عندما يصارع الضوءُ الظلامَ يصل إلى عمقه الحقيقي… والجمال يظهر بشكل أفضل عندما يحيط به القبح… كما يظهر تفوق الأخيار عندما يكونون بين أشرار، على الأقل بالنسبة لبعضهم. وعندما يكون المجتمع في حاجة للأمن والطمأنينة يدرك بشكل أفضل حاجته الماسة إلى هذا الأمن ولأجله يموت و يحيا. ولا يعرف طعم الراحة إلا من ذاق مشقة التعب والإرهاق، كما لا يعرف قيمة الجنة إلا من ذاق أهوال المرور على الصراط. أحلك وقت للظلام هو في الوقت نفسه بشائر أنوار الفجر. والليل يحمل جنين نور النهار، ويحمل برد الشتاء وثلجه جنين الربيع. وعندما تنتهي الأسباب ولا يعود لها أي تاثير تتوجه القلوب إلى صاحب القدرة اللانهائية. وحسب قاعدة “المشقة تجلب التيسير” فإن المشقات تفتح أبواب اليسر على الدوام.
وفي هذه الأيام التي نتقلب فيها في دائرة مفرغة من الصعاب والفوضى وعدم وضوح الرؤية نعرف مدى أهمية الطمأنينة والراحة، ونعرف قدر النور بعمق أكثر، ونرى بشكل أوضح وأعمق جمال الإيمان وجمال العبودية لله، ونشعر في وجداننا بالثقة والاطمئنان الحقيقي الذي ينبع من الإيمان. نحس بشوق أكبر نحو الخير وبازدراء أكثر نحو الشر. ولكي نتطهر أكثر نستحم في شلالات هذه الأيام المضيئة، ونحنّ إلى شهر رمضان، ونشتاق إليه مرة أخرى.
من يدري كم مرة رأينا وعشنا شهر رمضان، ولكننا في هذه الأيام التي أحاطت سلبيات مختلفة بالأمة، بدأنا نعيش أيام غربة ولوعة وقسوة تكاد تقصم ظهر إرادتنا وعزمنا. ومن كثرة ما تعرضنا للهجوم وللإهانة وللظلم في غمار هذا الجو القاسي الذي تحولنا فيه إلى غرباء في أوطاننا، أصبحنا نتوقع في كل يوم اعتداءً جديدا، وبدأنا وكأننا تعودنا على أن نكون مظلومين. وقد يعود هذا إلى الانسياق العبودي لدينا. هنا نفتح صدورنا لربنا وندعوه بإخلاص وبحرقة متضرعين إليه: “يا ربنا!.. يا مسبب الأسباب!.. بعد تجهم الأعداء وتجاهل الأصدقاء مع ضعفنا وعجزنا فقد انتهت ونفدت الأسباب… لقد أحاطت بنا الحيرة ونحن نسلك الطريق إليك مثلما حدث لسائر السائرين في هذا الطريق… لا تدعنا وحدنا، ولا تجعلنا من منكودي الحظ من المتعثرين والوحيدين في الطريق يا رب!” نقول هذا ونتأوه. وبقدر الآلام التي نتعرض لها، ونتجرع غصصها، ندق باب رحمته بيد العجز والحاجة… ندق بابه فقط لا باب غيره، وننتظر منه توجهه والتفاته إلينا، لأننا نوحده ونثق به ونتوكل عليه. ولا أذكر أننا توجهنا في شهر رمضان آخر، وعشنا بمثل هذا العمق الذي أحسسناه في قلوبنا، وقد لا نعيش مثله أبدا.
أجل!.. كم من مرة أدركنا هذا الشهر المبارك، وكم من مرة تعرضنا إلى نسائمه المحملة بالكرم واللطف، وكم من مرة حاولنا كأمة أن نقيّم هذا الشهر المبارك بأيامه المجيدة ونستفيد منها كما يجب. نتذكر تلك الأيام التي انتشرت فيها الحرب والضرب، وغطى الضباب والدخان على كل شيء( ) ونتذكر أيام شهر رمضان الحزينة التي كانت تبرق وتلتمع مرة وتنطفئ أخرى مثل صواريخ الاحتفالات… في تلك الأيام الحزينة من شهر رمضان التي كان الفقر المادي والمعنوي فيها متداخلا بعضه في بعض ومتراكما، ربطنا عزمنا بآمالنا مترنمين ببيت الشعر الآتي:
عندما يتجلى الحق يكون كل شيء سهلا ميسورا،
يخلق أسبابه في لحظة ويهبه إحسانا منه وفضلا…
كنا في ترقب أيجابي ننتظر انفراج بـاب غير اعتيـادي بين الإفطار والسحور… كان شهر رمضان آنذاك شـهرا فعالا وحيويا… ولكن يتيما في الوقت نفسه.
