سؤال: ما الضوابط الأساسية التي يجب مراعاتها للحفاظ الدائم على حيوية روح التفاني في القلوب؟
الجواب: بداية لا بدّ للقلوب التي نذرت نفسها لخدمة الحق أن تتجنّب شتّى الأفعال والتصرّفات التي من شأنها الإضرار بمعايير الثقة، وأنا لا أظن أو أتوقّع من هؤلاء الأشخاص -الذين جاشت قلوبهم بالمشاعر الصادقة فوقفوا أنفسهم على دعوةٍ ساميةٍ وغايةٍ نبيلة دون التشوّف لأجرٍ دنيوي- أن يتعمدوا القيام بتصرّفات تؤدي إلى تشويه صورة خلطائهم أو الإضرار بدائرتهم، لكن قد يخطو البعض خطواتٍ غير محسوبة ويشرعون في أعمالٍ دون حسابٍ أو تخطيط، فيؤدّي ذلك إلى وقوع بعض الأخطاء التي تتسبّب في تشويه صورتهم، ومثل هذا الحال يقتضي أن يبذُلَ هؤلاء الأشخاص الذين اجتمعوا حول فكرةٍ وشعورٍ واحدٍ كلَّ وسعهم لتلافي هذه الأخطاء على الفور مستعينين في ذلك بالمشورة والحركة الجماعية، فإن قاموا بهذا؛ تخلّص المخطئ من الخجل، وما أفسح المجال لوجود بعض الأفكار السلبية حول الدائرة التي ينتمون إليها.
اللهم لا تُخزِ أصدقائي بسببي
كان مولانا “خالد البغدادي” يتحرّى الدقة البالغة في مسألة الاستغناء عن الخلق، وهو أمرٌ يشكّل نموذجًا جيّدًا لنا في هذا الصدد، فنراه مثلًا ينبّه طلّابه ومريديه منذ البداية إلى بعض الأمور السلبية التي انتشرت في عهده ويُحذّرهم منها حتى لا تتغلّب عليهم أو تتسلّل إليهم، وكان يقول لهم: “احذروا من مخالطة الأثرياء والحكّام ورجال الدولة؛ لأن هؤلاء يجعلون من عطاياهم لكم وتوجّههم إليكم بل وابتساماتهم في وجوهكم وسيلةً لرشوتكم، فإن خضعتم لهؤلاء اضطررتم طوال عمركم إلى التكفير عمّا جَنَتْه أيديكم، ولذا عليكم أن تقنعوا بما في أيديكم ولا تستجدوا شيئًا من أحدٍ، فإن كنتم متزوّجين من واحدةٍ فلا تتطلّعوا إلى الثانية، ولا تنسوا أن هؤلاء الحكام وأرباب الدولة يودّون أن يسيطروا عليكم بما سيضربونه من أغلال على أيديكم”، ومن ثم فإنني أرى أنه ينبغي لمن جعل الأولويّة في حياته للخدمة أن ينأى بنفسه عن أيّ عملٍ قد يؤدّي إلى سوء الظنّ فيه، وألّا يحوم ألبتّة حول مواضع التهم والشبهات، فمثلًا عليه أن يأخذ حِذره ولا يمر من أمام الماخورة حتى لا يجعل أحدًا يقول عنه: ماذا كان يفعل هؤلاء هنالك؟ ولذا لا بدّ من توخّي الدقة والحذر حتى لا يُنسب العيب الذي يقوم به الفرد إلى الجماعة.
لكن علينا ألا ننسى أبدًا أننا مهما راعينا الدقة؛ فلا بدّ من التعرّض لسهام النقد والاتّهام، فهناك بعضُ الناس رغمَ أنكم تبعثون روح الوحدة والتضامن فيمن حولكم وتترنّمون بالحب دائمًا ولا تقفون موقف العداء من أيّ واحدٍ ؛ فإنهم يحملون لكم كلّ حقدٍ وغلٍّ، فلا يصافحونكم ولا يحتضنونكم بل ويردّون باشمئزازٍ على تبسماتكم، وعند ذلك لا يكون أمامكم إلا أن تعرضوا حالكم على ربّكم وتتوسّلوا مبتهلين ومتضرعين إليه، ولا تنسوا أن هذه الأمور كانت موجودةً منذ آدم عليه السلام وستظلّ إلى أن يرثَ الله الأرض ومن عليها.
