حوار مع جريدة الشرق الأوسط[1]
س: كيف تصفون حركة “الخدمة”؟[2] وكيف تعرّفون “أتباعكم”؟ وما الذي يجمعهم في مشروع واحد؟
ج: شخصيا، لا أرى من المناسب تسمية هؤلاء بـ”الأتباع”، سواء لي أو لأي شخص آخر. أكّدتُ مرارًا أنه يؤلمني كثيرًا نسبة الناس إلى شخصي الضعيف وإلحاقهم بي تحت عناوين مختلفة كـ”الفلانيّين” و”العلانيّين”. كما أريد أن أؤكد أن هؤلاء الناس قد التقوا -بشكل طوعي- حول مشاريع وجدوها معقولة ومنطقية ومفيدة لكافّة الناس. ومع أن الحركة تستهدي بقيم الإسلام، فإن مشاريعها التي يقوم عليها المتطوعون العاملون في إطارها، متماشية مع القيم الإنسانية الهادفة إلى تعزيز الحريات الفردية وحقوق الإنسان والتعايش السلمي بين جميع الفئات؛ ومن ثم وَجدتْ ترحيبًا في 160 دولة حول العالم، ولقيتْ قبولًا صريحًا أو ضمنيًّا مباشرًا أو غير مباشر من جنسيات ودول وأديان مختلفة. لذلك من الصعب القول إن المتطوعين في الحركة يشكّلون بنية متجانسة، بل هي بنية متنوّعة. وحالة التنوّع هذه تمتد لتشمل ألوانًا مختلفة من التعاطف والتشارك؛ فبينما يعمل البعض معلّمين في مدارس بالخارج، يقوم آخرون بالتكفّل بالنفقات أو يخصصون جزءًا من أوقاتهم للخدمات التطوعية، وما إلى ذلك.
إذن هم أفراد التقوا طوعًا على قيم إنسانية سامية مشتركة، كالحرّيات، وحقوق الإنسان، واحترام المعتقدات، وتقبّل الآخر، والانفتاح على الحوار، وتنزيه الدين عن الأغراض السياسية الحزبية الضيقة، واحترام القانون، وعدم استغلال إمكانيات الدولة استغلالًا سيّئًا، وضرورة عدم التراجع عن المسار الديمقراطي، ورفض استخدام السلطة لإكراه الأفراد والمجتمعات على معتقدات معيّنة، والثقة في المجتمع المدني، وتوظيف التعليم لإحلال ثقافة السلام في المجتمعات، وابتغاء مرضاة الله في كل قول وفعل، ومحبة الخَلق من أجل الخالق، وتعزيز منظومة القيم الأخلاقية لدى الأفراد بغضّ النظر عن قيمهم الدينية أو غير الدينية.
هؤلاء الأفراد أُطلقت عليهم عدة أسماء كـ”الجماعة” و”الخدمة” و”الجامعة”، ومع أن هذه الأسماء لا تعبر عن المعنى الذي يمثلونه بشكل وافٍ فإن مصطلح “جامعة” باللغة التركية، الذي يعني مجتمعا كبيرا من الأفراد، هو الأنسب. كذلك أستطيع القول إن هؤلاء الناس–الذين تجمعهم القيم السابقة مع تنوعهم– يتمتعون بوحدة روحية ووعي جماعي بحيث لا يمكن لأي جهة خارجية التلاعب بهم بهدف خرق القيم الآنفة الذكر.
س: ما رأيكم في الخطوة التي اتخذتها الحكومة التركية حول حظر المعاهد التحضيرية الخاصة؟[3]
ج: أولا، يجب القول إن المعاهد التحضيرية ظهرت نتيجة للكثير من جوانب القصور في النظام التعليمي الرسمي. هذه المدارس مؤسسات خاصة يديرها أناس ملتزمون بالقانون، ومؤسسة طبقا لمبادئ الحريات الخاصة التي كفلها الدستور.
