سؤال: يسيطر على الفرد أحيانًا شعورٌ بالرتابة إزاء الأعمال التي يقوم بها، فبمَ تنصحوننا حتى نتخلّص من الآثار السلبية لمثل هذا الشعور؟
الجواب: يُقبل الإنسان بدايةً على عمله بشوق كبير وحماسة بالغة، غير أن ما يقوم به من أعمال وفعاليات إذا ما جرت على نمط واحد، ولم تصطبغ بألوانٍ ونقوشٍ وزخارف جديدة أو تكتسب أبعادًا وأعماقًا أخرى فلا مناص من أن يصبح الإنسان جثة هامدة بسبب هذا الجوِّ الخانق من الإلف والتعود.. من الممكن أن تكون الأعمال التي تضطلعون بها مهمّة وحياتية جدًّا، ولكنها ستبدو أمامكم كحادثةٍ من الحوادث المطّردة المألوفة، وتغدو رتيبةً في أعينكم، بل ربما تراودكم فكرة “لأقم بهذا العمل مباشرةً، وأتخلص منه على وجه السرعة”.. ومن ثمّ فلو كنا نشتغل بعملٍ جليل مثل الدعوة إلى الله ورسوله وتحبيبهما إلى القلوب؛ فعلينا أن نغيّر من منهجنا وننوّع في أسلوب عَرْضِنا على الدوام؛ حتى لا يتسلل الملل والضجر
إلى مخاطبينا، ولا نشعر بالرتابة إزاء الأعمال التي نقوم بها.
تنوع الأسلوب يولِّد نشوة أخرى
وإن شئتم فاربطوا هذه المسألة بفكرةِ تنوُّع الأسلوب التي انتهجها القرآن الكريم في التنزيل والتبليغ، فإننا إذا ما نظرنا إلى القرآن المعجز البيان بهذه النظرة فسنجد نفس المفهوم ونفس المضمون يتكرّران في مواضع أخرى ولكن بأسلوب مختلف ونمط آخر، فمثلًا تكرّرت قصة سيدنا موسى عليه السلام في كثيرٍ من المواضع في كتاب الله سبحانه وتعالى[1] حتى تُشكّل مثالًا لشتى المشاكل، وترشد إلى سبل الانسلاخ منها، وتؤكّد على عزمٍ وجهدٍ نبويٍّ إزاءها.. ورغم هذا فلم تتكرّر القصة بعينها ألبتة في جميع المواضع، بل إنها في كلّ مرة كانت تَرِدُ بأساليب مختلفة.. كما أن الله تعالى عندما يعبّر عن الحقيقة نفسها بأساليب شتى كان يضرب المثل تارةً بموسى عليه السلام، وتارةً بعيسى عليه السلام، وتارةً أخرى بمفخرة الإنسانية محمد صلوات ربي وسلامه عليه، وهذا ما يسمّى التنويع في الأسلوب.
والحقّ أن تنوُّع الأسلوب في عرض القضية في كل مرة تصحبه نشوة مختلفة تصيب الإنسان بانشراح مغاير.
أجل، إنكم إن نوّعتم في طريقة عرض المسألة التي تتحدثون عنها لتبلورت بكلّ أعماقها وأبعادها الذاتية، وللفتتُم الأنظار إلى هذه الحقائق، وهذا من شأنه أن يُحيي في القلوب احترامًا للمسائل التي تمثّلونها. نعم، إن القيمَ التي نتمثلها قيّمة وثمينة في حدّ ذاتها؛ ولذا علينا أن نعرض بضاعتنا في سوق الذهب والفضة والزبرجد لا في أسواق النحاسين، فكم من حقيقةٍ تفقد قدرَها وقيمتها في أفواه الذين لا يستطيعون تقديم المسائل كما ينبغي! وكم من حقائق باهتة لا روح فيها تقوى وتشتدّ وتسحر الآخرين على لسان مَن يحسنون صياغة المسائل والتعبير عنها! فأحيانًا ما يُروَّجُ الباطل بسبب اللباقة والمغالطة والديماغوجية والجدليّة، ويُحرَم الحقُّ والحقيقة من هذا الرواج نظرًا لأنهما لم يُطرحا على المخاطبين بأسلوبٍ لائقٍ جميل، ولذا فإن كان ما تمثّلونه وترعَونه وتحاولون تبليغه للآخرين هو عينُ الحقيقة -ولا ريب أنه كذلك- فعليكم أن تثيروا في الآخرين الشعور بالاحترام اللازم إزاء هذه الحقائق عن طريق التنوّع في أسلوب الخطاب.