المهم هنا هو أن يتجنب أرباب الحق في حياتهم على المستوى الفردي والأسري والاجتماعيّ كلَّ فعل أو تصرّفٍ قد يجلب العار والخزي للحركة التي ينتسبون إليها، علينا بعد استنفاد أسباب الإرادة التي منحها الله لنا أن نلجأ إليه سبحانه مستعينين بحفظه وعنايته قائلين: “اللهمّ لا تُخْزِ أصدقاءنا بنا ولا تخزنا بأصدقائنا”، فالإنسان مؤهّلٌ دائمًا للوقوع تحت أسارة نفسه؛ لأن العديد من الذنوب ونقاط الضعف تنتج عن الأهواء والرغبات التي قد تسوق الإنسان إلى الوقوع في المهلكات، فضلًا عن ذلك فإن الشيطان يُزيّن للإنسان دائمًا هذه المهلِكات ويُزخرِف له الذنوب والآثام، فمن لم يحذر ويتنبه لكلٍّ من هذه المهلِكات انساقَ وراءها دون وعي، وصار وصمة عار -والعياذ بالله- لمن حوله.
من أجل ذلك على الإنسان -الذي ينتسب إلى حركةٍ تتعلق بها الآمال- أن يتجنّب كلّ ما يمسّ شرفه وكرامته، وأن يحرص على الصمود ضدّ غوايات النفس والشيطان، وألا يتنازل عن صدقه وأمانته أبدًا، وأن يتحرّز من الاعتداء على حقوق الآخرين الذين يشاركونه الدرب نفسه؛ فإذا ما رفع يديه إلى السماء دعا الله في طمأنينةٍ وسكونٍ قائلًا: “اللهم اخسف بي الأرض ولو كانت لي ألف روح ولا تجعلني سببًا في جلب العار والخزي إلى أصدقائي”، وهذا تعبير عن مدى الصدق والوفاء للدعوة، فيجبُ على كلّ روح أوقفت نفسَها للخِدمة أن تبذلَ قصارى جهدِها -وكأنها ممثل للأمن والصدق والعصمة- لعدمِ تشويه صورة أصدقائها وعدمِ إفساح المجال للوقوع في أيّ خطإٍ مهما كان صغيرًا؛ أجل، عليهم التحلّي بروح الاستغناء على الدوام وعدم الاستجداء من أحد، والقناعة بما وهب الله، والابتعاد عن أيّ عملٍ يمسّ الشرف والكرامة.
وعلينا ألا ننسى أن الإنسان الذي يسعى إلى أن يكون صوتَ الحق والحقيقة قد يكون بتصرّفاته وأفعاله الصادقة أكثر إقناعًا من كلامه؛ لأن المغالاة التي لا تعبّر عن الحقيقة أو تتجاوز المقصد قد تستهوي المخاطبَ لبعض الوقت، ولكنْ فضلًا عن أنها تترك أثرًا إيجابيًّا في النفوس فهي عقبات تحول دون عملية الإقناع، فالتصرفات التي تأخذ صفة الاستمراريّة لا يتسرّب إليها الكذب، لأنها تجري دائمًا في مجراها الصحيح، والإنسان الذي يملك الإقناع هو ذلك الإنسان الذي يوحي بالصدق والوفاء دائمًا، ولا يتخلّى عن عفّته وشرفه مطلقًا، ويبعث الأمان والثقة فيمن حوله، ولذا يمكننا أن نقول باطمئنانٍ إن التمثيل مُقدّمٌ على التبليغ.