ثانيا، هذه المدارس لا تتبع “الخدمة” بشكل مباشر، وإنما تدار عن طريق عدد من شركات القطاع الخاص التي يملكها رجال أعمال يؤمنون بأفكار “الخدمة”. وتخضع هذه المدارس لرقابة الدولة من حيث مواردها المالية والمقررات الدراسية. وهي تسدد الضرائب المستحقة عليها للدولة، شأنها شأن المؤسسات الأخرى. بالإضافة إلى أن هذه المدارس المحسوبة على “الخدمة” تمثل نسبة صغيرة فقط من عموم المعاهد التحضيرية في تركيا. والحاصل أن نظام التعليم يعاني من مشكلات جذرية لم يجرِ اتخاذ أي خطوات جدية حيالها، ومن ثم فلا يمكن اعتبار محاولة إغلاق هذه المدارس جهدا صادرا عن حسن نية. ثم إن هذه المدارس منذ عقود وهي تلبي حاجة ملحة لدى الطلبة في مجالي الرياضيات والعلوم على وجه الخصوص، بناء على طلب أولياء الأمور في إطار القوانين المرعية، وبالتالي فإغلاقها بقوة الدولة يشكل ضربة لقطاع النشاط الحر، وحرمانا للطلاب من الحصول على تعليم أفضل.
ومن جهة أخرى، فالقائمون على التعليم في هذه المدارس يمتثلون للمبادئ الأساسية لفكرة “الخدمة” مثل الإيجابية والاستقامة والصدق والعمل الجاد واحترام الآخر.. الأمر الذي يترك أثرا إيجابيا لدى طلابهم. ومن ثم نستطيع أن نقول إن هذه المدارس قد نجحت –بإذن من الله وعنايته ولطفه– في مكافحة العادات السيئة لدى هؤلاء الطلاب، مثل التدخين، وإدمان الكحول، وحتى تعاطي المخدرات، التي تعد من التحديات الكبيرة التي تواجهها المدارس الحكومية في تركيا.
إن إغلاق هذه المدارس، التي لم تخرق القانون والقيم الأخلاقية يوما ما، ولم تخالف مبادئ الديمقراطية والقيم الكونية، ومن دون طلب من الرأي العام أو حتى مناقشة قرار الإغلاق نقاشا مجتمعيا كافيا، سيؤدي بالضرورة إلى إهدار كل المكتسبات التي تحققت حتى اليوم.
س: نفيتم دائما وجود أي طموحات سياسية لديكم، ولكن هل ترون أن وجود مؤيدين لكم داخل أجهزة الدولة التركية يصب في صالحكم؟
ج: أولا، لا بد من التنويه بأن الخدمة منذ نشأتها لم تَسعَ إلى أي هدف سياسي، ولكنها سعتْ إلى خدمة الإنسان من خلال تنمية قدراته في المجالات التعليمية والاجتماعية والثقافية، واستثمرت كل وقتها وطاقتها في سبيل تحقيق هذه الغاية. وتصدّت لحل المشكلات الاجتماعية انطلاقًا من الإنسان عن طريق التربية والتعليم.
طالما ذكرتُ في دروسي أن لدينا ما يكفي من المساجد -التي كان أغلبها فارغًا في السبعينات- ولكن ليس لدينا ما يكفي من المدارس. لذا حضضتُ الناس على فتح المدارس لسدّ هذه الثغرة. ولو كان لدينا أي هدف سياسي لكانت قد ظهرت بوادره خلال الأربعين أو الخمسين سنة الماضية كإنشاء حزب سياسي مثلًا. ولقد عُرض عليّ وعلى الكثير من إخواني -في أوقات مختلفة- العديد من المناصب السياسية، وتم رفضها جميعًا. ولقد كان بإمكان “الخدمة” -لو كان لديها طموحات سياسية- أن تؤسس حزبًا سياسيًّا كما فعل الآخرون، وتستثمر الظروف المواتية عام 2001م، في وقت كانت الأحزاب الأخرى تتهاوى واحدة تلو الأخرى… أو على الأقل لكان لها عدد لا بأس به من المؤيّدين داخل الأحزاب السياسية التي حكمت في الماضي أو الحزب الذي يحكم الآن، ولكنها لم تفعل ولم ترغب في ذلك أيضًا.
شخصيًّا لا أتبنّى قناعة ممارسة السياسية باسم الدين، أو توظيف الدين لتحقيق مكاسب سياسية، أو ممارسة السياسة بشعارات دينية، وهذا لا يعني أنني أرى أن الانخراط في مجال السياسة أمر غير مشروع. فمع أننا لا نشارك في السياسة ولا نقوم بإنشاء حزب سياسي، لكن لا نرى منع أحد من القيام بذلك؛ لأنه في الديمقراطيات لا يمكن ممارسة السياسة من دون أحزاب، طبعًا الخدمة ليس عندها هدف سياسي بمعنى تأسيس حزب، لكن القيم والمبادئ التي حاولتُ توضيحها آنفًا، والتي تشكل الديناميكية الأساسية للخدمة، تتلامس مع الممارسة السياسية بطريقة أو بأخرى.