الوعي الكامل بالوقت الذي نعيش فيه
وثمة وسيلةٌ أخرى للحفاظ على تجدّدنا، وهي أن يكون الإنسانُ على وعيٍ وشعورٍ بالزمان الذي يعيش فيه، وبما أننا “أبناء الوقت” فعلينا أن نتعرّف جيِّدًا على الوقت الذي نعيش فيه وأن نتّبع منهجًا يتوافق مع متطلبات هذا الوقت، فمثلًا ليس من الصواب أن أقوم الآن وأعظ الناس بنفس الأسلوب والمنهج اللذين كنت أتبعهما قبل 30-40 سنة في مدينة “إِزْمِيرْ” أو مدينة “أَدْرَمِيتْ”[2]؛ لأن الناس اليوم يختلفون عن الناس بالأمس، بل ربما معظمهم يعرف ويحفظُ ما يُلقَى إليه عن ظهر قلب.. أما ما يتوجّب علينا فعله الآن فهو أن نتناول الأمور التي نتحدث فيها بكل أبعادها المنطقية وأن نقف عند معقوليّتها.
فعلى سبيل المثال: إن كان للموضوع الذي نتناوله اليوم وجهةٌ فقهيّة فعليكم الرجوع فيه إلى المؤلّفات المتخصصة في هذا المجال؛ لا سيما ما قاله الشاطبي (ت: 1388م) أو ما تناوله التفتازاني (722هـ/1322م-792هـ/1390) في كتابه “التلويح على شرح حقائق التنقيح”، فإن فعلتم هذا شعر الناس بقدْرِ ما تُلقونه عليهم، وإلا تعاملوا باستغناءٍ مع هذا الأمر وإن كان عينَ الحقيقة.. وما دام المعلّم الأزلي والأبديّ سبحانه وتعالى قد استخدم منهج تنوّع الأسلوب في القرآن الكريم ففتح الباب لنا، وأرشدنا إلى الوظائف التي يجب أن نقوم بها فيجب علينا حينذاك أن نحسن استغلال هذا الأسلوب استغلالًا جيّدًا.
أشرنا فيما سبق إلى أهمية استيعاب فكرة أن نكون أبناءً للوقت واللحظة التي نعيشها، غير أنني أريد أن أتناول هذه النقطة بشيءٍ من الإيضاح كيلا تُفهَمَ على غيرِ وجهها الصحيح، فأقول: إن من الخطإ أن يغفل الإنسان عن ظروف الزمن الذي يعيش فيه، كما لا يصحّ أيضًا أن يقيد كلَّ شيء بالزمان وظروفه كالتاريخانيين.. وبنفسِ الوقت فإنني لا أقصد بـأيّ حالٍ من الأحوال أن نُغيِّرَ أو نُبدِّلَ المسلّمات والحقائق الدينية، معاذ الله؛ لأن الحقائق القرآنية أزليّة أبديّة لا تتبدل ولا تتغير.
غير أن هناك ساحات ومجالات لم يُصرَّح بها في كتاب الله تعالى ولا في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وتُركت لتفسير الزمن لأن الزمان أكبر مفسِّر للحوادث، وهي ساحات سيملؤها أبناءُ الزمن باستنباطاتهم واجتهاداتهم، وعلاوة على ذلك لا بد لنا أن نتعرف على الاستنباطات والاجتهادات التي تتوافق مع متطلبات العصر، لأن هذه ساحات يؤثِّر فيها الزمن فيُثريها، ويعبر فضيلة الأستاذ النورسي رحمه الله عن هذه الحقيقة بعبارة وجيزة فيقول: “الزمان مفسر عظيم، فإذا ما أظهر حُكمه فلا اعتراض عليه”[3].
