سؤال: ليتكم تحدثوننا عن حبّ رسولنا صلى الله عليه وسلم لأصحابه الكرام، وأسباب هذا الحبّ ؟
الجواب: لقد عُني الرسل السابقون أيضًا بمَن نصروهم، وبأممهم التي ساندتهم في خدمتهم ودعوتهم، فأحبوهم وقرّبوهم، وكيف لا وهم الذين لم يُسْلِموهم وإن في أحلك الظروف؟ غير أن ثمة فرقًا بين رسولنا صلى الله عليه وسلم وغيره من الرسل عليهم السلام: عندما يدنو الأجل من نبي قبل خاتم الأنبياء يأتي آخر ويتولّى الأمر من بعده غالبًا، أما بعد مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم فقد تحمَّل هذه الرسالة أولياءُ الأمة، وعلى رأسهم الصحابة الكرام رضوان الله عليهم.
وهكذا كان صلى الله عليه وسلم يحبّ أمته لتحمّلها هذه المهمة الجليلة… وكلّما اقتضى الأمر صرّح بأصول هذه المحبة، ويذكّرهم بقوله: “تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ”[1]، وأحيانًا يوجّه القلوب إلى القرآن الكريم وأهل بيته، ويوصي بملازمتهما والتمسك بهما قائلًا: “إِنِّي تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ اللَّهِ، وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي”[2]، ولهذا فإن العناية بآل البيت أنصارِ الكتاب والسنة بالجبلّة في ذلك العصر وتاليه كانت من باب التمسك بالدين، والحقيقة أن وراثة آل البيت لرسولنا صلى الله عليه وسلم هي بأحدِ معانيها أسمى من كل أنواع الإرث.
وفي أمته أفراد هم ممثِّلو روح النبوة، لقد صاحبوه وآمنوا به من أعماق قلوبهم، وأسلموا له، ولم يتخلوا عنه قط ولو لحظةً واحدة، فهم جميعًا رأوا نور النبوة، وترعرعوا في لألاء أجوائها وغِلافه، فتميزوا عنَّا كثيرًا من هذا الوجه، ولا ريب أنْ سَيَتَميّزُ من اجتمع به وشاهد أحواله كلها، وشهِدَ الوحي وهو يهطل عليه من السماء، لذا طبعيٌّ أن يُعنَى بهم رسولنا صلى الله عليه وسلم أيّما عناية، ويفاخر بهم، حتى إنه قال: “لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ، ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ، وَلاَ نَصِيفَهُ”[3]، إنه وهو يفعل هذا يرشد في المقام الأول كل من بعده وكل من سيخدم الدين ويناضل من أجله حتى يوم القيامة ليضعوا أصحابه رضي الله عنهم في مقام الصدارة.
أجل، لقد كان صلى الله عليه وسلم إنسان الوفاء، كان حتى لحاقه بربِّه يتنفس وفاءً لمن بذلوا أرواحهم وضحّوا بها في سبيل دعوته التي حملها، لقد تكاملوا معه وانصهروا في بوتقته حتى إنه لما حان اللحاق بالرفيق الأعلى -وهذا ما كان يريده- نَشَج يبكي على فراقهم، وما كان منه إلا أن قال لهم: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي قَدْ نَبَّأَنِيَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ أَنَّهُ لَمْ يُعَمَّرْ نَبِيٌّ إِلَّا نِصْفَ عُمْرِ الَّذِي يَلِيهِ مِنْ قَبْلِهِ، وَإِنِّي لَأَظُنُّ أَنِّي يُوشِكُ أَنْ أُدْعَى فَأُجِيبَ، وَإِنِّي مَسْؤولٌ، وَإِنَّكُمْ مَسْؤولونَ، فَمَاذَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟” قَالُوا: “نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَجَاهَدْتَ وَنَصَحْتَ، فَجَزَاكَ اللهُ خَيْرًا”[4]، فكل وفاءٍ عرفناه منه صلى الله عليه وسلم تعلمناه.