وأفراد الخدمة باعتبارهم مواطنين يتمتعون بكافة حقوق المواطنة وواجباتها كان وما زال لهم مطالب من مؤسسات الدولة، شأنهم في ذلك شأن نظرائهم من المواطنين العاديين أو التربويين أو كل ناشط مجتمعي. وقد كانت هذه المطالب دائمًا تدور في إطار القوانين المرعية وتُطلَب عبْر السبُل والطرق المشروعة. ولم يحاولوا ألبتة اللجوء إلى أيّ وسيلة غير قانونية أو غير أخلاقية لتحقيق هذه المطالب.
وبطبيعة الحال، يتوقع المواطنون الذين تعلّقت قلوبهم بـ”الخدمة”، من القائمين على شؤون البلد، السعيَ إلى تعزيز سيادة القانون وحقوق الإنسان والحريات والسلام وحرية الفكر وبناء المشاريع ودعم الاستقرار والأمن في البلاد والحيلولة دون الانزلاق إلى الفوضى أو حدوث الأزمات، والتأكيدَ على تقبّل الجميع والاعتراف بوجودهم. كما يحق لهؤلاء الناشطين في الخدمة الاحتكام إلى الوسائل المدنية والديمقراطية المتاحة لهم، للإفصاح عن آرائهم حول أوجه القصور في هذا الصدد حال وجودها. إذ إن التعبير عن الآراء في هذا الصدد، ورفْعَ مستوى الوعي العام، هو واجبٌ وطني، وواحدٌ من أهداف المجتمع المدني أيضًا. ولا يلزم بالضرورة تأسيس حزب سياسي من أجل القيام بهذه المهمة، كما لا يمكن اتهام هؤلاء الذين يقومون بهذه المهام بأنهم يقتحمون السياسة، أو يريدون تقاسم السلطة، أو يعملون على تدخل غير المنتخَبين في عمل الـمُنتَخَبين ديمقراطيًّا. فما ذكرناه آنفًا، هو ما عليه الحال في أيّ نظام ديمقراطي حقيقي، وفي أيّ دولة من دول العالم المتقدّم من حيث الديمقراطية.
إنّ الأحزاب السياسية والانتخابات الحرة هي شروط أساسية للنظام الديمقراطي، ولكنها لا تكفي بمفردها، فالأداء الفعّال والسلس للمجتمع المدني هو أمرٌ مُهم كذلك. ومن الخطأ القول إن الانتخابات هي الطريقة الوحيدة لمساءلة السياسيين أمام عامّة الناس، حيث إنّ المجتمع المدني يستمر بمراقبة السلطة الحاكمة ليرى ما إذا كانت تفي بوعودها أم لا، وذلك من خلال الإعلام والمناشط المجتمعية المختلفة وفعاليات عديدة أخرى في إطار القانون، مثل عرائض الاكتتاب ورسائل شبكات التواصل الاجتماعية. وبالرغم من أن نشطاء الخدمة التقوا على مبدأ عدم الانخراط في السياسة الحزبية وعدم السعي نحو السلطة، لكن هذا لا يعني أن يتخلّوا كمجتمع مدني عن مسؤوليتهم وصلاحيتهم في مساءلة السلطة السياسية ورقابتها. وبما أن الخدمة ليست تكوينًا بنيويًّا ولا تنظيمًا مركزيًّا هرَميًّا، فليس هناك وجهة نظر سياسية واحدة يتبنّاها جميع المشاركين فيها، كذلك ليس من المعقول القول إن حركة كهذه منحازة إلى حزب بعينه فضلًا عن أن تكون منخرطةً فيه، فللمتعاطفين معها اختياراتهم السياسية الخاصّة، ولا تفرض الحركة أي وجهة نظر معينة عليهم، ولا تتدخل في هذا الموضوع على الإطلاق.