شـهور رمضان تلك كانت من جانب متشابهة مع شـهور رمضان الأخرى وغير متشـابهة كذلك. كانت فيها فصـول من خيبة الأمـل والتوجس… طلعت علينا تلك الشهور وأشرقت… ثم غابت وغربت بعد أن أهدت لنا -مثل نجوم السحر- أغنية وداع حزينة.
لا شـك أن كل شهر من شهور رمضان رفرف بطعمه الخاص فوق رؤوسنا بصوت رقيق كرفرفة أجنحة الملائكة، وأهدى لنـا نورا من أنواره التي قد نستطيع حدسها أو لا نستطيع، ثم ودعنا ورحل. والقلوب اليقظة التي تستطيع سماع هذا الصوت في أعماق وجدانها تكون كمن تهرع على الدوام نحو ساعة حظها وسرورها، وكأنها تتوجه نحو شـهر رمضان الذي يحمل معه بشرى الولادة الأبدية وتنصت إليه.
أحياناً يكون الإنسان -حسب تلك الأحوال- مرتبطا بالمعاني التي تلهمها تلك الأيام وتلك الليالي، فيحس بهدوء وراحة وكأنه يعيش حياة متناغمة وموزونة وكأنه قد انفصل من جو هذا العالم المملوء فسادا وتلوثا. هذا الفساد الذي يبعث القيء في النفوس. كأنه يمشي بكل فرح نحو أفق مشرق مملوء بالأمل، لا يرى من حوله سوى لوحات الجمال والفرح، ويرى الحياة التي يعيشها مملوءة بالنظام. كأنه طير سابح في الفضاء بكل هدوء وراحة لا يعكر صفوه أحد. وأحياناً يعيش انهزاما داخليا وكأنه في نهاية خريف الأمل والبهجة، قد تصدعت إرادته، وانكسرت عزيمته وضاق أفق أمله، وبهت روحه، وبدأ بالتفكك والانحلال داخليا، وبينما كان بروحه ومعنوياته طيرا سابحا في الأعالي إذا به يخلد إلى الأرض.
والآن هناك الكثير من الضغوط وأنواع من الإكراه والظلم والتحكم والاستبداد، مما يسَّر لنا إمكانية اكتشاف ذاتنا. أجل!.. فكما يشعر من يحمل في كل عضو من أعضائه جرحا أو ألما شعورا قويا وحادا من الألم، أي يشعر بالألم في كيانه كله، كذلك حالنا نحن الذين نعيش منذ سنوات عهدا من الظلم والتحكم والطغيان والغدر، فقد أدّى هذا إلى انتشار وعي صامت ولكنه عميق… وعي تدريجي ولكنه مستمر وقوي ومتصف بالعزم بأن الحق لا يُهدى ولا يُتفضل به، ولا يُتصدق به من قبل أحدهم. لذا نمدّ إلى شهر رمضان أيدينا في جو من الإشراق الروحي لكي يفتح لنا بابا نحو أيام جديدة مضيئة للمستقبل، ولكي نتوجه ونرجع إلى ذاتنا وهويتنا بشكل يشبع العين والقلب، وبِصَمْت الأنهار الجارية بهدوء وبمهابة، وبرقة النسائم المنعشة التي تهبّ بكل رفق. والذين يشاركوننا هذه العاطفة والفكر يكتفون أحياناً بالتمهل والانتظار مع أنهم يملكون قابليات كبيرة وإمكانات واسعة في مجالات عدة مثل الطائر الذي يظل محلقا في مكانه بتوازن دون أن يرفّ بجناحيه، وأحياناً لا يستعملون -لحكمة ما- العديد من البدائل المتاحة لهم، ويفضلون انتظارا فعالا وليس انتظار غفلة. ونراهم أحياناً وهم يتوجهون بحيطة وجدية تفوق ما كنا ننتظر منهم نحو المبادئ التي عشقوها وارتبطوا بها بقلوبهم.
يتوجهون إلى الله تعالى بالصوم وبصلاة التراويح وبالعبادة مثل توجه الملائكة الكرام… يتوجهون دون توقف بكل إخلاص وبذلّة شديدة وبرقة بالغة… الدموع في أعينهم… والرجفة والخشية في صدورهم.