محاسبة النفس والانبعاث من جديد
وثمة وسيلةٌ مهمّة أخرى لتجديد الذات، وهي أن تخضع الفعاليات والأعمال التي نمارسها للمحاسبة والتقييم.. فقد سمعتُ أن اليابانيّين يجتمعون شهرًا أو شهرين في منطقة منعزلة، يتشاورون فيها حول الأعمال التي أنجزوها وسينجزونها.. فمثل هذه الاجتماعات من شأنها أن تقدح زناد فكرهم حول ما قاموا به من أعمال في الماضي، فيعملون على إعادة صياغتها مجدّدًا، وتهيئتها للمستقبل مرة أخرى، وتحديد أهداف جديدة للحفاظ على مثل هذا الشدّ المعنوي.. فإن كانت المؤتمرات تُعقد من أجل الحياة الصناعية والتجارية فغنيٌّ عن البيان أننا في حاجة ماسة إلى تأهيلٍ مستمرّ من أجل مسألة خاصة بالحياة الأبدية مثل الإرشاد والتبليغ.
أجل، إن كان هذا الأمر ضروريًّا في الأمور الدنيوية والمادية فالأولى أن يكون ضرورة تتجاوز كل الضروريات في مسألةٍ مثل الإرشاد والتبليغ.
وانطلاقًا من هذا نقول: إن لم يحرص رجلُ الإرشاد على المشاركة في اجتماعٍ يُثري عدّته ومعلوماته، وإن لم ينقِّ ذهنه، ويُراجع ما ارتكبه من أخطاء في الماضي، ويأخذ كلَّ التدابير من أجل المستقبل فلا شكّ أنه سيكرّر الأخطاء التي وقع فيها ولن يُفلِح في الأعمال التي يقوم بها.
إننا في أمسّ الحاجة إلى مثل هذا التأهيل، لأن المسؤوليّة المنوطة بنا عظيمة وحسّاسة جدًّا؛ فعلينا أن نعمل على الوفاءِ بحقِّ الله تعالى وحقِّ رسولِه الأكرم صلى الله عليه وسلم؛ بمعنى أن نمثّل الأمانة التي استأمننا عليها سيدُنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولنضرب لذلك مثالًا فنقول: كان سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لا يُقدِم على رواية شيء ذكره سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ويغشاه القلقُ والاضطراب، يقوم ويقعد، ويحوقل، وترتعدُ فرائصه وتتصلّب عضلاته؛ خشية أن ينقل شيئًا مغايرًا للفكرة الأساسية للموضوع الذي ينقله[4]، وهذا يعني أنه كان على وعي بالمسؤولية الملقاة على عاتقه؛ فربّ كلمةٍ تهدم كلَّ شيء، وإنك لو نظرتَ لكلام العظماء السابقين لألفيتَ لكلامِهم حلاوةً وطلاوةً، ولكن سرعان ما ينقلب كل شيء رأسًا على عقب إن اختلط صوت العقعق بأنغام البلبل.
وإن من يحملون هذه المسؤولية على عاتقهم لا يتكلّمون جزافًا أو عشوائيًّا، فربما يسرد المريضُ بعضَ أفكاره حول مرضه، لكن الطبيب الملتزِم بقواعد الطبّ إن أوفى بيمينه الذي أخذه على نفسه وأدى أخلاق المهنة فلن يتحدّث أو لن يستطيع أن يتحدّث بمعلومات اعتباطيّة، وإلا ساق مريضه إلى مضاعفات خطيرة.. وبدهيّ أن المسألة إن كانت مسألةً دينيّةً تنظِّم حياة الإنسان الدنيوية، وترشده إلى سبل السعادة الأبدية في الحياة الأخروية، وتُكسِبه مفهومًا إلهيًّا ونبويًّا صحيحًا؛ فإنها تتطلّب قدرًا كبيرًا من الجدّية، فمثل هذه المسألة لا يتسنى للإنسان حلّها اعتمادًا على المعلومات القديمة دون أن يخضَع إلى إعادة تأهيلٍ مرة أو اثنتين في السنة.
