي يبدأ بهذه الخطوة الأولى. وإذا جئنا إلى مشاعر الحب الفطرية عنـد الإنسان كحب الإنسان لوالديه وزوجته وماله… الخ فيجب أن يكون هذا الحب ضمن الإطار الذي أمر به الله تعالى، وإلا ساق الله تعالى عبده إلى امتحانات في الحياة الدنيا بمختلف الوسائل ويؤاخذه عليه، أو يؤخر ذلك إلى يوم القيامة. والخلاصة أن المؤمن هو إنسان متوازن وعليه أن يحفظ هذا التوازن في كل آن ويصونه في وجه جميع رغباته الأخرى وشهواته.
أجل! هناك أناس يبالغون في تعظيم بعض الأفـراد إلى درجة الألوهية ويقولون “هو ربنا ومعبودنا وإلهنا”. ويتحدثون عن خلقه لهم ويطنبون في مدح إدارته ويضعونه موضع المعبود المطلق. ومع أن بعضهم لا يصرح بمثل هـذه الأفكار والمشاعر، إلا أنهم بآمالهم المعقودة عليه وتوجههم نحوه وإبدائهم العلاقة والاهتمام نفسه يرتكبون الشرك نفسه. فإن أطلقنا صفة “الشـرك الصريح”على الطائفة الأولى، كانت الطائفة الثانية في “شـرك ضمني”وفي شرك غير مباشـر. والآية الكريمة تزجر الطائفة الأولى زجراً شديداً، كما تنبه الطائفة الثانية وتحذرها.
ثم إن هذه الآية تقوم تنشئ جسراً بين الألوهيـة وبين المحبة، وتجذب الأنظار إلى شعور المحبة الموجود بين الإنسان وبين ما يعتقد أنه معبوده وإلهه فإن كانت القلوب تقبل الخضوع لهذه الآلهة وتطيعها، فإن على المؤمنين أن يفتحوا صدورهم على سعتها، وقلوبـهم على مصاريعها لحب الله تعالى، وأن يركزوا نظرهم على مرضاته وأن يعلموا أن القيمة الحقيقية لحياتهم متوقفة على الاستماع لأوامره وفعل ما يرضاه وما يحبه لنا، وأن تكون مرضاته هي الهدف.
والذين لا يحبونه سـيبقون على الدوام في قلق على مصيرهم وعلى عاقبتهم المجهولة وعلى خوف. أمـا المؤمنون الحقيقيون فهم على وعي بالمقياس الصحيح والمحسوب بدقة والذي وضعه للمؤمنين الأنبياء والأولياء والأصفياء -الذين كانوا السبب في إيمانـهم وفي زيادة معرفتهم بالله تعالى- وأن يكون التوحيد ميزان هـذا الحب ومحوره. فهم يحبون الله أولاً محبة تتجاوز العشق والوجد، ولهذا السبب فهم يحسون بعلاقة نسبية تجاه كل شيء آخر غيره. فهم لا يحبون أي شيء آخر مثل حبهم لله، بل بحب نسبي حسب قرب هذا الشيء من الله ومن رضاه. ومثل هذا الحب يكون حباً رصيناً وباقياً لا يزول ولا يهتز. لأنه حب نابع من العقل ومن القلب ومن المنطق.
﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾(البَقَرَة:185)
لا يوجد في الدين -كقاعدة عامة- أي اكراه. وما يبدو شيئاً صعباً يكون وسيلة لليسر. فقصر الصلاة في اثناء السفر، وترخيص الإفطار في شهر رمضان لحالات خاصة وتشريع التيمم، كل هذه امور يتم الاتجاه فيها للتيسير والترخيص في مواضع المشقة والجهد. بل حتى تم العفو عن الأخطاء المرتكبة نتيجة النسيان، فمن يشرب أو يأكل ناسياً في شهر رمضان لا يفسد صومه بل يعد هدية من الله تعالى. وقد رفعت أنواع من التكاليف سواء لأسباب أصلية أو لأسباب عارضة وسلك سبيل التيسير. لذا يمكن القول بأنه يوجد العديد من أنواع التكاليف والعبادات الجميلة التي يعد كل منها أساساً في الوصول إلى السعادة الأبدية، مثل مقاومة النفس الأمارة بالسوء، والسمو الروحي والتعود على الصبر والاستعداد للآخرة واكتساب نعمة الفوز فيها، ولكن ما إن تبدو هناك امارات المشقة فيها حتى يتم تبديلها ببدل بسيط وسهل، أو تخلي مكانـها تماماً، وتربط خزائن الثواب بالباب الواسع للنية، وذلك مثل قضاء الصلاة فيما بعد أو اعطاء فدية بسيطة. أو رفع التكليف تماماً عند وقوع العجز التام.