هؤلاء الأبطال الذين ينشرون النور والضياء حتى الصباح مثل الشموع المحترقة، ويجاهدون ويحاربون الظلام، والذين تركوا أمر العيش من أجل النفس ونذروا أنفسهم من أجل العيش لهداية الآخرين… هؤلاء بيدهم وسائل ووسائط نفخ في روح هذه الأمة وفكرها، وبالبراهين المستخلصة من لب وعصارة ماضينا، لا يفترون عن محاولة إعادة تلك الأيام المجيدة دون يأس أو كلل. ونحن نثمن جهودهم هذه بجهود أولي العزم من الناس… هذه الجهود المباركة تجعل من وقتهم وزمانهم هذا زمنا سامِيا، وليس كشريط زمني قصير ومحدود. فمن ناحية ماهيته ولبّه وجوهره وبالألطاف الإلهية المنهمرة عليهم يصبح هذا الزمن متصلا بأقدم القديم وبالعهد الذهبي المجيد من ماضينا من جهة، ومن جهة أخرى ممتدا نحو الأبدية. حتى إننا لو نظرنا إليه بنظرة الروح المرتفعة فوق الزمان والمكان، ورصدناه بمرصد الروح، لرأينا بكل بهجة ودهشة كيف أن العديد من المستحيلات تتحقق بفضل الإيمان، وتتم به.
من يدري كم من الأمور المخفية والسرية تكشف عنها كلَّ يوم مثلُ هذه الرؤى، وتفتح الأبواب المطلة على الحقائق أمام الذين يملكون مثل هذه الأسباب، وتهديها لنا، وتنفث الانشراح والبهجة في قلوبنا المهمومة، وتنقذنا من الارتباط بأنفسنا وبأحوالنا، وتنقلنا إلى الجو المتفائل للإيمان وللأمل.
شهر رمضان أنسب موسم للدعاء والمناجاة والتوجه إلى الله وأفضل منبع لتداعي الأفكار والمشاعر. ففي جوه الجميل الملون بألوان قوس قزح تتماوج القلوب كتماوج رائحة البخور من المباخر، وتحتفل به الأرواح في سحر كل يوم، وتغرد في بساتينها وخلجانها مئات البلابل. وفي الجو المضيء لشهر رمضان لا نسمع في كل حال من أحوالنا، وفي كل طـور منها وفي كل عاطفة من عواطفنا، وفي كل عبادة من عباداتنا بعض الأصوات وبعض الكلمات وبعض الأفكار والملاحظات من ماضينا المجيد، بل كم من نداء آت من وراء الأفق نحسها ونسمعها، ولا سيما إن كان شهر رمضان مثل شهر رمضان عامنا هذا الذي جاء بعد عهد طويل من الإمساك، والذي مزق السكون المخيم علينا منذ قرون!.. أما نحن الذين نؤمن بأن شهر رمضان منبع لمثل هذا النور، فإننا نصل إلى مثل هذا التناغم لا بنسبة ضآلتنا وقلة قيمتنا، بل بنسبة عظمة شهر رمضان وبركته، وبنسبة وسعة رحمة ربنا، ويأخذ كل شيء مكانه الطبيعي، حتى نصل إلى عمق أفقي وتبلغ قلوبنا سعادة الشعور بالقرب من الحق تعالى، وترتعش جوانحنا أمام تجليات رحمته، ونشعر بنسائم الأنس به وهي تحيط بنا من كل جانب، فنقول كما قال الشاعر:
يا رب!.. عدمُ معرفتك حسرة،
والقرب منك جمرة نار،
جمرة في صدورنا،
تفوق جمرات نار المواقد…
أما عشقك… آه من عشقك…
إنه الجنة الحقيقية…
ماذا لو أحييتني وبعثتني،
بعشقك يا رب!..
نكرر مثل هذه الأبيـات ونعيد النظر في توحدنا وتكاملنا مع أفقنا ومبدئنا، ونتلاءم مع هذا الجو إلى درجة أننا نفرح فرح الأطفال الأبرياء من جهة، ومن جهة أخرى يستطيع روحنا الحساس سماع ألف آهة في مركز عالم ذي قطبين،( ) والعيش في ثنائية تعادل فيها آلام روحنا أفراحها، وقلقها بهجتها، وآمالها -المستندة دوما إلى الحيطة والحذر- صامدة وقوية، ومخاوفها في يد الرجاء. ولكننا نتوجه دائما وأبدا بمشاعر عميقة تستهدف التوحيد من أفق إلى أفق بروح مرتجف تكاد قبته تتفجر من حمل مشاعره وتتفتت.
