إن المرضى والمظلومين والمنكوبين يشكّلون جزءًا كبيرًا من البشرية، ولا ريب أن لِعقيدة الحشر والنشور التأثيرَ البالغَ في نفوس هؤلاء الناس وأرواحِهم.
سلوى المريض
فالمريض الذي يحس بأنفاس الموت تقترب منه كل لحظة، ويجد نفسه مندفعًا -بلا إرادة منه- إلى ظلمة القبر، ليس له من أمل سوى أن يستيقن أن القبر ردهة تنفتح إلى عالم آخر، ولن يطمئن له قلب أو يذوق للبهجة والسرور لذة، إلا إذا آمن أن القبر ممرّ يمتد إلى ديار السعادة وعوالم الخلد. بهذه الطمأنينة وبذلك اليقين يتسلى المريض عن آلام الرأس والظهر المُبْرِحَة، وأوجاع السرطان المؤرقة، وبهما أيضًا يقاوم ما يثور في نفسه من مخاوف وهواجس كلما أحس بحدة مخالب الموت وهي تنهش أحشاءه، فيقول:
لن تدخل البهجة قلب المريض إلا إذا آمن أن القبر ممرّ يمتد به إلى ديار السعادة وعوالم الخلد.
“أنا راحل، ولن يستطيع أحد أن يوقف هذه الرحلة، غير أني مسافر إلى عالم أكتسب فيه صحتي الحقيقية، وأنال شبابًا أبديًّا.. أنا ذاهب إلى ديار الله التي يصير إليها الناس جميعًا”، وهكذا ينسى مرضه، وتخفّ آلامُه.
بسمة الوصال
وإننا نلحظ على شفاه أولياء الله المقربين عندما يسلمون أرواحهم إلى بارئها بسمةً تتبدّى كأنها أكمام ورود متفتحة.. إنها بسمة الوصال بالحبيب، وعندما حانت لحظات سيد الأنبياء الأخيرة، سحب يديه من بين يدي عائشة رضي الله عنها وردّد قائلًا: “اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى”[1]، وهو نفسه الذي قال قبلها بأيام قلائل: “إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ، وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ”[2].
لم يكن ذلك العبد الذي خُيِّر بين الدنيا والآخرة سواه صلى الله عليه وسلم، لذلك لم يتمالك أبو بكر رضي الله عنه ذلك الصحابيُّ الجليلُ الذي أدرك حقيقة هذا المعنى دموعَه فسالت، وعندما حانت اللحظة، نرى صلى الله عليه وسلم يسحب يده من بين يدي عائشة رضي الله عنها، ويختار الرفيق الأعلى.
كذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه -تلك الشخصية السامقة- نراه مستلقيًا على البطحاء، متوسدًا الأرض، رافعًا يديه إلى السماء داعيًا ربه: “اللَّهُمَّ كَبِرَتْ سِنِّي، وَضَعُفَتْ قُوَّتِي. وَانْتَشَرَتْ رَعِيَّتِي، فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مُضَيِّعٍ وَلَا مُفَرِّطٍ”[3]، وقال مرة: “اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ، وَاجْعَلْ مَوْتِي فِي بَلَدِ رَسُولِكَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”[4].
ما الباعث الذي يُجري على ألسنتهم هذه الكلمات، ويثير في أنفسهم حب الموت يا ترى؟ إنه الإيمان بالآخرة، والتطلع إلى عوالم تتجلى فيها أبهى صور الجمال، وأبدع مشاهد الرحمة والإنعام، والأهم والأعظم من كل ذلك هو الشوق إلى رؤية جمال الله الباقي الأبدي.
أنا راحل لا محالة، أنا راحل إلى عالم أجد فيه صحة حقيقية وشبابًا أبديًّا. أنا راحل إلى ديار الله.
عزاء المظلومين
ولا تخمد ثورة المظلوم الذي يتحرّق شوقًا ويتقلّب حرصًا على الثأر من الظالم الذي انتهك حرمته، ولوّث شرفه وعرضه، إلا إذا تصور ذلك اليوم الذي يؤخذ فيه بتلابيب هذا الظالم أخذَ عزيزٍ مقتدِرٍ، وتَصوّرَ تلك الدار التي يُغدق الله فيها عليه ما لا يحصى من العطاء لقاءَ ما عاناه في الحياة الدنيا.
هكذا يعزي نفسه ويسري عنها، فالمظلوم يوقن حقّ اليقين أن الظلم لا يذهب سدًى بلا عقاب، لا بد أن يأتي يوم تُعقَد فيه محكمة كبرى، وتوزن فيه كل الأعمال بميزان دقيقٍ، فيعاقَب الظالم، ويكافَأ المظلوم، يقول تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ (سُورَةُ هُودٍ: 11/102)؛ أي إذا أخذ الله القرى وهي ظالمة، فلن تجد أبدًا مَن يُنجيها، وبهذا الأخذ يكون المظلوم قد انتقم من الظالم المتجبّر عليه، وروّح عن نفسه.
سكينة المنكوبين
أما المنكوب الذي دَهَتْه مصائب سماوية أو أرضية.. أصاب بستانه البَرَد أو جرفه السيل، أو هز الزلزال منزله فهدمه، وأهلك عياله، وأحال عمرانه إلى خراب وأنقاض.. هذا الرجل لا يسليه عما ألمّ به من المصائب إلا تصوُّرُ البعث بعد الموت، فهذا التصور يخبره بأن المال الذي ضاع في الكارثة صدقة، والنفوس التي زهقت شهيدة، وهكذا يتنسم قلبُه برد السكينة والاطمئنان.
الظلم لا يبقى بدون عقاب، سيأتي يوم تُعقَد فيه محكمة كبرى فيعاقَب الظالم، ويكافَأ المظلوم.
ومن هنا يظهر جليًّا أن البيت الذي تفوح فيه روائح الإيمان بالآخرة يستحيل إلى روضة من رياض الجنة، أما إذا تلاشى منه هذا الإيمان، تحول إلى حفرة من حفر النار، فما فرقُ هذا المنزل -وإن كان في وسط العمران- عن خَرِبة يسكنها البوم ويتجاوب النواح في أرجائها؟
ولدٌ بعيد عن الحياة الدينية ومشاعرها، وشاب هائم في أهوائه، ومريض يترقب ساعة الموت ويتلوى في آلامه وجوهٌ عابسة متجهمة، ونظرات مظلمة قاسية.. والأسوأ من ذلك كله هو الفرارُ من هذه السلبيات بتخدير العقل والقلب بالملاهي، والابتعادُ عن فطرة الذات وحقيقتها، هذا، ولا يمكن أن تلج السعادة ذلك المنزل إلا بالإيمان بالبعث والنشور بعد الموت.
[1] صحيح البخاري، فضائل الصحابة، 5؛ صحيح مسلم، فضائل الصحابة، 85.
[2] صحيح البخاري، مناقب الأنصار، 45؛ صحيح مسلم، فضائل الصحابة، 2.
[3] جامع معمر بن راشد، 11/315؛ موطأ الإمام مالك، الرجم والحدود، 1.
[4] صحيح البخاري، الحج، 226.
المصدر: نفخة البعث، شواهد الحياة بعد الموت، فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.