سؤال: العبادات ماليّة وبدنيّة، فهلا توضّحون المسألة خاصَّة العبادات المالية للمؤمنين الموسرين؟
الجواب: العبادات أصلًا قسمان: مالية وبدنية، ويُخطئ من يظنّ أن هذا التقسيم يعني أنهما متباينان لا صلة قريبة أو بعيدة بينهما، فكلٌّ منهما متعلّق بقسيمه ومعزّز له.
فالصلاة مثلًا عبادة بدنية لكنها لا تنفصل عن المادة جذريًّا، فالزمان والمكان فيها عناصر مادّية، وهما جَلِيَّانِ عند النظر إلى شروط الصلاة قبل الدخول فيها وبعده.
والزكاة عبادة ماليَّة، وهي بدنية أيضًا من حيث إنَّ الفردَ يكدُّ في السوق ويسعى حتى يغدوَ أهلًا لوجوبِ الزَّكاة عليه.
والحجّ عبادة لها وجه مالي هو النفقة وآخر بدنيّ هو الرحلة الطويلة والمناسك من طواف وسعي ووقوف ورجم للشيطان وغيرها، وهكذا الصوم.
إذًا العلاقة قوية وعظيمة جدًّا في هذه الأركان الأربعة، فكأنّ ما نتقرب به إلى الله في باب العبودية لا ينفك عن المادة.
وبعد فموضوع السؤال أنَّ للمادة دورًا رائدًا في الدفاع عن القرآن والإيمان والسعي في نشرهما اليوم، ومن هذا الجهادُ بالمالِ في سبيل الله، أي بذله في سبيل الحق بالزكاة ونحوها كالهبة والوقف والصدقة.
وتنبغي الإشارة إلى دقيقةٍ لطيفةٍ قد تُفهَمُ خطأً: إن من وهبهم الله المال لا تُغني زكاتهم ولا أضعافُها من الصدقات عن السعي بأبدانهم في سبيل الخدمة، وقد ذكرت آرائي هذه مرارًا في مناسبات كثيرة، وأُوجزُها هنا لمناسبتها:
كان أبو بكر رضي الله عنه من أثرياء مكة يوم أن عرف مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم، أما يوم توفي فميراثه معلوم. أجل، إنه لما عرف رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أنفق كلَّ ما يملك، وأفناه في سبيل الإسلام، وأقدمَ بنفسه في كل نضال ومعركة لا سيما الهجرة إلى المدينة فشهد بدرًا وأحدًا والخندق وخيبر وتبوك وغيرها.
فما كان إنفاق المال كله في سبيل الله لِيَعُوقَه عن الكفاح بنفسه، ولو فرضنا محالًا أنه رضي الله عنه لم يشهد أحد هذه المشاهد، فليس ببعيد أن يقول له رسول الله ما قاله لكعب بن مالك رضي الله عنه لما تخلف عن غزوة تبوك، وأن يهجره ولا يكلمه وينهى عن كلامه حتى يأتي بيان سماوي بتوبته كما فعل بكعب وصاحبيه.
أجل، إن المادة أحيانًا كانت في الصدارة في خدمة الإسلام والقرآن، وهذا ليس مطلقًا، بل يختلف باختلاف الزمان والمكان وأحوال الأفراد.
وهذا الضبط للمسألة يتيح بحثها من وجهين:
- إنفاق الناس ما قلّ أو كثُر مما يملكون، وصرفه في سبيل الله تعالى.
- التضحية الممكنة في هذا وَفْقَ المقادير الشرعية.