لا بدّ أن يسبقَ الحالُ القالَ
فمن صفات النبوّة التي كان يتحلّى بها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: التبليغ؛ بمعنى تبليغ أمته الرسالة التي تلقّاها عن ربه عز وجل، لكن إن لم يمثّل ويُطبّق هذا القرآنَ المعجز البيان الذي أنزله الله تعالى شخصٌ مثل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان هناك بيانٌ يعلن عن نفسه بما يُحدثه من دويٍّ في آذاننا حتى عصرنا الحاضر، وما وجد له صدًى في النفوس بهذا المستوى، فالقرآن الكريم الذي نُعلّقه في بيوتنا وغُرَفِ نومِنا ونحفظُه في محافظَ حريريّة لم ولن يتّضح تأثيرُه إلا على أيدي الذين يمثّلونه حقّ التمثيل، ومن ثم فإن عمق التمثيل بالحال لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتقدّم على عمق التبليغ بالقال، ولقد دُعي صلى الله عليه وسلم للعروج إلى السموات العلى ليس لأنه بلغ القرآن فقط بل لأنه مثّله في الوقت نفسه حقّ التمثيل.
التواضع وعدم إثارة عرق الغبطة
يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثٍ له:
“سيد القوم خادمهم”[1].
وكان من أعظم ممثّلي هذه الروح بطلُ الإسلام صلاح الدين الأيوبي، كان أولَ حاكم يستخدم لقب “خادم الحرمين”، ولما سمع السلطان “ياووز سليم” -أسكنه الله فسيح جناته- الذي كان يمثل الروح نفسها الإمامَ يقول في خطبته “حاكم الحرمين”، انزعج كثيرًا، واستوى قائمًا على ركبتيه من فورِه قائلًا: كلّا، بل خادم الحرمين، ثم أخذ الذين جاؤوا من بعده يلقّبون أنفسَهم بهذا اللقب، من أجل ذلك يجب على الأرواح التي نذرت نفسها للخدمة أيًّا كان موقعها في الحياة الاجتماعيّة أن تعتبر خدمة الآخرين هي أعلى منزلةٍ لها، وأن يقولوا في أنفسِهم إذا اقتضت الحاجة: “ينبغي للإنسان أن يعتبر نفسه خادمًا وساقيًا بين هؤلاء الذين يعشقون الخدمة ويلتفّون حول منطِقٍ وفكرةٍ وغايةٍ واحدة”، وأن يهرعوا لخدمة الآخرين.
من جانبٍ آخر قد تُثيرُ نجاحات البعض في مجالاتٍ معيّنةٍ غبطةَ الآخرين، بل قد يتحوّل هذا الشعور بالغبطة إلى حسدٍ وغيرةٍ لدى ذوي النفوس الضعيفة، وهنا يجب مراعاة المبادئ الإلهية التي وضعها الإسلام لتربية النفوس، ولقد وضع بديع الزمان سعيد النورسي -رحمه الله رحمة واسعةً- في ضوء هذه المبادئ دستورًا ذكر فيه ضرورة عدم إثارة طلاب القرآن الحقيقيين لمشاعر الغبطة لدى إخوانهم[2]، مع أن الغبطة شعور لا حرج فيه في الإسلام، ولكن إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الغبطة تقع على حدٍّ متاخمٍ للحسد فسيتبيّن لنا أن الإنسان الذي ينتابه الشعور بالغِبطة قد يعبر إلى الطرف المقابل -أي الحسد- دون وعيٍ منه، ولذا جعل بديع الزمان عدم إثارة عرق الغبطة من مسؤوليات طلبة القرآن، أما السبيل للخروج من هذا المأزق فهو تقدير كلّ من يسعى للخدمة وإيثار الآخرين على نفسه في حينه، فهناك البعض من الناس قد تتغلّب عليهم بعض نقاط ضعفهم مثل حبّ الاستحسان لما يفعلون، والتهليل لهم، والإعجاب بهم، وحبّ المنصب والمقام، وعلى ذلك لا بدّ أن يُخصّص لكلّ إنسانٍ المجال الذي يناسبه، وتُوسّع الدائرة التي سيتحرّك فيها، وبتنوّع المجالات يمكن للأفراد القيام بخدمات أوسع وأرحب، وبذلك يقنعون بالعمل الذي يقومون به، وبجانب هذا لا بدّ من العمل على تزويد هولاء بالإيمان والأخلاق الحسنة، وتقوية علاقتهم بربّهم، ومعرفة أن كل ما بحوزتهم إنما هو من الله وحده.