إنه لم يكن وفيًّا للبشر فحسب، بل كان مفعمًا بالوفاء حتى للحجر والترب، يشتاق إلى مكة ولا ينقطع عن “قباء”، لأنه أوّل منزل فتح له صدره بعد الهجرة والعناء، وهو الذي قيل له فيه: “ههنا المنزل يا رسول الله”، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزور قباء كلّ سبت حتى لكأنه يقول له: “لقد ضيّفتَني وأكرمتَني”، وكان يزور أُحدًا أيضًا، ذلك المكان الذي قال فيه: “هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ”[5]، أي هو المكان المبارك الذي نال نصيبه من حبّ رسولنا الحبيب، وكان يزور البقيع مقبرة المدينة، كلا -أستغفر الله- إنه ليس بمقبرة، بل هو نُزُل الصحابة الكرام انتظارًا للآخرة… وما أكثر الأمثلة عن وفاء إنسان الوفاء صلى الله عليه وسلّم…
لذلك نجد كل من يطرق هذا الموضوع، صديقًا كان أم عدوًّا، يقول: لم تأتِ ولن تأتيَ جماعة تتعلق بقائدها كما كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يأت ولن يأتي قائد يتعلّق بتابعيه كما كان محمد صلى الله عليه وسلم. أجل، وهل يستغرب أن يُصطفى الأصحاب لنبي مصطفى؟
نعم، إن الصحابة الكرام أناس أُسبِغ عليهم الإحسان واللطف بعد مرحلة معينة بما قدموا من عبادات وكفاح وعزمٍ وجهد، أما رسولنا مفخرة الإنسانية صلوات ربي وسلامه عليه فقد خطا أولى خطواته إلى الدنيا نبيًّا، فقد كانت حياته قبل البعثة حتى طفولته تعزز ما سيكون لاحقًا؛ من ذلك مثلًا أنه كان مثالَ العفة في العصر الجاهلي يوم أن لم تكن العفة والطهر والعفاف والأمانة شيئًا ذا بال؛ فإذا ما قيل “العفيف” في أي مجلس تبادر إلى الأذهان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنّه لم يدع أحدًا يلمزه في كرامته أو عفته قطّ، ولم يُتِح لأحدٍ الفرصة ليفعل ذلك، وكان يفيض حياءً من رأسه إلى أخمص قدميه، لقد رعى الأمانة حق الرعاية حتى إنه عُرِف في الجاهلية بلقب “الأمين”، لم يمر الكذب بسمائه قطّ… وما خدع أحدًا ألبتة.
وقد غدت صفاته تلك قواعد رسالته وأسسها، فهذه الرسالة ستُبنى على تلك الأسس، انظروا! لقد اتهمه مشركو مكة ببعض الصفات لإنكار رسالته السامية تلك، وقالوا عنه ما لا يُقال لمثله ولا يصدّقه أحد: شاعر وكاهن ومجنون، لكنهم لم يجرؤوا أن يتّهموه بالكذب أو الفُحش، وعجزوا أن يصِموه بخيانة الأمانة وخلف الوعد، وبدهيٌّ أنهم أنفسهم لم يصدقوا تلك الأكاذيب التي رموه بها. أجل، لقد جاء طاهرًا مطهَّرًا، وعاش كذلك، وتربّع في قلوبنا كذلك.
وكما أشرنا آنفا كان صلى الله عليه وسلم إنسانًا مصطفًى أدرَكْنَا وجودنا بوجوده، ومن اتبعه اصطفاهم الله له وجعلهم أمته وأنصاره وصحابته، وهذا يعني أنكم لو بحثتم عن أبي بكرٍ آخر من بعده فلن تعثروا عليه أبدًا، ولن تجدوا عمر عينَه، ولا عثمان نفسَه، ولا عليًّا ذاته رضي الله عنهم جميعًا؛ غير أنّ ثمة كثيرًا على قدمِ أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، سيأتون من بعدهم، ويستمرون إلى القيامة؛ ليحملوا المهمة التي حملوها نفسها.
وإليكم مثالًا صغيرًا فحسب: إنّ اسم خالد بن الوليد رضي الله عنه لم يُطرَح لقيادة الجيش في غزوة مؤتة؛ فما زال حديث العهد بالإسلام، أسلم قبل نحو شهرين، وقد أمَّر رسولنا صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة، فجعفر بن أبي طالب، فعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم أجمعين بهذا الترتيب، فاستُشهدوا واحدًا تلو آخر، فنعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتيه خبرهم فقال وعيناه تذرفان: “أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ، فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ ابْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، حَتَّى أَخَذَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ”[6].