أجل، اليوم لدى المسلمين فهمٌ معوجّ جدًّا وخاطئٌ بقدر اعوجاجه، يقول بعضهم: “لستُ من أولي السَّعة، فلا ثروة لديَّ، لذا لستُ معنيًّا بالعبادات المالية من زكاة وهبة ووقف وصدقة وغيرها”. كلا، إن هذه رؤية خاطئة قطعًا، فكلٌّ مكلف بعبوديته تعالى بقدر ما وهبه من إمكانيات، فمن عنده عشر ليرات ومن عنده مائة ألف ليرة كلاهما يؤدِّي حقوق الله تعالى مما أوتِي، ويسعى للإنفاق ونيل رضا ربه بأداء حق العباد منه، وأخصّ يومنا هذا، فعلى الجميع أن يُسهموا، أي كلّ من يؤمن بهذه الدعوة العظيمة، كلٌّ بقدر ما أُوتِي من أجل إعلاء كلمة الله وعلوّها، لذا لا يصدر عن المؤمن بل يستحيل أن يصدر عنه كلام مثل “ما زلتُ فقيرًا، وعندما أُصبح غنيًّا سأنفق في سبيل الله”.
يقول بديع الزمان: “إنّ ذرة من عمل خالص لهي أفضلُ عند الله من أطنان من الأعمال المشوبة”[1]؛ فالله سبحانه عندما يزن الأعمال لا ينظر إلى قلتها أو كثرتها بل إلى ما فيها من إخلاص.
والخلاصةُ أنَّ كلَّ إنسانٍ مكلَّف بالتعبئة في سبيل الله تعالى بما أُوتِي، فلو أنَّ لأحدهم فرسًا لوجب أن يلحق بالرَّكبِ، ولو أن لآخر سيارة للزمه أن يلحق بالجيش كذلك، ولو كان لآخر مع خيله معدات عسكرية فليأخذها ويذهبْ؛ فيستوي الجميع في الجهاد، ولعلهم يتساوون عند الحقّ تعالى، فهم في الأجر سواء، ذلك أنهم جميعًا جيَّشوا كل ما يملكون.
ومن المفيدِ التطرُّق إلى أمرٍ آخر: الإنفاقُ الكثيرُ مع الحفاظ على الإخلاص صعبٌ جدًّا، إنَّه صعبٌ ولكنَّ ثوابَه جزيلٌ جدًّا بناءً على قاعدة: “الغُنْمُ بالغُرم”. أجل، إنّه لَأمرٌ يأتي بالثواب والأجر قطعًا أَنْ يحافظ المرءُ على إخلاصه وصدقه وصلته بربِّه في فترةٍ المادّةُ فيها رفاهيةٌ أو تعِدُ بالرفاهية، بل تفتح أبوابَ الرياء والسمعة.
وللمسألةِ وجهٌ آخر وهو معيار التضحيةِ في الإسلام، ولا أعلم معيارًا ثابتًا في هذا الموضوع. نعم، جاء في النصّ مقادير وأنصبة ثابتة للزكاة، تبيّن أقلّ ما يكلَّف به المؤمن بالزكاة وأقلّ ما يرفع عنه المسؤولية.
وكما لا نستطيع إنقاصَ عدد الصلوات الخمس ولا زيادتها، ولا تغيير أوقاتها أو عدد ركعاتها، كذا فلنفهم مسألة أنصبة الزكاة ومقاديرها، وفي حديث الترمذي: “إِنَّ فِي المَالِ لَحَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ”[2]؛ قال شُرّاح الحديث: لرئيس الدولة أن يطلب ذلك من رعاياه عند الحاجة؛ هذا ولم تُطلب الأموال فحسب، بل الأرواح أيضا يوم صارت سيادة الدولة والأمة عُرْضة للخطر، فضحت الأمة بهذا عن طيب نفس؛ إذ يلزم فعلُ ما يجبُ فعله مطلقًا ولو بأن تنفق أموالٌ أضعاف مقادير الزكاة لكيلا يُلِمّ بها هذا الخطر.
ولو تأمّلنا يومنا هذا من خلال هذا المنظور، لَبَدا أن الدين المبين انتُهك، وثمة محاولات لتنسية الأجيال ذكرَه الجميل صلى الله عليه وسلم؛ ولا وجودَ على وجه البسيطة اليوم لمجتمعٍ إسلامي شريفٍ محترمٍ له وزنه، ولا مجال للحديث عن وجود مجتمع قوي قادرٍ على حماية المسلم وحقوقه والدفاع عنه ضد القوى الظالمة، وعُتاة القوة الغاشمة.