وصعوبة أو سهولة الانقياد للأوامر الدينية تكون متناسبة طردياً مع الحالة الروحية للأشخاص ومستوى التعليم عندهم وما تعودوا عليه…الخ. لأن الدين يجمع بين كافة درجات المجتمع. أي أن جميع منتسبي الدين سواءً أكانوا أساتذة أم عمالاً أم خدماً، ذكوراً أم إناثاً يستطيعون التزود من الدين حسب حاجاتهم وقابلياتهم. ويستطيع الجميع تذوق حلاوة الانقياد لأوامر هذا الدين ونواهيه كل حسب مستواه. ولكن إن نظرنا إلى القيم الذاتية لأوامر الإسلام ونواهيه نراها مملوءة ومشحونة بالسهولة واليسر والتسامح واللين.
﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾(البَقَرَة:186)
عبّر الله تعالى في مناسبات عديدة عن قربه من عباده، وهنا أيضاً يقول إني قريب من عبادي، أجل! إن الله قريب جداً من عباده. ولكن العبد يعرف الله تعالى حسب المرتبـة التي بلغها بخلوص أعماله وانكشاف مشاعره… الخ. ولاشك أن معرفة الرسول صلىوسلمش بالله تعالى بوجدانه ليست كمعرفة أي فرد من أفراد أمته وإن كان من الأولياء. والمهم هنا في هذا الموضوع هو محاولة العبد رفع درجته في معرفة الله تعالى وبذل الجهد في هذا المضمار من جهة وقيامه من جهة أخرى بإيفاء حق هذه المراتب التي يبلغها، أو محاولة إيفاء هذا الحق. أي على العبد العيش من ناحية المشاعر والجو الفكري ومن ناحية العمل بالشكل الذي توجبه تلك المرتبة وأن يقضي حياته في هذا المضمار. وإلا كان من المحتمل سقوطه من شاهق إلى وادٍ عميق.
ونحن نرى هنا قبل كل شيء أن بشارة قرب الله تعالى قد رُبطت بسرعة الاستجابة للدعاء. وإن هذا القرب -الخارج عن الأبعاد الكمية والكيفية، وخارج جميع منافذها- مرتبط بالدعاء الخالص المتوجه إليه ونتيجة له.
وبجانب هذا تجب الإشـارة إلى أن تأثير الدعـاء هو خارج سلسلة الأسباب والمسببات، لـذا فبعد إسكات أصوات الماديين والطبيعيين يجب إيضاح أن الأسباب والقوانين الطبيعية هي من مخلوقات الله تعالى وأنـها لا تحدد الإرادة والمشيئة الإلهية ولا تتحكم فيها ولا تستطيع ذلك أصلاً، وأن الله تعالى إن شاء يستطيع -إلى جانب الاطراد الموجود في الطبيعة- القيام بتغيير كل شيء بالحوادث الخارقة التي يخلقها كالمعجزات والكرامات، وأن يستجيب للتضرعات والتوسلات والأدعية فيخلق أموراً هي فوق الأسباب. وكما تشير الآية إلى هذا فهي تذكر أيضاً بقربه الخارج عن الكم والكيف “أي لا يحدده كمّ ولا كيف”، وأن الدعـاء لا يكون بالصراخ -وكأنه يخاطب أصماً- لأنـه يسمع كل همسة وكل خاطرة من خواطر القلب والنفس مثلما يسمع الأصوات العالية. لـذا يجب أن يتم الدعاء بشكل مناسب وفي إطار الأدب الواجب نحو سـلطان السموات والأرض الذي يقول ﴿وَنَحْنُ اَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ (ق: 16). ثم إنه بمقتضى قوله ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُم يَرشُـدُونَ﴾ (البقرة: 186) فإن الذين يمتثلون لأوامره من صميم قلوبهم ويستهدفون الوصول في كل عمل من أعمالهم إلى الإيمان الكامل يكونون هم الراشدين والواصلين إلى غاياتـهم وأهدافهم، لأن العبد بدرجة تجرده من أهوائه وضعفه النفسي وبدرجة التجائه إلى الله تعالى يكون قد فوض أمره للحق تعالى الذي يقوم بإهداء إحسانه الخاص إليه وتأييده الخاص ومعاملته الخاصة ولطفه الإضافي الذي يقوم بما لا تقوم به آلاف الأسباب في آلاف السنين.
﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ﴾(البَقَرَة:193)
يمكن إيراد ما قاله الصحابي ابن عمر في أثناء الحوادث التي جرت بين عبد الله بن الزبير والحجاج بن يوسف الثقفي عندما أتى إليه رجلان فقالا له: “إن الناسَ صنعوا وأنت ابن عمر وصاحب النبي صلىوسلمن فما يمنعك أن تخرج؟ فقال: يمنعني أن الله حرّم دم أخي فقالا: ألم يقل الله “وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة”فقال: قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله”.
كان رسول الله صلىوسلمه في العهد المكي -الذي يشكل اكثر من نصف عهد النبوة- يوصي المسلمين بأن يكونوا متسامحين وليني الجانب حتى يأتي أمر آخر من الله تعالى. كل ذلك في إطار ﴿اُدعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِاْلحِكْمَةِ وَالْمَوعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَن﴾ (النحل: 125). وطوال ثلاثة عشر عاماً أو أربعة عشر عاماً قابل المسلمون جميع تصرفات المشركين المتسمة بالظلم والجور والحقد والنفور والاعتداء والقهر بالعفو والتسامح والمحبة. وبعد إخفاق تصرفهم هذا في تليين القلوب القاسية للطرف المقابل، تم الانتقال إلى عهد استعمال القوة وذلك لغاية واحدة وهي منع الاعتداء على الدين وإيقاف الأنفس البريئة وإذلال الأجيال القادمة.
أي العفو والصفح أولاً ثم الدفاع عن النفس. كان هذا ضرورياً لدين عالمي في عالم يدين بقانون القوة ويستعين بـها لإظهار الباطل حقاً. وكان ضرورياً لإيقاف أعداء الدين عند حدهم، وكذلك لضبط الميول وتنظيمها وكذلك للْحَدِّ من نـزوع النفس الأمّارة بالسوء نحو مقاتلة الآخرين والتسلط عليهم. كل هذه الأسـباب كانت وراء إعطاء الرسول صلىوسلمح -الموصوف في الكتب السماوية السابقة بأنه “صاحب السيف”- الإذن بالجهاد والقتال. فكما تعلَّمَ كيف يقاتل تعلّم كيف يصالح، ولولا مثل هذه الدراية النبوية لم يكن بالإمكان السيطرة على نـزاع النفس التي من طبيعتها القتل والعدوانية. لأنه عندما يجعل مشاعره هي الحكم عند بدء النـزاع والقتال فلن يكون هناك هدف إلا إراقة برك من الدماء وإلا صنع “أبطال!!”حرب دمويين. ومن المعلوم طبيعة القرارات التي يصدرها هؤلاء. لذا قام القرآن الكريم والسنة النبوية بعلاج الثغرات وسدّ منابعها في الطبيعة البشرية وضبطها ووضعها ضمن نظام واضح المعالم، وسد جميع الأبواب المؤدية إلى الشرور والنابعة من الأهواء والنـزوات البشرية، وذلك بوضع أساس واضح من الحروب الدفاعية أولاً ثم الحروب الهجومية متى ما توفرت الشروط والظروف الضرورية.
﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾(البَقَرَة:213)
يقول بعض المفسرين في تفسير ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ بأن بني آدم كانوا بأجمعهم كفاراً فأرسل الله تعالى نوحاً عليه السلام ثم الأنبياء الآخرين. ولكن هذا التفسير ليس صحيحاً على الإطلاق. فقد وجد الناس منذ عهد آدم عليه السلام حتى الآن في كل عهد إمكانية الاهتداء بأحد الأنبياء واتباع طريقه والسمو بنفسه، أي وُجدت هذه الفرصة على الدوام، فمنهم من استفاد منها ومنهم من لم يستفد وبقي على حاله. ولكنه على أي حال لم يبق منذ البداية دون مرشد. ومع أن بعضهم اختلفوا بسبب الرسالات الجديدة التي أرسل بـها الأنبياء، غير أن ما جاءت به بعثة الأنبياء من الهداية أكثر بكثير من هذا الاختلاف.