خطر الثبات على القمة
ومن الأمور التي لا بدّ من مراعاتها أيضًا الثبات على الاستقامة، فقد يوجّهنا الحق سبحانه وتعالى إلى طريق مستقيم، ولكن لا يكفي سلوك الطريق المستقيم فحسب، بل لا بدّ من مواصلة السير في هذا الطريق حتى النهاية في حيطةٍ وحذر، هناك قول جميل يرويه بعضهم على أنه حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “النَّاسُ كُلُّهُمْ مَوْتَى إِلَّا الْعَالِمُونَ، وَالْعَالِمُونَ كُلُّهُمْ هَلْكَى إِلَّا العَامِلُونَ، وَالعَامِلُونَ كُلُّهُمْ غَرْقَى إِلَّا المُخْلِصُونَ، والمُخْلِصُونَ عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ”[3].
وإذا كان لنا أن نطلق اسمًا على هذا الخطر العظيم نقول: خطر الثبات على القمة، من أجل ذلك يجب أن ترتعد فرائصنا أيًّا كانت القمّة التي بلّغنا الله إيّاها خوفًا من أن ننقلب رأسًا على عقِب، لقد هدى الله تعالى أتباع الديانات السماوية السابقة إلى الطريق المستقيم، ولكن وقعت بعض الانحرافات في خطّ الدائرة وتعذّر تلافيها لأن هؤلاء لم يراعوا المبادئ الواضحة في مركز الدائرة، فوُصم بعضُهم بالضالين، وحُكم على الآخرين بأنهم من المغضوب عليهم، ومن ثَمَّ: فإذا كان من الصعب سلوك الطريق المستقيم؛ فالأصعب من ذلك هو مواصلة السير في هذا الطريق.
أجل، من الصعب الوصول إلى القمة لكن الأصعب هو المحافظة على التواجد فيها، وفي هذا السياق يشير الأستاذ النورسي رحمه الله رحمة واسعة إلى “أنّ مَن يهوي من برج الإخلاص ربما يتردّى في وادٍ سحيق إذ لا موضع في المنتصف”[4].
الاستخدام حسب القابليات
ثمّةَ أمرٌ مهمّ لا بدّ من أن تلتفت إليه الأرواح المتفانية حتى يمكنها أن تقدّم خدماتها على مستوى أرحب وأوسع ألا وهو تدبّر الأشياء والأحداث وتجنّب محاربة الفطرة، لقد خلق الحق سبحانه وتعالى الناسَ بطبائع مختلفة ووهبهم أيضًا قابليّات ومهارات متباينة، وربما لا يترك البعض تأثيرًا مباشرًا فيمن حولهم لأنّ علاقتهم ضعيفةً في الحياة الاجتماعية، فمثلًا هناك أناس يمكنهم أن يعبّروا بأقلامهم عن الحقّ والحقيقة ويؤثّرون في العديد من الناس ويثيرون شعور الانبعاث في القلوب بكتاباتهم، ولكن إن عُرِضَ عليهم التحدّث في مكانٍ ما قد يخسرون كل المكانة التي حظوا بها بكتاباتهم في أول محاضرة لهم؛ لأن الله تعالى لم يمنحهم مهارة التحدّث بقدر ما منحهم مهارة الكتابة، ولكن هؤلاء أنفسهم يحالفهم الكثير من النجاح والتوفيق عندما يشرحون القيم التي يؤمنون بها من خلال كتبهم ومقالاتهم وما شابه ذلك، من أجل ذلك يجب على الإداريّين والمسؤولين أن يكونوا على وعيٍ تامٍّ بهذه المسألة ويكلّفوا الناس بالعمل الذي يتناسب مع قدراتهم وأهليّاتهم.
