سؤال: يقول اللّه تعالى: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾ (سورة التَّوْبِةِ: 9/25)، فما الدروس المستفادة من هذه الآية؟
الجواب: بعد فتح مكة انضمَّت بعضُ القبائل التي تقوم بأعمال السلب والنهب إلى قبيلتي هوازن وثقيف اللتين أخذتا تعدان العدة للإغارة على المسلمين، فلما سمع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو رجل دولة من الطراز الأول وقائد عبقري لا مثيل له- باستعداداتهم تحرّك على الفور حتى يُفاجِئهم قبل أن يفاجئوه؛ فيكسر شوكتهم ويوهن عزيمتهم، ويُحكم قبضته عليهم قبل أن يتهيؤوا ويستجمعوا قواهم، وبذلك تنتهي الغزوة بأقلّ الخسائر، ولا تنكسر قلوبهم أكثر وأكثر.. فضلًا عن ذلك فقد دخلت أعدادٌ هائلةٌ من هذه القبائل في الإسلام.
والحقُّ أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بدأ هذه السياسة الإستراتيجية في صلح الحديبية الذي انتهى بفتح مكة؛ فرغم شروط الصلح المُجحفة بحقِّ المسلمين إلا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قبِلَها -وهو ذو العزة والكرامة الأعلى من السَّبْع الطباق- حتى يكسب قلوب هؤلاء الناس في جوٍّ من السِّلم والهدوء، ولكن بعد ذلك نقض القرشيون الصلح بأنفسهم، فجهَّز مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم جيشًا عرمرمًا، وزحف به إلى مشارف مكة، وكان يستطيع -إن أراد- أن يسحق أهل مكة بكل سهولة على اعتبار أن هذا هو منطق القوّة، غير أنه لم يفعل ولن يفعلَ صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه لو جعل سفك الدماء وإزهاق الأرواح سبيله في دخول مكة لسبَّبَ هذا جرحًا غائرًا في قلوب أهلها، ومن المحتمل أن يمثل هذا الأمر غصّة دائمةً في نفوسهم.
حُنين: الامتحان الصعب
ولنرجع إلى موضوعنا الأساس ونقول: تحرّك الرسول صلى الله عليه وسلم إلى حنين بجيشٍ قوامه اثنا عشر ألفًا، من بينهم ألفان معظمهم من الشباب حديثي العهد بالإسلام، فراودت هؤلاء الشباب فكرة: “لن نُغلَبَ اليوم من قلة، وكما فتحنا مكة أمس بإذن الله، فسنسحق أيضًا هوازن وثقيف”.
وفي هذا الصدد أنوّه على الفور بأنني أعيش دائمًا حالة روحية تُلْزِمُني تزكيةَ الصحابة الكرام رضوان الله عليهم والإعراضَ عن النيل منهم ومنعَ أيِّ شخص من فعل ذلك، ورؤيتَهم على أنهم من المصطفين الأخيار عند الله تعالى؛ لدرجة أنني أحذِّر من استخدام أيِّ قولٍ وإن كان بسيطًا يَشِي بالنيل منهم، ولكن ربما لم يستطع بعض الصحابة في هذه الواقعة أن يكون على المستوى الذي يتناسب مع منزلتهم ومكانتهم والذي ارتضاه الله تعالى لهم، فأراد الله تعالى أن يوجههم إلى ما تتطلبه منزلة المقربين، ولكن هذه مسألة بينهم وبين الله تعالى، لا نستطيع أن نتجاوز فيها، وإلا نكون قد تخطينا حدودَنا وأسأنا أدبَنا.
بعد أخذِ هذه الملاحظة بعين الاعتبار لنحاول أن نفهم عن قربٍ الحالةَ الروحية التي كان عليها سادتنا الصحابة رضوان الله عليهم عند توجّههم
إلى غزوة حنين.
بدايةً كان الجيش الإسلامي المتجه إلى حنين هو أكبر جيش يواجِه به المسلمون عدوّهم، فرغم أن الظروف لم تكن في صالحهم في حروب عديدة انعدم فيها توازن القوى إلا أنهم كانوا يتغلبون بفضل الله وعنايته على عدوّهم وينتقلون من نصرٍ إلى آخر، والآن ينطلقون وهم مفعمون بالأمل لكسرِ شوكة عدوهم، -أرواحنا فداء لهؤلاء الصحابة العظام! وندعو الله تبارك وتعالى أن نكون قائمين دائمين على طريقهم!- وفي قول الله تعالى “لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ” تذكير لهؤلاء الصحابة بأنهم كانوا مظهرًا لنصر الله تعالى في مواطن كثيرة مثل بدر وفتح مكة، وهنا ومن قبيل براعة الاستهلال نجد أن الحق سبحانه وتعالى يذكّرهم بظفرهم بالتوجه الإلهي إليهم أيضًا يوم حنين، وبالحالة الروحية التي كانت تقتضي توافقًا مع أفق المقربين، ولكن أنوه مرة أخرى إلى أنه يجب أن ننظر إلى أخطائهم تلك من قبيل: “حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ”، فإذا كان الإنسان يجازى على أعماله بعد أن يهمّ بها فهؤلاء الفضلاء قد يجازَون على أعمالهم بمجرد أن تَرِدَ على خاطرهم.