كما أن برنامج الخدمة وتقويمها الزمني لا يتحدَّد وفق التغيّرات الانتخابية والسياسية، بل يتحدّد حسب المشاريع التي تدور في فلك القواسم الإنسانية المشتركة. كذلك، فإن الحركة لا تتدخل في الشؤون الداخلية أو التطورات السياسية في أي بلد نهائيًّا، فحيثما تتّجه تركّز جهدها على تنفيذ مشاريع مدنية تطوّعية في مجالات تعليمية وثقافية وإنسانية. ولكونها تتمسك بهذا المبدأ ولا تفرّط فيه، فهي اليوم تحظى بقبولٍ لأنشطتها في أكثر من 160 بلدًا حول العالم.
ولا شك أن من المتعاطفين مع أفكار الخدمة والمحبين لها، من هم اليوم داخل السلك البروقراطي في الدولة، شأنهم شأن بقية شرائح المجتمع الحاملة لأفكار أخرى. ومن ثم فليست انتماءاتهم مدوَّنة على جباههم، وبالتالي فإن محاولة تصنيفهم في تقارير أمنية حسب تعاطفهم، أمر غير قانوني وغير أخلاقي على حدٍّ سواء. وأيضًا فهؤلاء المتواجدون داخل السلك البيروقراطي -ممن يقال إنهم متعاطفون مع الخدمة- يخضعون خضوعًا صارمًا للقوانين واللوائح المنظمة لشؤون العمل داخل المؤسسات التي يعملون بها، ويمتثلون لأوامر رؤسائهم في مجال أعمالهم، أي إن واجباتهم محدَّدة حسب القوانين. وإذا كان الأمر كذلك فلا أدري كيف يمكن أن يحقق هذا امتيازا أو مصلحة لشخص أو فئة ما.
وأريد أن أكرّر التأكيد هنا على نقطة هامة؛ وهي أن في أجهزة الدولة قد يكون هناك مَن هم متعاطفون معي أو مع أي شخص آخر، أو مع حركة فكرية، أو أيديولوجية ما، وهذا أمر طبيعي تمامًا. فليس لأحد التدخّل في قناعات الآخرين الشخصية أو معتقداتهم أو نظرتهم إلى العالم، والمتوقع ممّن يتخرجون من مدارس الخدمة أو ممّن يتعاطفون مع المثُل العليا التي تدعمها الخدمة، أن يتصرفوا بصدق واحترام تجاه سيادة القانون وحقوق الإنسان ومبادئ الديمقراطية، أيًّا كانت المناصب التي يشغلونها في الدولة.
ومن ثم إن كان هناك أشخاص داخل مؤسسات الدولة، بدلًا من الانصياع لأوامر رؤسائهم أو لوائحِ القوانين، يتلقّون الأوامر من جماعتهم التي ينتسبون إليها أو يميلون نحوها فكريًّا، فلا بد من أن يُكشَف أمرهم، وينالوا العقاب اللازم بهم حتى وإن ادّعوا أنهم يعملون لصالحي. وإن كان هناك مَن يرتكب الجرائم من العاملين في الشأن العام ممن يدّعون التعاطف مع “الخدمة”، فينبغي أن تبدأ التحقيقات معهم بسرعة وأن يُحالوا للعدالة.
إن موقف “الخدمة” من الشفافية والمساءلة واضح، وسيظل كذلك. ومع هذا فإن الأنظمة السياسية المبنية على مبدأ الشفافية التامة هي وحدها التي تستطيع أن تطالب المجتمع المدني بأن يتحلى بمثل هذه الشفافية أيضا. أما مطالبة الآخرين بأن يكونوا في منتهى الشفافية في حين أنهم لا يتخذون إجراءات تتعلق بالشفافية في السلطة والسياسة، فهذا أمر لا يمت إلى المصداقية بصلة. وإن موجات التقارير الأمنية وعمليات التنصت على المكالمات الهاتفية وإجراءات التصفية في المؤسسات البيروقراطية خير شاهد على ما أقول، فلقد جرى نقل آلاف المسؤولين من مواقعهم من دون أي تحقيقات عقب فضيحة الفساد في السابع عشر من ديسمبر (كانون الأول) من العام الماضي، ولا تزال كل المعايير التي تستند إليها الحكومة في إجراءات الطرد والتشريد والإبعاد لهؤلاء الموظفين من أماكنهم وتعيين آخرين بدلا منهم مجهولةً لدى الناس، لذا فإن العملية برمتها تعطي انطباعا عن كونها تعسفية.