ولا يعزب عن علمكم أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أرسل سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى اليمن للإرشاد والتبليغ نزولًا على رغبته، ومرّ على ذلك -كما روى أبو موسى الأشعري- يومان وثلاثة وأسبوعان وثلاثة وما من رائحٍ أو غادٍ، في الواقع لم يكن سيدنا خالد رضي الله عنه بالشخص الذي لا يستطيع الخطابة، ولكن الحقّ تبارك وتعالى جعله مرجوحًا في عالم الإرشاد، راجحًا في عالم القيادة؛ بمعنى أن الله تعالى جعله مفضَّلا في جانب آخر، فلو أن خالدًا رضي الله عنه كان خطيبًا مفوّها على مستوى بعض الصحابة الذين قلّ أن نجد لهم مثيلًا في التاريخ فمن كان إذًا سيدكّ أركان بيزنطة، ويدمّر الساسانيين، ومن ثم رجع سيدنا خالد رضي الله عنه من اليمن إلى المدينة، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن بدلًا منه سيدنا عليًّا كرم الله وجهه، ذلكم الصحابي الجليل الذي أثار الانفعالَ في الأرواح بكلامه، وأوصل صوته إلى ما وراء العصور، ووهبه الله ميّزةً وخصوصيّةً معيّنةً فكان خطيبًا وواعظًا وناصحًا، وما أن وصل رضي الله عنه إلى اليمن واستقر به أيامًا قليلةً حتى توافد الناس على الدخول في الإسلام؛ لأن هذا الجبل الأشمّ كان يعلم متى وأين وماذا؟ يجب أن يتحدث حتى يستطيع النفاذ إلى القلوب.
وهكذا فإن الوظيفة الملقاة على عاتق الإداريّين هي التعرّف على مختلف قابليات من حولهم كلٌّ على حِدة، واستغلال كلّ في مكانه الصحيح حتى يمكن الاستفادة منهم بشكلٍ مثمِرٍ، فكما أن تكليفَ النملة بما يحمله الفيل يسحقها ويقهرُها فكذلك إذا كلفنا الفيل بما تحمله النملة -وهو الذي يقدر على خلع غابةٍ والذهاب بها- نكون قد قلّلنا من قدر الفيل وأضعنا كرامته.
ومع أن مراعاة ماهية طبائع الأشخاص وقابلياتهم يُعدّ أمرًا مهمًّا عند توزيع الأعمال؛ إلّا أنّه لا بدّ ألا يغيب عن أذهاننا أن التأثير الحقيقي إنما هو من الله سبحانه وتعالى، فمثلًا لقد تعرّفتُ على أناس لا يملكون مهارة الحديث ويتعسّرون في تكوين ثلاث جُمَلٍ متتابِعةٍ للتعبير عن مقاصدهم ومع ذلك تراهم إذا تحدثوا تبدتْ مشاعر اللين والرقة لدى المخاطبين، وليس بوسعنا أن نُرجِع هذا التأثير إلى هيئة هذا المتحدث أو إلى شمائله أو قدراته أو سعة فكره، أو مهارته في الحديث، يعني أن القلوب بيد الرحمن سبحانه وتعالى، وهو الذي يهدي من يشاء إلى الصراط المستقيم، ومن ثمّ ينبغي لأرباب القلوب ألا يستخفّوا بأي عملٍ يقومون به في سبيل الله، وعليهم القيام بالمسؤوليات التي تُناط بهم من خلال استغلال كلّ الوسائل التي من شأنها النفاذ إلى القلوب مثل دعوة الآخرين على الشاي، واستضافتهم لتناول الطعام، وزيارتهم أحيانًا…
التوازن بين الواقع والمثالية لدى القلوب المتفانية
من جانب آخر لا بدّ من عدم الخلط بين الواقع والمثاليات؛ أجل، لا بدّ من إعلاء الهمم، والسعي وراء الأهداف السامية، كما يجب على السائرين في سبيل الغاية السامية أن ينشدوا غايات مثلى حتى يمكنهم تغيير وجه العالم في لحظةٍ واحدة؛ لأنه إن كانت الهممُ عاليةً والإمكانيات قاصرةً عن إنجاز هذه الأعمال جبَرَ اللهُ تعالى هذا القصور بفضله وبسبب النوايا الطيبة، وجازى الشخصَ بما يتناسب مع الهدف الذي كان ينسجه في خياله؛ بمعنى أن الإنسان ينال ثواب نواياه الجميلة التي لم تتحقّق.