وحسبُنا هذه الأسباب ليقدِّمَ المسلم روحَه في صُرَّة، لا نصفَ ماله أو مالَه كلَّه فحسب، وينهض للنضال والكفاح في سبيل الإسلام. أجل، هذا السعي من الأعمال الضرورية التي يلزم القيام بها كي يتغير طالع المسلمين النكد، ويجريَ كل شيء في مصلحتهم، وهذا لا يتحقق بربع العشر فحسب، فعلى كل من وعى الدعوة أن يعمل بجد لتحقيق التوازن بين الدنيا والعقبى، وأن يشارك هذا الركبَ بأوجه الإنفاق التي يبذلها بقدر إيمانه واعتقاده زيادة على الحدِّ الأدنى في الزكاة، بل إنه مضطر للمشاركة في هذا الركب؛ وأعتقد أنه ما من نفقةٍ ينفقها اليومَ في سبيل الله إلا حظيت بالقبول عند الحق سبحانه وتعالى، وسيُثاب على الواحد بالآلاف.
أجل، إن كل إنسان مكلفٌ بالخدمة في سبيل الله -بنفسه وماله- بقدر إيمانه، ولا حدّ لهذا أو هو نسبيّ، فعلى قدر إيمان الفرد بالله، وشعورِه بوجوبِ رفعِ اسمه تعالى الأعظم في أفقنا، ويقينه بأنَّ اسمه الجميل صلى الله عليه وسلم شفاء لصدورنا، تكون التضحية بالروح لا بالمال فحسب، يضحي الفرد ويقول: “آهٍ، لو أن لي أربعين نفسًا لضحيتُ بها” كما فعل سيدنا عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه، فلقد أسره الروم وأذاقوه من صنوف العذاب ما لا يخطر ببال ولا يتخيله عقلٌ أو خيال، فمن غطسٍ بقِدرٍ يغلي ماؤها إلى سحبٍ على الوجه وهو موثق بذيل الخيل، إلى غير لك من صنوف العذاب… فلما رأوا رباطة جأشه راحوا يحلمون ويتمنون لو أنه تنصَّر، ثم قرّروا قتله، فأخذ يبكي، فعجبوا لبكائه وهو من تحمل كل أنواع العذاب تلك، عجبوا أيّما عجب، فقيل له: ما يبكيك يا عبد الله، أتخاف الموت؟ فقال رضي الله عنه:
“إِنِّي إِنَّمَا بَكَيتُ لِأَنَّ نَفْسِي إِنَّمَا هِيَ نَفْسٌ وَاحِدَةٌ، تُلْقى فِي هَذِهِ الْقِدْرِ السَّاعَةَ فِي اللَّهِ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ يَكُونَ لِي بِعَدَدِ كُلِّ شَعْرَةٍ فِي جَسَدِي نَفْسٌ تُعَذَّبُ هَذَا العَذَابَ فِي اللَّهِ”[3].
هكذا فلنكن، نستقلّ ما ننفقه كي ننهض بالحقيقة التي نؤمن بضرورة رفعها ولو أنفقنا كل ما نملك كما فعل ذلك الصحابي الجليل، فلنشاركه مبدأَه: “يا ليتني كان لي من الأنفس عدد كل شعرة فيَّ، ثم تسلط عليَّ فتفعل بي هذا”.
[1] بديع الزمان سعيد النُّورْسِي، اللمعات، اللمعة السابعة عشرة، الذكرة الثالثة عشر، المسألة الثالثة، ص 182.
[2] سنن الترمذي، الزكاة، 27.
[3] ابن عساكر: تاريخ دمشق، 27/358؛ ابن الأثير: أسد الغابة، 3/213؛ ابن كثير: التفسير، 4/521 (في تفسير الأية 110 من سورة النحل).