وحسب رأي بديع الزمان النورسي فانـه لو عاشت عشر فسائل من ضمن مائة فسيلة وأصبحت أشجاراً باسقة فلا يقال بأن صاحبها الزارع قد خسر. كذلك لو اهتدى عشرة من ضمن مائة من الناس وآمنوا وعاشوا وهم يدركون سبب خلقهم وغايته فهذا يكفي لكي يتخلص عموم الناس من عبثية الخلق.
أجل! كان الناس الأوائل أمة واحدة بفضل الأنبياء الذين كان مجيئهم من اصل واحد ومصدر واحد ونـزول رسالاتهم من سماء واحدة، وما خلفته هذه الرسالات من تأثير في وجدانهم ساقهم إلى أن يكونوا جماعة واحدة، فلم يكونوا متوحشين ولم تكن نفوسهم خالية من الدين ومن الإيمان ولم يكونوا معتدين. ثم اختلفوا لبعض الأسـباب العارضة وفسدت وحدتهم. وقد قام الإنسان الأول الـذي كان في الوقت نفسه النبي الأول بـدور التوحيد والائتلاف مدة طويلة. ثم بدأت بعض الطباع التي ركزت في الإنسان -لأجل تطمين بعض مصالحه وكذلك من أجل امتحانه- تبدي تأثيرها ومفعولها. فأخـذت نـزوات العواطف والرغبات تحل محل العقل والمنطق، وحلت الأهواء محل الهداية. وهكذا انـهزمت الوحدة والائتلاف أمام الخلاف. ولكن الله تعالى الذي فطر الإنسان في الأصل على أساس الاستقامة والصفاء، أرسل أنبياء جدداً لكي يزيل العقبات الموجودة بين قلب الإنسان والحقائق ويريه عاقبة الشر ويزرع في قلبه الأمل بالخير، ويدعوه للحذر واليقظة.
ولكن بعضهم لم يستطع الخلاص من أسـر الأهواء والشهوات، ولم يستطع آخرون منع أنفسهم من الاستمرار في طريق الظلم والكبرياء، وهذا أدى إلى استمرار الخلاف وتعاظمه، ولكن بطرق مختلفة وأساليب أخرى وإن كانت مختلفة عن السابق.
والحقيقة أن الخلافات الأولى بين الناس كانت نتيجة شحوب الحقائق في نظرهم وانقلابها إلى حقائق باهتة ثم انحلالها وحلول أشياء أخرى محلها. أما الخلافات الثانية فكان مبعثها إما الحسد أو الغلو وما يؤدي إليه من تأويلات وتفسيرات خاطئة بعد ما وضحت الحقائق وبانت جميع النقاط الغامضة بالحجة والبرهان، أو الدخول في اجتهادات سطحية مبعثها الهوى على الرغم من البراهين والحجج الإلهية.
هذا مع العلم أن الله تعالى كان قد أزال جميع الثغرات في مسائل الاجتهاد بآياته البينات وسد جميع الطرق المؤدية إلى التفسيرات النابعة من الأهواء. وتستطيع إن أردت أن تعبر عن هذا بلسان الفقهاء فتقول “لا اجتهاد مع النص”.
أجل! فهؤلاء لم يأخذوا بالآيات التي تدعو إلى الاتفاق وتكون وسيلة له، بل هرعوا وراء الاجتهادات القائمة على الأهواء والمؤدية إلى الفرقة والخلاف، وهذا جعلهم يهوون في وديان الخلاف والشقاق والانحراف.
﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلاَئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ َلآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾(البَقَرَة:248)
أولاً يجب معرفة معنى السكينة جيداً. فالسكينة تأتي من الناحية اللغوية بمعاني الجد والوقار والثبات والاطمئنان أو بمعنى الآية أو المعجزة التي تريح الإنسان، أي المعجزة التي عندما يراها الإنسان بعينيه ويشعر بـها بوجدانه يحس براحة وسكينة في روحه، أي أن السكينة تظهر بتجليات مختلفة ولها قابلية كبيرة على التمثل في صور مختلفة.