وذكر المؤرخون أن جيش المسلمين نحو ثلاثة آلاف جندي، وجيش البيزنطيين نحو مائة ألف مقاتل، فكان على كلّ مجاهدٍ أن يقاتلَ ثلاثين ونيفًا من البيزنطيين، ودارت الحرب دون هوادة ستة أيام، وفي اليوم السادس جاء القدر باستشهاد القادة الثلاثة تباعًا، وفي حمأة المعركة التقطَ صحابي ضعيفٌ نحيلٌ اللواءَ، ونظر حوله فرأى خالدًا رضي الله عنه فقال له: “خذ اللواءَ يا أبا سليمان!”، فقال خالد: “لا آخذه، أنت أحقّ به”، فقال هو بدوره: “خذه أيّها الرجل! والله ما أخذتُه إلا لك!”[7]، فأخذه خالد فكانت تلك الليلةُ ليلةَ خالد.
لقد دوَّخَ العدو وشوّش ذهنه بإستراتيجيّات جديدة؛ فجعل الميسرة ميمنة والميمنةَ ميسرة والقلب مؤخِّرة، وطبّق إستراتيجيّات أخرى في مجال آخر؛ إذ أمر بقرع الطبول فظنّ العدوّ أن مددًا قدم من المدينة، فدبَّ الخوف والرهبة والهرج والمرج في قلوبهم. نعم، لقد فعل كل هذا ليوحي لهم الليل بأنّ مددًا قادمٌ من بعيد يثير الغبار والضوضاء والجلبة بمقدمه، ولما طلع الفجر فوجئَ العدوّ بجيشٍ كثير الرايات والألوية يطير صقوره هنا وهناك في حركة وانفعال.
وهكذا ذهبت بهم الظنون أن مددًا جاء من المدينة، ووقعوا في حَيْصَ بَيْصَ، وتحيّروا أيّما تحيّر لا سيما حينما ارتفعت الشمس، ورأوا أنهم أمام أناس غير أولئك الذين كانوا يحاربونهم منذ بضعة أيام، وشُنّت الهجمات تباعًا على قلب جيش العدو وكانت قواه المعنوية قد انهارت انهيارًا شديدًا، وتلك هي الأمارات الأولى لتحوّل الهزيمة إلى نصر.
ناشدتكم الله ! كيف بلغ خالد رضي الله عنه هذا المستوى في شهرين اثنين، وحقق كلّ هذه الأمور؟ وعاد خالد رضي الله عنه بالجيش إلى المدينة سليمًا، أما البيزنطيون فجبنوا عن أن يتعقّبوا المسلمين، وما تجرؤُوا على ذلك.
والآن أجيبوني: ألم يكن أصحاب النبي المصطفى مصطفينَ أيضًا؟ أجل، لقد عشقوا هذا الأمر بصدقٍ نابع من أعماقهم وأفئدتهم؛ ولذلك استحقوا شفاعته ومحبته صلى الله عليه وسلم، وسيقوم إن شاء الله جيلُنا الوارث للدعوة المحمدية، ليبذل الجهد المفروض من أجل حمل تلك الأمانة المقدسة ووضعها في مكانها اللائق دون أن يشعر بيأس أو قنوط أو سأم أو ملل أو ضعف ولو عرضت له ألوان من المعاناة والمشاق، فيستحقّ بذلك محبّة سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم كالصحابة الكرام تمامًا.
اللهم اهدنا للسير على هذا الطريق المبارك، ولا تحرمنا من الإخلاص فيه ولو لحظةً واحدة! اللهم آمين.
[1]موطأ الإمام مالك، 5/1323.
[2]صحيح مسلم، فضائل الصحابة، 36؛ سنن الترمذي، المناقب، 31. (واللفظ للترمذي).
[3] صحيح البخاري، فضائل الصحابة، 5؛ صحيح مسلم، فضائل الصحابة، 221-222.
[4]الطبراني: المعجم الكبير، 3/180.
[5]صحيح البخاري، أحاديث الأنبياء، 11؛ صحيح مسلم، الحج، 462.
[6]صحيح البخاري، المغازي، 45.
[7]الواقدي: المغازي، 2/763.