أحياناً تقوم العين في الساعات والدقائـق التي نعيشها في هذه الأيام المباركة بإفشاء أسرار عالمنا الداخلي بذرفها الدموع، فتعبر عن أفكار ما كنا نستطيع التعبير عنها بكل هذا الوضوح، فنفرح بهذا، ولكننا في الوقت نفسه نرجع إلى أنفسنا عندما نـرى أن العين -بدموعها- قد تقدمت على الأذن والقلب، فيظهر أمامنا هاجس ألا تكون هذه الدموع خالصة له.
أحياناً تكون نسائم شـهر رمضان من الرقـة والأنس فوق كل توقع، فتمتلئ قلوبنا بأحاسيس لا نستطيع وصفها أو تقييمها، ونحسب وكأننا قد استسلمنا إلى تيار سري غامض أو أننا فوق جسر ينقلنا إلى الجنة. ولكن عندما ينقطع هذا التيار، وتنتهي سياحتنا هذه التي أوصلتنا حتى حافة شاطئ الميناء دون أن ندري، نحس بأننا نكاد نخرج ونُحرَم من طريق الجنة هذا، فنشعر برجفة تنتشر في أوصالنا. ولكن سرعان ما تتلقفنا تداعيات أعمق، وموجات أخرى أكبر وأقوى على غير توقع منا، فنجد أنفسنا وقد تجاوزنا حدودنا، ودخلنا بلطفه في شلالاته، ونستمر في هـذه السياحة الأنفسية وكأن شيئا لم يحدث.
في كل ليلة من ليالي رمضان نهبّ من فراشنا وكأننا مقبلون على سفر بعيد، ونضع حظراً على النوازع الجسدية. وبمشاعر خفية ومقفلة على الدنيا ومفتوحة على “الحبيب” نتوجه إليه وحده، ونكاد نعدو من لهفتنا وفرحنا وشوقنا. وبالنسائم السحرية التي تهبّ علينا من حولنا وتحتضن كياننا وتلفه، نبتعد عن المشاغل اليومية وندخل في جو الآخـرة. في مثل هذه الأحوال تنفث ساعات الإشراق هذه سحرها في أرواحنا، وتشعل في قلوبنا شرارة الخلود والأبدية. تحمل مثل هذه اللحظات من الأنس واللطف والحلاوة والصدق بحيث أن كل ثانية منها بل كل ثالثة كلما توزعت وانتشرت وتعمقت في حنايا ضلوعنا، نحس وكأننا دخلنا إلى عالم الوصال، إلى درجة نتخيل فيها أن قبة وجودنا تكاد تنشق وننتقل إلى العالم في الطرف الآخر. وهذه وتيرة طبيعية كما قال الشاعر:
يا قلب!.. صاحبُ النفس هو الذي طلبها…
لم الحزن؟ هي ليست لي وليست لك…
كم تكون حلاوة هذه الدقائق وهـذه اللحظات في العمر ضمن هذه المشاعر اللدنية، حتى إننا قد نشعر بالامتعاض من مرورها السريع، ونتمنى دوامها ونقول: “ليت مثل هذه اللحظات الحلوة من شلال الزمن لا تسيل بمثل هذه السرعة، ويا ليتنا كنا نملك الإحساس بها بكل ثانية أو ثالثة أو عاشرة، مثلما يحس الإنسان بحلاوة شراب بارد في كل نقطة من النقاط التي يمر عليها”.
تشرق الشمس في كل يـوم على مشاعرنا هذه. وعندما يرتفع الأذان فوق المآذن في الظهر تتداعى هذه المشاعر مرة أخرى. وكل غروب يهب لأرواحنا أقداح الفرح والحزن. وتلفنا كل ليلة بسحر الخلوة، وتفتح مغاليق ألسنتنا لنبثّ لواعجنا، فيسرع كلّ منا إلى سجادة الصلاة لينفس عن حسرته وعن لواعجه وعن فرحه… يئن أحياناً، ويصرخ من الفرحة أحياناً أخرى.
وهكذا يمر شـهر كامل في أفق فكرنا بنفس الروح وبنفس المعاني التي تبحث عن طرق الارتباط به تعالى… يمر الشـهر ويمضي على الرغم من توسلاتنا وضراعاتنا بألا يتركنا. ولكن ما أن يغيب هلاله حتى تهل علينا شموس العيد التي تنير آفاقنا وتملأها نورا وضياء.