على أي حال فقد كانت بقية مباركة خلفها أنبياء عظام سابقون، وكانت النفوس تجد فيها السكينة والاطمئنان. ولما كانت السـكينة في التابوت، فقد عد التابوت نفسه سـكينة ووسيلة للتبرك. عد كذلك لأن الملائكة -وهم أبطال هذه الحادثة- قاموا بحمله، مما أعطى للتابوت منـزلة وقيمة كبيرة. كما أن تعظيم الملائكة للتابوت مثل هذا التعظيم يعلن ويدل على مدى قيمته المباركة.
والسكينة المذكورة في القرآن والسنة هي تجل ملكوتي ذو صفة أخروية أي من العالم الغيبي يهبها الله تعالى لبعض الناس، فيعطى القوت والقوة للقلوب والنور للإرادة. قد تأتي هذه السكينة نتيجة أدعية أنصار الله، وقد تأتي فجأة ودون طلب، بل رعاية لحال معينة ولطفاً بها. أي هي نعمة وفضل تحف به الأسرار، بحيث يشعر من مُنحها ودخل في جوها شعور من دخل العالم الآخر وعاينه. وقال بعضهم في معنى السكينة أنه نـزول الملائكة، وقال آخرون أنه قدوم المخلوقات الروحانية. وسواءً أكانت السكينة نـزول الملائكة أو نـزول المخلوقات الروحانية الأخرى من غير الملائكة، فانه ما أن تنـزل السكينة في مكان حتى تنـزل المنة الإلهية أيضاً… تنـزل المنة الإلهية فتحيل جو ذلك المكان إلى جو مشبع بالطمأنينة بحيث لو انـهمر الموت في ذلك المكان لما تحرك من نـزلت عليه السكينة قيد أنملة… هاكم مثالاً على هذا في وقعة الخندق التي زلزل فيها المؤمنون زلزالاً شديداً، والتي تلوى فيها المؤمنون أياماً في القبضة الحديدية للحصار، ولكنهم مع هذا بقوا أبطالاً صامدين. وهاكم مثال أبطال “أحد”الذين تحدوا الموت وتحدوا الزلزال الشديد الذي هز كل شيء من أساسه… لم تكن معركة “أحد”شيئاً هيناً أبداً، فقد استشهد فيها سبعون صحابياً وعلى رأسهم حمزة رضي الله عنه. ولكن عندما انجدهم الله وانـزل عليهم السكينة زأروا زئير الأسد ولملموا جراحاتهم، وقاموا في اليوم التالي للمعركة بالخروج بسرية جديدة، حتى إن بعضهم كانوا يحملون إخوانـهم الجرحى الذين خرجوا معهم، وهم لا يكادون يستطيعون السير بسبب جروحهم، وبدأوا يتعقبون العدو. وعندما علم أبو سفيان بـهذا وتأكد لديه عزم هؤلاء على تعقبهم حتى مكة أسرع بإعطاء الأمر إلى جيشه بالرجوع والهرب إلى مكة لكي لا يضيع حصة النصر الضئيلة التي حصل عليها.
ونظراً لخواص السكينة التي ذكرناها أعلاه فقد أصبحت يطلبه الفرد لنفسه أو تطلبه الجماعة كلها لنفسها. لذا نرى الرسول صلىوسلمو وصحابته الكرام ينشدون وهم يحفرون الخندق قبيل قدوم العدو ويقولون: “فأنـزلن سكينةً علينا”.
ولكن السكينة لا تنـزل ولا تتجلى لكل إنسان أو في كل قوم بالصورة نفسها. ففي نـزول السـكينة -التي يمكننا تعريفها بأنـها لطف من الله تعالى وهبة- يؤخذ على الدوام وضع الأفراد أو المجتمعات بنظر الاعتبار. فقد تمثلت السكينة في بدر بالملائكة النازلين إلى ساحة المعركة. أما السكينة التي نـزلت على أسيد بن حضير. وهو يقرأ القرآن فقد تجلت في شكل غمامة. وتمثلت السكينة التي نـزلت على قلب الرسـول صلىوسلمك وهو في غار ثور مع صاحبه أبي بكر الصديق رضي الله عنه بشكل اطمئنان قلبي وتوكل كلي على الله تعالى على الرغم من القلق الشديد لصاحبه عليه. وتجلت في الهجرة بشكل ثقة واطمئنان في قلب علي رضي الله عنه الذي نام في فراش الرسول صلىوسلمة وهو يعلم أنه سيكون هدفاً للسيوف الحاقدة.
