Reader Mode

الجذبة هي الجلب وشدّ الشيء إلى غيره، الغيبة عن النفس والنشوة الروحية. وفي اصطلاح التصوف: أخذ الله السالك إلى حضرته، وحال الوجد الناشئ منه، واتصاف السالك بالصفات الإلهية – أي بالأخلاق الإلهية القرآنية – منسلخاً من الصفات البشرية، وإدراكه الوحدة من وراء التجليات الجلالية واستشعارها أو مشاهدتها، بحيث إن الروح الطاهر والمستعد ليعكس هذه التجليات يلقي بنفسه في خضم الأمواج العاتية الآتية من الغيوب، باستسلام عميق دون خوف ولا وجل ولا قلق ولا اضطراب كالسابح الجيد المتمرس، وأحياناً يسبح دون انقطاع في شوق وطرب.

إن كانت الجذبة جلباً مرتبطاً بذات الإنسان وشداً للسالك بقوة قدسية إلى المركز نحو غاية خَلقه والأفق الذي تشير إليه بوصلة ماهيته، فالانجذاب هو استجابة الروح لهذه الدعوة الواردة، طوعاً دون مقاومة بقوله: ” أَتَيْنَا طَائِعِينَ”.

الجذبة، موهبة عظمى وحظوة كبرى، لا يمكن أن تُكتسب بالأسباب العادية. والسبب الوحيد لهذه الحظوة هو جبر مقدس واختيار مبجّل. أجل، إن الاستعداد في الروح والصفاء في القلب اللذين يحتضنان الجذبة، وكذا تشريف هذه الفطرة النـزيهة المشتاقة للمعالي بموهبة ثانية، كلاهما يعودان للحق تعالى. ]ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء[ (الحديد:21). نعم، الفضل منه فهو الذي يُدخل أجزاء الزمان العظيم وما فيه من شؤون في آن سيال.. فيمنح  الخطوة الواحدة القدرة على بلوغ الجنان.. ويهب النظرة الواحدة قابلية تُحوِّل الفحمَ ماساً.

إن ما يبدو قطعه محالاً بإرادة الإنسان من المسافات الطويلة جداً والمرتفعات الشاهقة يتحقق بجذب الحق سبحانه ورفعه، بحملة واحدة وبنفحة واحدة، كالمعراج. وقد قيل إشارة إلى هذا، كلام طيب هو: (جَذْبَةٌ مِنْ جَذَبَاتِ الرَّحْمَنِ تُوَازِي عَمَلَ الثَّقَلَيْنِ)،( ) أي القرب الحاصل من أعمال الثقلين.

فالمنجذبون بجاذبة الحق، يدركون في أرواحهم، أسرار الإيمان والإسلام والإحسان، ويُطلق على مشربهم “المشرب الأويسي”.. حيث إن جميع مشاعر هؤلاء وتفكرهم وحواسهم وسلوكهم – بفضل انجذابهم بتلك الجذبة المقدسة – تمضى دائماً في استغراق وحيرة.

وتتشكل أحياناً “دائرة صالحة” كـ”الدور” بين الجذبة والرياضة والعبادة. فسالك الحق يكرَّم بالجذبة بمقدار عبادته ورياضته، وبمقدار جذبته ينقطع إلى الرياضة والعبادة. وطالما الحركة هي وفق ما تشير إليه إبرة الموازين الشرعية، يستمر هذا التعامل وهذا التسلسل الولود. وبخلافه أي بمقدار ابتعاده عن الإقليم النوراني لمشكاة محمد عليه أكمل التحايا، يجابه بحالات ظلمانية في “دوائر فاسدة”، من بروز التباسات متنوعة و ظهور أشكال من الإهمال واللامبالاة والاستخفاف بموازين التكاليف الشرعية.