ثم يقول الحق تعالى: “وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ”، وقد استعمل القرآن الكريم المقولة نفسها في آية أخرى عند حديثه عن كعب بن مالك وصاحبَيه الذِين تخلّفوا عن غزوة تبوك، وهذه المقولة يستخدمها الإنسان عندما لا يجد في بلدةٍ ما لا يأمله ويرجوه، وهذا ما وقع بالفعل للصحابة الكرام رضوان الله عليهم في ذلك اليوم، فلقد تعرّضوا لهزّة مؤقّتة حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت.. وأخيرًا يشيرُ الحقُّ سبحانه وتعالى إلى النقطةِ التي آل إليها الأمرُ فيما بعدُ قائلًا: “ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ”.
ولكن رغم كل هذا أنزل اللهُ سكينته على رسوله وصحابته كما جاء في الآية التالية، وبناءً على ذلك شعروا بالندم في قلوبهم، فتهيؤوا واستجمعوا قواهم من جديد حتى كان النصر حليفهم بفضلٍ من الله وعنايته.
اختلال التوازن بسبب نشوة النصر
أما بالنسبة لما يُستفاد من هذه الحادثة التاريخية كما جاء بالسؤال فهو:كما أيَّد الله سبحانه وتعالى برعايته وعنايته الإلهية سادتَنا الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، ونَصرَهم على أعدائهم فقد يمنّ على مسلمي اليوم بمزايا وأفضال متنوّعة، المهم هو أن يحتفظ المسلمون بمستواهم حينذاك وأن ينسبوا كل ما يجري إليه سبحانه وتعالى، بل عليهم أمام كل نجاح تدخّلت فيه إرادتُهم أن يُمزقوا حجابَ الأسباب ويسحقوه بأرجلهم ويدركوا أن وراء هذه الأسباب مسبّبَ الأسبابِ سبحانه وتعالى، ويذعنوا قائلين: “كل شيء منه جل وعلا”.
قد تبدو النجاحات والانتصارات أمورًا جميلة يهلل لها أهل الدنيا وأهل الغفلة وأهل الضلالة وتحظى بكل تقدير وتبجيل من جانبهم، ولكن يجب على المؤمن ألا يسمح لهذه النجاحات أن تُطيِّر صوابه وتكدِّر بصره وتُنسيه عبوديّته لربه .
أجل، علينا مهما حقّقنا من نجاحات أن نرى أنفسنا عبيدًا لله يلفّ الطوقُ أعناقنا، فلو اعتبرنا أنفسنا عبيدًا له تخلّصنا من رقّ العبودية لغيره، فالخلاصُ من رِبْقة نظام الطبقات أو الطوائف الذي وضعه الآخرون وفقًا لأهوائهم يعني الخلاص في الوقت ذاته من أَسْرِ العبودية للعبد؛ لأن مَن يستنكف أن يصير عبدًا لله يصير عبدًا لأشياء أخرى؛ فمن الناس من تأسره الشهوة أو البهيمية أو المنفعة أو الشهرة أو القوة، ويلجؤون إلى كلِّ صنوف الظلم والطغيان اعتقادًا منهم بأن القوة قادرةٌ على حلّ كلِّ شيء، وهؤلاء جميعهم يمكن أن نعتبرهم أسرى، بل إنكم لو أقسمتم بالله بأن من يستنكف أن يكون عبدًا لله فهو أسير فلن تكونوا قد حنثتم في يمينكم؛ لأن أطواق الأسر تلفّ أعناق هؤلاء زيادةً ونقصًا.
أجل، إن الغافلين من الناس يعْزون كلَّ الجماليّات إلى الأفراد والهيئات ويرفعونهم إلى عنان السماء، وعلى ذلك قد يتدلَّل ضعافُ النفوس من حيث الشهرة والتصفيق، ويتجاوزون حدودَ الأدبِ واللياقة، وقد يتردّون إلى دركة أن يعتبروا ما ليس لهم حقٌّ فيه حقًّا مكتسَبًا لهم.. ومن التردي أيضًا أن ينسى الإنسان أن الفضائل التي حظي بها إنما هي من الله تعالى، ويدّعيها لنفسه.. فمثلًا قد يغترّ الإنسانُ بانفعال الناس بوعظه وحديثه، ويعزو ما هم فيه من انفعالٍ وما غرقوا فيه من بكاء إلى طلاوة حديثه، فيدنّس بذلك العمل الذي يقوم به، والحال أن القلوب بيد الرحمن سبحانه وتعالى، وفي الوقت ذاته فنعمةُ الفصاحة والبيان إلى جانب كونها لطفًا فهي ابتلاءٌ من الله تعالى، ولا تنسوا أن الشهرة ابتلاءٌ كذلك أيضًا، فكلَّما هلَّل الناسُ لصاحبها وعظّموه نسيَ قدرَ نفسِه، وادّعى لها ما لله ولنبيّه وقرآنه… اللهم احفظنا جميعًا من مثل هذا البلاء.
حاصل القول: إن كنتم تريدون إقامة صرح روحكم مرة أخرى فعليكم أن تعلموا أن هذا لا يتأتى بالإمكانيات الدنيوية ولا بالقوة والجبروت، فكما يقول الشاعر الإسلامي محمد عاكف:
يجب على الإنسان أن يعتمد على الله في كل آن
ويتمسك بالسعي في كل زمانٍ ومكان
ويخضع للحكمة دائمًا ما دامت الأكوان
وبناءً على هذه الفكرة إن اعتمدتم على منطقية كتاب ربكم، ولم تدخلوا في جدال مع غيركم، وحاولتم أن تتحدّثوا عن الحق والحقيقة وتبلغونهما للناس فسيرشدكم الله إلى طريق الصواب، ويُنطِق ألسنتكم بالحقّ، وفي النهاية ييسّر لكم كل مستحيلٍ وعسير، ويهوّن عليكم مصاعب الطريق.