على الإنسان أن ينشد المعالي، وأن يوسّع من دائرة غاياته العليا، ولكن مع كل هذا ينبغي مراعاة عناصر الزمان والمكان والإمكان والإنسان لتحقيق ما يصبو إليه من أفكار، لا بدّ من مراعاة الظروف القائمة ومدى إمكانية تحقق الأفكار الجميلة من عدمها حتى لا تتعرض أعماله للخطإ والخسارة.
أحيانًا يسلك البعض طريقًا لتغيير لون العالم ويعيش نوعًا من الأوطوبيا كـ”المدينة الفاضلة” للفارابي و”مدينة الشمس” لكامبانيلا، ويتخيل في هذا العالم المتخيّل أن الناس إذا ما تقابلوا مع بعضهم تعانقوا، وإذا ما ذهبت الأسود والذئاب إلى الأغنام طلبوا السماح منها، كما أن السوق أصبح يزدان بالروعة والبهاء لدرجة أن الناس الذين يتسوقون فيه غدوا كالملائكة، فالجميع في هذا العالم لا يحيد ولا يزيغ عن الاستقامة قدر أنملة، حتى إن الأطفال قد صاروا كالملائكة عندما وصلوا إلى مرتبة النضج أو البلوغ وناهزوا خمسة عشر عامًا، دون حاجة إلى تربية أو تعليم.
أجل، من الممكن التفكير في كلّ هذا وتصوّره، ولكن تحقيق هذا أمرٌ مختلفٌ تمامًا. إنكم مضطرّون هنا إلى مراعاة طبيعة الإنسان وعلاقات الناس ببعضهم، فما صادفنا حياة بهذا المستوى حتى في محيط الأنبياء، ولم تكن الأسواق على هذه الدرجة من الاستقامة، ولم تتأسّس مثل هذه الأخوة بين الذئاب والشياه، ولم تُعرِض الأسود عن أكل اللحوم وتتّجه إلى أكل العشب أبدًا.
وفي رأيي أن الواقع ما دام يشير إلى هذا فلا بدّ أن نضع في اعتبارنا مسألة تحقُّق المثاليّات التي نطمح في الوصول إليها فإن كنا ننتظر ممّن يعملون معنا أن يغيّروا وجه العالم وأن يقوموا بخدمات تضفي وجهًا جديدًا عليه فلا مفرّ من أننا سنُمنى بخيبة الأمل وستتحطم أماني الآخرين الذين علّقوا آمالهم علينا، وذلك لأننا بنينا الأحكام على الخيال وتعلّقنا بأمورٍ يصعُب تحقيقُها، ولذا لا بدّ من مراعاة قابلية كلّ فرد على حِدَةٍ حتى لا ننتهي إلى مثل هذه العاقبة، ونقسّم الأعمال تبعًا لذلك، ونأخذ في الحسبان عناصر الزمان والمكان والإمكان والإنسان عندما نودّ تحقيق ما نريد من أفكار جميلة.
[1] البيهقي: شعب الإيمان، 10/582؛ الديلمي: مسند الفردوس، 2/324.
[2] بديع الزمان سعيد النورسي: اللمعات، اللمعة الحادية والعشرون، دستوركم الثاني، ص 221.
[3] العجلوني: كشف الخفاء، 2/312.
[4] بديع الزمان سعيد النورسي: اللمعات، اللمعة الحادية والعشرون، دستوركم الرابع، ص 224.