الجذبة استعداد وموهبة أولى قبل كل شيء. فلو لم يكن عطاء الله الجبري الأول هذا، لما كسب سالك الحق الجذبة ولا الانجذاب بمجرد الرياضة والعبادة والتزكية، ولما شاهد ولا أدرك تموجات الجذب والانجذاب على وجه الكائنات الحاصلة بالنور المترشح من اسم الله “الودود”. فمثلما لا يصح إطلاق “لا شيء” إلى مثل هذا السالك، من الصعوبة إطلاق أنه “شيء ذو قيمة” أيضاً.

ما حيلة الشيخ معي إن لم تكن جذبة العشق

ما حيلة الشيخ معي إن لم يرد الإلهام من الحق

                                                          (يونس)

الجذبة تجعل الإنسان أحياناً مستغرقاً في محيط الفيض الإلهي، قد دفن الدنيا والعقبى وعلاقته بهما في نسيان عجيب حتى لا يستطيع أن يرى غير تجلياته سبحانه. يقول “معلم ناجي”:

جذبة أُعطيتها كأنها هدير البحر

حتى ظننت خيالي بحر الفيض الإلهي

يقول هذا ويرى نفسه والأشياء جميعها مثله في نشوة سكرى بجذب ذلك الجذّاب المقدس.

نعم، “إن كل الناس وكل شيء نشوان بجذبة المحبة الإلهية وبشراب المحبة.. فالفلك نشوان، والملك نشوان، والنجوم نشاوى، والسموات نشاوى، والشمس نشوى، والقمر نشوان، والأرض نشوى، والعناصر نشاوى، والنباتات نشوى، والشجر نشوى، والبشر نشوان، والأحياء كلها جميعا نشاوى”.

والجذبة على نوعين:

1- خفية: وهي أن المجذوب يحبّ الحق سبحانه، ويتلذذ بلذة غامرة وهو يأتمر بأوامره، ويشعر دوماً أنه ينجذب ليغترف من أعمق منابع اللذاذات.

2- جليّة: وهي أن المجذوب في كل آن ينبسط أكثر ويتسع، ويكسب حالاً أكثر سحراً. ويشعر بإدراك عميق وحدس مبصر أنه منجذب بجذب ذلك الجاذب المطلق إلى دنيا ذات أسرار تفوح بعطر الأنس والحضور والاطمئنان، وهكذا يفني عمره مجذوباً. فالذين يجهلون الحال، يرون منه تلونات في حياته فيظنونه مجنوناً دون شك. وللتعبير عن هذا الحال وهذا الالتباس للسـيد عبد العزيـز مجدي شـعر غزلي أردفه بجنون وهـو ذو مغزى عميق:

“جنون سَمّوه جذبة بل هو فوز مأمون، فمن ها هنا تعتلى القمم أسرار الجنون”.

نعم إن للجذبة جوانب شبيهة بالجنون ظاهراً، ومع هذا فهما شيئان في غاية الاختلاف. فإدراك المجذوب بتحوله من حال إلى حال بتجليات الجذبة، إما أنه يزلّ إلى ما دون إدراك البشر الاعتيادي ويهوي، حيث يبدأ ظهور حالات لا تنسجم والشريعة الغراء والعقل القويم والحس السليم، أو يرتفع متجاوزاً المستوى الاعتيادي للناس، فيبلغ ذروةً تفوق مستوى البشر، بحيث إنه لدى سياحته إلى ما بعدها يطير إلى الخلود حاملاً مشعل السنة المطهرة متقدماً الحس والعقل، ولكن يظنه المشاهدون مجنوناً.

هيهات! أين الجنون الذي هو سقوط تحت مستوى العقل وأين السير قدماً أمام العقل والحس برفاقة التوفيق الإلهي.

اللّهم إنّا نسألك موجِباتِ رحمتك وعزائمَ مغفرتك والسلامةَ

من كل إثم والغنيمةَ من كل برٍّ والفوزَ بالجنة والنجاة من النار.

وصلِّ اللهم على سيدنا سيد الأبرار والأخيار.

فهرس الكتاب