س: هل تعتقدون أنه يجب إعطاء مساحة أكبر للإسلام في المجال العام والحياة السياسية؟
ج: إن الإسلام -كدِين- هو مجموعة من المبادئ والممارسات التي تستند إلى الوحي الإلهي، وترشد البشر إلى الخير المطلق من خلال إرادتهم الحرة، وتُبيّن لهم كيف يسعون جاهدين ليجعلوا من أنفسهم “أشخاصًا يتّسمون بالكمال”. يمكن للناس أن يمارسوا دينهم بالطريقة التي يشاؤون في بلدٍ ديمقراطي يتيح لهم التمتع بمعتقداتهم الدينية بحريّة. في بلدٍ كهذا، يتم إجراء الانتخابات الحرة بما يتوافق مع المبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان العالمية والحريات، ويمكن للناس أن يعبّروا عن اختياراتهم عبر الإدلاء بأصواتهم في الانتخابات، وتقديم مطالبهم لممثّليهم بحرية تامة واستخدام الحقوق الديمقراطية الأخرى المتاحة لهم، يمكنهم القيام بذلك بشكل فردي أو جماعي من خلال المشاركة في أنشطة منظمات المجتمع المدني.
إنني أرفض دائمًا فكرة التعامل مع الدين باعتباره أيديولوجيا سياسية (Politic). كما أرى أن على المسلم أن يتصرف وفقًا للأخلاق الإسلامية سواء في البعد المدَني والمجتمعي، أو في الشأن العامّ والمجال الإداري. أي يجب أن يلتزم بقيم الإسلام الأخلاقية في كل مكان وُجد فيه؛ فالسرقة والرشوة والنهب والكسب غير المشروع والكذب والنميمة والغيبة والزنا والانحطاط الأخلاقي… هي ذنوب وأمور غير شرعية في كل السياقات. ولا يمكن ارتكاب هذه المعاصي لأي غرض كان، سياسيًّا أو غيره، ولا يصحّ لأحد الإفتاء بارتكابها. ثم إن هذه المعاصي تُعتبر جناياتٍ حتى في إطار المعايير المتعارف عليها عالميًّا. وإذا فقد الفرد نزاهته الأخلاقية في هذا الجانب، فإن دوره في الشأن العام أو في أي حزب سياسي، عديم الجدوى. وكأي إنسان عادي، يُسعدني أن أرى هذه المبادئ الأخلاقية وقد تحوّلت إلى سلوك لدى جميع مَن يشغلون مناصب في الشأن العام أو في المجال السياسي. في الواقع إن المشاكل المذكورة أعلاه هي المصدر الرئيسي للشكاوى في المؤسسات الإدارية والسياسية في كل مكان حول العالم.
واسمحوا لي أن أقول بكل وضوح؛ إذا كان المسلمون في بلدٍ ما يمارسون شعائرهم الدينية بحرّية، ويتمكّنون من إنشاء مؤسساتهم الدينية بلا عوائق، ويستطيعون أن يلقّنوا قيمهم الدينية لأبنائهم ولمن يرغب في تعلّمها، ولديهم الحرّية الكاملة في التعبير عنها في النقاشات العامة، ويعلنون عن مطالبهم الدينية في إطار القانون والديمقراطية، فإن حاجتهم إلى إقامة دولة دينية باتت غير ضرورية. والتاريخ يشهد على أن حركات التمرّد والثورات والانقلابات وأحداث العنف دائمًا ما تجرّ البلاد إلى الفوضى والمآسي، وتجعلها في نهاية المطاف تفقد كل مكتسباتها في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتكبّد الشعوب أضرارًا وخسائر لا يمكن تلافيها. والحقيقة أنه إذا تمّت السيطرة على سلطة بلدٍ ما قسرًا وأُجبِرَ الناس على التديُّن، فإن هذا سيجعل منهم مُنافقين، يراؤون السلطة داخل بلدهم ويتظاهرون بالتديّن لتحقيق منافع شخصية، ولكن ما إن يسافروا إلى الخارج حتى ينغمسوا في حياة مناقضة للدين ومفتوحة على ألوان شتى من الذنوب والآثام. ففي مثل هذا البلد يضعف احترام القانون وينتشر النفاق والرياء. وإن نظرة فاحصة لتجارب متنوعة في بلدان مختلفة ستدلك على أن كلماتي المجردة هذه لها في الواقع ما يؤازرها.