أما بنو اسرائيل، فعلينا قبل كل شيء تثبيت الحقيقة الآتية، وهي أن اكثر ما يميز هذا القوم المعروفين تاريخياً هو أن السكينة قدمت لهم بشكل تلمسه اليد وتراه العين مراعاة لمشاعرهم وأفكارهم وخصوصيات حياتـهم وسلوكهم الخاص، أي قدمت لهم بشكل ملموس ومشاهد ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً﴾ (البقرة: 55). وورود أداة النفي “لن”هنا يعني أنـهم وطنوا أنفسهم على عدم الإيمان بسهولة. ونحب هنا أن نستطرد فنقول كان من الصعب على النبي عيسى عليه السلام القيام بوظيفة النبوة بين هؤلاء القوم الذين يربطون كل شيء بما تراه أعينهم، لأنه كان يمثل القيمة في الروحانية والغيبية. وكان لذلك حكمة إلهية، فنبوة عيسى عليه السلام التي غلب عليها الطابع الروحاني كانت تستهدف تعديل هذا الجانب المادي الصلب عند اليهود، وفي الوقت نفسه كانت تمهيداً لنبوة رسولنا صلىوسلمن . وقضى النبي عيسى عليه السلام حياته محاولاً تحقيق رسالته هذه. حاول هذا وقدم رسالته إليهم حسب مستواهم. ولم يذكر لهم أي شيء يستغربونه أو لا يقبلونه بل قال لهم: “عندي الكثير مما أريد قوله لكم، وسيقوله لكم فاراقليط عندما يأتي”. لم يذكر عيسى عليه السلام لهم أي شيء يتجاوز نطاق تصوراتـهم وفهمهم ومستوى إدراكهم. ومع هذا حاول البعض من ضعاف الأخلاق الذيـن أعمت المادية أبصارهم ولم يستطيعوا حتى هضم هذا وقبوله، لذلك فقد قـام بعضٌ من أذناب البيزنطيين بمحاولة قتل هذا النبي الكريم.
فلو نـزلت السكينة على مثل هذا القوم بالطابع الروحاني الذي نـزل على رسولنا صلىوسلم، وعلى علي رضي الله عنه وعلى اُسيد بن خضير رضي الله عنه لما استطاع هذا القوم فهم أي شيء منها. لذا نرى أن السكينة التي نـزلت على مثل هؤلاء كانت ذات طابـع مادي، وذات طابع قدسي بالشكل الـذي يفهمونه، فكانت أمانات مقدسة من مخلفات الأنبياء يوسف وموسى وهارون عليهم السلام داخل تابوت كان قد فقد.
يمكن تقييم مجيء السكينة داخل تابوت من الناحية الظاهرية ومن الناحية الباطنية كذلك. فمن الناحية الظاهرية:
1- يُظهر قدرة الله تعالى.
2- يزيد من ثقة النبي المبشر من اطمئنانه.
أما من الناحية الباطنية فهي القوة والقدرة التي يأخذها اليهود من مثل هذه الحوادث التي تجري في أفق الخوارق والمعجزات. إلاّ أنّ قابلية الأفراد واستعدادهم لتلقي هذه السكينة يختلف باختلاف طاقاتهم الروحية. فالحصة التي يحوزها الفرد منها ذو الطاقة الكبيرة تختلف دون شـك عن حصة الشخص الذي لا يملك مثل هذه القابلية والاستيعاب، والذي يعالج كل ما يواجهه من أحداث من زاوية النقد والتجريح.
وقد يكون التابوت رمزا إلى أن هؤلاء القوم -في وقت ما أو عهد ما- كانوا أمواتاً من ناحية الأحاسيس والفكر والإيمان. أو أن تجسم السكينة في التابوت كان يرمز إلى بعث هذه الجماعة وإحيائها من جديد. ولهذا السبب كان النبي داود عليه السلام يضع التابوت في مقدمة الجيش، وينقله معه أينما ذهب.
﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾(البَقَرَة:251)
يوجه الله تعالى أنظارنا في هذه الآية الكريمة -علاوة على أمور عدة- حول وجود ميزان وتوازن ومقياس في عالم الإنسان كوجوده في عالم الطبيعة والبيئة. فكل شيء قد وضع له نظام ومقياس معين وقواعد معينة. لذا ومن أجل تأمين مثل هذا التوازن لحساب الإنسانية ومن أجلها يهدينا الله تعالى إلى سواء السبيل ويخلق في جوانحنا الميل نحو الكفاح في هذا السبيل. ذلك لأن هذه النتيجة يجب أن تتحقق بيد الإنسان في دائرة الأسباب، وإلا أصبحت الدنيا مكانا لا يطاق فيه العيش مثلما ذكرت الآية الكريمة.
أجل! إن لم يتم تطويع بعض المشاعر المركوزة في طبيعة الإنسان -لغايات وحكم معينة- وترويضها بوساطة المبادئ الدينية وقيمها فإن الإنسان لن يكون بعيداً عن التخريب وعن الظلم والاعتداء. فإن لم يكن هناك أناس قد طوروا مشاعرهم الإنسانية بالإيمان والإسلام وأصبحوا جنوداً للحق وللنظام، ناشرين الأمن والطمأنينة كانت الدنيا عالماً للمتجاوزين حدودهم والمعتدين وسـاد الظلم والذلة فيها. أما من ناحية العلاقات والتوازنات الدولية فإن الأمن والثقة بين الدول وبين المجتمعات تكون مفقودة وتصبح الأمور في يد الدول الغالبة والمفسدة. وهذا معناه هزيمة الإنسانية وتقلبها في أحضان الفساد والفوضى. في مثل هذا الجو لا يمكن الحديث عن العيش كإنسان ولا عن العلم ولا عن الفن ولا عن الإيمان، ولا يبقى هناك أمن أو ثقة لا في الأمة ولا في المجتمع. وإذا ساد مثل هذا الجو الذي تسود فيه الفوضى يكون الناس ذئاباً ويرى القوي أن الحق بجانبه على الدوام ويعرف أنه بنسبة قوته يكون محقاً فيبذل جهده للحصول على مزيد من القوة، ويضع القوانين حسب أهوائه، أي يحاول أن يقيم عالماً تسود فيه فلسفة عرجاء ومشاعر أنانية.
لكي لا تنشأ مثل هذه الأوضاع السلبية والعرجاء، ولكي يتم تعديل النيات الظالمة والمعتدية خلق الله تعالى المؤمن المنصف تجاه الكافر الخالي من الإنصاف، وأهل الحق تجاه أهل الظلم، وأهل العدل تجاه المعتدين، وأهل المحبة تجاه أهل التعسف والتسلط. وذلك لكي يتم تأسيس توازن بين الناس كالتوازن الموجود في الطبيعة، ولكي لا تنقلب الدنيا إلى مستنقع قوة وأهواء وشهوات.
لذا كان من واجب أهل العقل والإيمان والعرفان القيام بإنقاذ العالم إن كان الفساد قد استشرى فيه، فإن لم يكن العالم قد فسد بذل الجهد من أجل استمرار الصلاح إن كان هناك أي احتمال لحدوث الفساد ومجيئه، والقيام بالسيطرة على أنصار الشغب والفوضى والفساد وعدم إفساح المجال للمزيد من الإفساد. ولا يكون هذا إلا بفتح دور العلم والتربية والتثقيف، وفتح مراكز الإرشاد والتوعية، وتكوين المؤسسات الضرورية في هذا المجال، ووضع البدائل العديدة في هذا الصدد، وسـد كل منافذ وثغرات الفتنة والفساد، وعدم السماح بفتح أي باب محتمل للفتنة. ولينـزل فضل الله تعالى وكرمه على من يستطيع تنفيذ هذا، إن النجاح في تنفيذ هذا وتطبيقه سيكون وسام فخر ووسام فضيلة لا يقدر بثمن على صدور القائمين به.
﴿اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾(البَقَرَة:255)
أجل، هو المعبود الأحد، لا معبود سواه. لا يوجد معبود سواه لأن جميع الموجودات من الأزل إلى الأبد ليست إلا ظلالاً من نور وجوده، وكل صور الحياة الموجودة في كل أنحاء الكون انعكاس من نوره، وكل موجود وكل كائن هو جلوة صغيرة يستمد وجوده من قيوميته تعالى. وجوده تعالى من نفسه، وحياته وقيوميته من ذاته. كل موجود سواه منه ومن تجلي صفاته وأسمائه الحسنى.