أكثر الناس خطأً
قد يعمل البعضُ عشرين أو ثلاثين سنة في دائرةٍ يحاول من خلالها خدمة الإنسانية، ولكن إن لم تعمل آلية التغذية الروحية والمعنوية بشكلٍ صحيح فقد يسبقُ المتأخرون المتقدمين ويفضُلونهم في العلم والمعرفة.. والأدهى من ذلك ألا يعي المتقدمون في الخدمة هذا الأمر، وهذا يقتضي أن نُمزِّق الكفن مرة أخرى ونلبس ثوبًا جديدًا ونشرع في الأمر بـ”اسم الله” من جديد، ونعيدَ معالجته مجدَّدًا ونفهمه ونحلله من جديد، وإلا ارتكبنا أخطاء فادحة دون وعي منا.. فأكثرُ الناس خطأً هم الذين يعتمدون على أقدميّتهم وأسبقيّتهم، فأخطاءُ المبتدئين بالنسبة لهم بسيطة؛ لأن هؤلاء يدقّقون النظر تارةً في العمل الذي سيقومون به، وينظرون تارة أخرى إلى الرواد والمرشدين الذين سبقوهم.. ولكن متى ما راودت الإنسان فكرةُ “أنا أقوم بهذا العمل منذ سنين، وأعرف كثيرًا من الأمور” فليعلم أنه قد خرج من حيّز الدائرة التي كان بها، وأنه لم يعُدْ يدرك ما يحدث أو ما يجري.. وحتى لا نتردّى إلى مثل هذا الحال فعلى الجميع أن يجتمع مرة أو مرتين كلَّ سنة، يراجعون فيها مكتسباتهم والمحطات التي توقّفوا عندها ونوعية الأخطاء التي ارتكبوها، ويأخذون التدابير اللازمة حتى يتلاشوا الوقوع في الأخطاء عينها في المستقبل، وأن يضعوا على طاولة التشاورِ الخططَ والمشاريع التي ينوُون القيام بها في المستقبل.
[1] ورد الحديث عن قصة موسى عليه السلام في أكثر من عشرين سورة، تارة بصورة مفصلة: كما هو في سور “البقرة”، و”الأعراف”، و”طه”، و”الشعراء”، و”القصص”، وتارة أخرى بصورة مختصرة: في سور “الروم”، و”الدخان”، و”النازعات” وغيرها، وتكرر ذكر موسى عليه السلام في القرآن الكريم أكثر من مائة مرة. (الناشر)
[2] عمل الأستاذ محمد فتح الله كولن واعظًا في هذه المدن في الستينات والسبعينات. (الناشر)
[3] بديع الزمان سعيد النورسي: صيقل الإسلام، المناظرات، ص 370.
[4] عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، قَالَ: “مَا أَخْطَأَنِي ابْنُ مَسْعُودٍ عَشِيَّةَ خَمِيسٍ إِلَّا أَتَيْتُهُ فِيهِ، قَالَ: فَمَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ لِشَيْءٍ قَطُّ “قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم”، فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ عَشِيَّةٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَنَكَسَ قَالَ: “فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ، فَهُوَ قَائِمٌ مُحَلَّلَةً أَزْرَارُ قَمِيصِهِ، قَدْ اغْرَوْرَقَتْ عَيْنَاهُ، وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ قَالَ: أَوْ دُونَ ذَلِكَ، أَوْ فَوْقَ ذَلِكَ،
أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، أَوْ شَبِيهًا بِذَلِكَ. (سنن ابن ماجه، النسة، 3)