س: كيف ترون العلاقة بين الإسلام والديمقراطية؟ هل ينسجمان؟ وكيف تقيمون الممارسة الديمقراطية في تركيا؟ وما تأثير تلك العلاقة على محاولة تركيا الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي؟
ج: نظام الحكم القائم في تركيا منذ الخمسينات هو نظام ديمقراطي بالرغم من كل ما يعانيه من تعثّرات، فالديمقراطية هي نظام يتّجه إليه العالم اليوم. لقد بدأت البوادر الأولى نحو نقل بلادنا إلى الديمقراطية منذ أواخر الدولة العثمانية عام 1876م من طرف السلاطين العثمانيين الذين كانوا في الوقت نفسه خلفاء العالم الإسلامي، حيث شكّل النوّاب من غير المسلمين في أوّل برلمانٍ مُنتَخَب ديمقراطيًّا نسبةَ الثلُث تقريبًا. فمن الخطأ أن ننظر إلى الإسلام وكأنه متعارض مع الديمقراطية، والعكس صحيح. ويمكن القول إن الديمقراطية هي النظام الأنسب لمبادئ الحكم في الإسلام لكونها تتيح الفرصة للنّاخبين أن يُحاسِبوا الحكّام المنتخَبين ويسائلوهم، ولكونها نقيضًا للاستبداد الذي يعتبره الإسلام شرًّا وفسادًا في الحكم. فليس للإسلام مشكلة مع الانتخابات الديمقراطية والمساءلة وسيادة القانون وغيرها من المبادئ الديمقراطية الأخرى. وعندما صرّحتُ عام 1994م بأنه “لا ينبغي التراجع عن الديمقراطية”، قُوبلت هذه التصريحات بالاعتراض من بعض الفئات، إلا أن هناك العديد من التطبيقات والأنماط للديمقراطية لا يمكننا القول إنها بلغت حدّ الكمال، بل هي في طريقها إلى الاكتمال.
إن البلد الذي يتم فيه حفظ الدين والنفْس والعقل والنسل والمال، ولا تُقيَّد فيه حقوق الأفراد وحرياتهم إلا في الحالات الاستثنائية القصوى كالحروب مثلًا، وتُعامَل فيه الأقليّات بالتساوي مع باقي المواطنين ولا يتعرضون لأي تمييز، ويُتاح للجميع التعبير عن وجهات نظرهم الشخصية والاجتماعية والسياسية بكل حرية والعمل بها؛ هو بلد متناغم مع روح الإسلام. وإذا كان الناس في بلدٍ كهذا يمكنهم التعبير عن آرائهم ومعتقداتهم بحرّية ويؤدّون واجباتهم وشعائرهم الدينية، ويتمتّعون بحريات مثل الملكية الخاصة وحريات أخرى، فليسوا مطالَبين -مسلمين كانوا أو أتباعَ ديانات أخرى- بتغيير نظام الحكم في ذاك البلد. أمّا البلدان التي لا يتمتّع فيها الناس بهذه الحريات، فعليهم أن يحاولوا الحصول عليها من خلال وسائل ديمقراطية دون اللجوء إلى العنف بتاتًا.
أعتقد أنه بإمكان الإسلام والديمقراطية أن يتعايشا سلميًّا ليس فقط في تركيا، بل أيضًا في البلدان المسلمة، وفي البلدان ذات الأغلبية والكثافة الإسلامية. للأسف يلاحظ أنه في البلدان التي يتم فيها شيطنة الديمقراطية، تكثر انتهاكات حقوق الإنسان، والاضطرابات الأخلاقية والقانونية، والنزاعات والصراعات الدينية والعرقية. إن الديمقراطية حاليًّا تتطور لتصبح -إن جاز التعبير- عرفًا وقيمة مشتركة للجنس البشري بأكمله. ففي البلدان التي تتوافق مع معايير الاتحاد الأوروبي، يحق للمسلمين من خلال مؤسسات المجتمع المدني ممارسة دينهم وتطبيقه وتمثيله بل ونشره وتعليمه أيضًا. ومن ثم فإن وظيفتنا الأساسية أن نمارس قيمنا الإسلامية ونتمثلها حيّة سواء أفرادًا كنّا أو مجتمعًا مدنيًّا.