هو الحي القيوم الذي لا يوجد أي شيء قائم بنفسه دون أن يستند إليه، ولا يمكن لأي موجود إدامة وجوده دونه. ولا يمكن إيراد أي تفسير وإيضاح للغز الحياة دون أخذ قيوميته تعالى -التي تعني قيامه بذاته، وقيام كل شيء بـه- بنظر الاعتبار. ولا يمكن أبداً إقامة أي أساس صحيح ومعقول لتفسير عالم الوجود ولا دوام هذا العالم إلا به. هو الذات الأوحد والأعظم، وهذان الاسمان من اسمه الأعظم. كل الأشـياء والحوادث تجل من تجلياته، والكون كتاب لهذا التجلي، موضوع أمام بني الإنسان ليتفرجوا عليه وليطالعوه وليتأملوه تأمل سائح يريد مطالعة هذا الكتاب وقراءته. والأنبياء والمرسلون هم بمثابة مرشدين ومفسرين لهذا الكتاب. والكتب السماوية ولا سيما القرآن الكريم أفضل مفسر لهذا الكتاب المذهل الذي يخطف الأبصار بمحتواه وأكثره حيوية وتلوناً وبلاغة.
ويقول رسول الله صلىوسلمي عن آية الكرسي إنها أكبر آية في كتاب الله وأهمها “وفيها آية هي سيدة آي القرآن هي آية الكرسي”. وتأتي هذه الأهمية من:
1- الأهمية من ناحية المحتوى، لأنها تعلم التوحيد الخالص، وتكون ترجمانا لـ”صفات الله تعالى”. وهي بشكل مجمل مثل سورة الإخلاص، حتى إن الرسول صلىوسلمم كان يقرأ سورة الإخلاص في العهد المكي جواباً لكل سؤال يوَجَّهُ اليه حول الله تعالى. أجل إن كل سورة في القرآن الكريم تملك قيمة سامية، ولكن درجة فضائلها تختلف حسب محتواها.
2- وتتعلق الأهمية أيضاً بالأجوبة الخارقة التي تعطيها للقارئين لهذه الآيات والسور، وهي تتناسب طرديا مع مستوى إدراك القارئ وسعة أفقه وعمق عالمه الداخلي.أجل إن أهم عامل يلعب دوره في هذا الخصوص هو توجه القلب إلى الله بإيمان عميق. ويشرح الرسول صلىوسلمث هذا الأمر في حديث لـه حول شهر رمضان فيقول: “من صام رمضان إيمانا واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه”. ويتبين من هذا أن الإخلاص هـو لب جميع الأعمال وأساسها وروحها.
القيّوم: يتوجه هذا الاسم إلى ذات الله تعالى وإلى أفعاله في الوقت نفسه. بالنسبة إلى ذات الله فهو يعبر عن قدم الله تعالى وبقائه. أما الجانب المتوجه لأفعاله فهو تعبيره عن دوام الموجودات. لأن دوام الموجودات متعلق بدوامه تعالى. وكل ما يُذكر في دوام الموجودات من قانون ونظام… إلخ هو أشياء اعتبارية ونسبية. ولا يمكن بقاء الموجودات بمثل هذه القوانين النسبية الاعتبارية. فإن أردنا تبسيط الشرح قلنا إنه يستلزم وجود من يطبق هذه القوانين ويسوقها للعمل، وهو الله تعالى. ولابن عربي رأي آخر في هذا الموضوع نرى من المفيد ذكره هنا. يقول ابن عربي إن حقائق الأشياء عبارة عن تجليات الأسماء الإلهية. لذا فالوجود في الحقيقة عدم، ولكن هذه التجليات تأتي متتالية الواحدة تلو الأخرى بشكل متتابع بحيث نرى بـها أن الأشياء موجودة ونحكم على وجودها. ولو قطع الله تعالى هذه التجليات لحظة واحدة لزالت الأشياء كلها وفنيت.
أجل ! فكما قال الشاعر المتصوف سليمان جلبي:
قال للكون “كن”… فكان
ولو قال: “زُل”… لزال الوجود.