لا يمكن وصف تركيا بأنها دولة ديمقراطية بشكل كامل. فالمتدينون الذين كانوا يتعرضون للاضطهاد في الماضي، مثل الطالبات اللواتي مُنِعْنَ من ارتداء الحجاب في الجامعات، قد نالوا مؤخَّرًا العديد من حقوقهن نتيجةً لمساعي الانضمام للاتحاد الأوروبي؛ ومن ثم فإن عملية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي قد عادت بالكثير من الفوائد على تركيا من هذه الجهة، وتم إدخال إصلاحات ديمقراطية جدّية للبلاد في إطار هذه المساعي. وإذا استمرت هذه الإصلاحات واستطاع النظام الديمقراطي في تركيا تحقيق معايير الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان والحريات، فباعتقادي لن تقف هوية تركيا المسلمة حجر عثرة أمام عضويتها الكاملة. حتى لو قام متعصبون كارهون للإسلام في أوروبا بمنع انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، فإن المكاسب التي حقّقتها تركيا أثناء محاولتها الحصولَ على العضوية تبقى انتصارًا مهمًّا للديمقراطية فيها. إلا أن تركيا -مع الأسف- قد بدأت مؤخّرًا تتراجع عن تحقيق تلك المعايير الديمقراطية للاتحاد الأوروبي.
س: ما هو معنى “الإسلام الحنفي” برأيكم؟
ج: لا يجوز استخدام هذا التعبير ولا يمكن قبوله إطلاقا، لا بحق المذهب الحنفي ولا غيره من مذاهب الفقه الإسلامي الأخرى. فالمذاهب تجتهد –وفق الأصول التي تتبعها– في جوانب الإسلام القابلة للاجتهاد، دون أصوله وأساساته وثوابته. وقد تتفق أو تتعارض تفاسير أي من هذه المذاهب بعضها مع بعض، لكنها ما لم تتعارض مع روح الإسلام والمبادئ الأساسية للقرآن والسنة، فهي تبقى داخل دائرة الإسلام. ولا يخفى أن اجتهادات أئمة المذاهب تأثرت بالبيئة المحيطة بها وقتها، كما كان للظروف السياسية والثقافية –أيضا– تأثير على هذه الاجتهادات. ويبقى القول إن كلا من الأئمة الأربعة للمذاهب الحنفية والشافعية والمالكية والحنبلية كانوا مخلصين، وكرسوا حياتهم للإسلام وعانوا كثيرا من المشكلات والصعاب في سبيل خدمة هذا الدين. لذلك خرجت هذه الاجتهادات الفقهية بفضل جهودهم وجهود طلابهم، وعليه ينبغي النظر إلى تلك الجهود باعتبارها من عناصر الثراء والغنى في التصور الإسلامي. وأنا الفقير أيضا أحاول أن أسير على نهجهم، هذا النهج الذي يمكن تلخيصه على النحو التالي؛ تقديم حفظ الدين والنفْس والعقل والنسل والمال على تقديس الدولة.. وامتلاك الإنسان لحرية الاختيار وحرّية المبادرة.. والاعتراف بدور العقل والمصلحة العامة وحتى التجربة المجتمعية إلى جانب النقل في فهم الوحي الإلهي.. وتفعيل مؤسسة الاجتهاد في المجالات الدينية القابلة للتأويل والاجتهاد، دون النصوص الصريحة.. والسعي إلى ترسيخ حرية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. والسماح للمتديّنين بالتعبير عن شعائرهم الدينية بكل حرّية وممارستها، ليس على المستوى الفردي فحسب، بل في المجالات والأمكنة العامة أيضًا.. واحترام القانون والنظام والأمن والاستقرار، واعتبار الإرهاب وقتل الأبرياء جريمة ضدّ الإنسانية.. والترويج لروح المنطق والعقل باعتباره وسيلة لإقناع المتحضرين بدلًا من الإكراه.. والوعي بأن 98% من الإسلام عبارة عن روحٍ ومعنًى وأخلاق وعبادة وعبودية وكمالات وتسامح وسلوك وترغيب وتبشير.
ومن وجهة نظر سوسيولوجية، هكذا فُهم الإسلام ومُورِسَ في الأناضول منذ أكثر من ألف سنة، إن هذا التصور عن الإسلام يتحدى كل أشكال العنف والتطرف ومحاولات تسييس الدين، كما يعزز الحب والتسامح والقبول المتبادل والتواضع ونكران الذات وسعة الصدر واحتضان الجميع.. ويعطي الأولوية للحق والعدل والحرّية والسلام في المجالين الاجتماعي والعام؛ وبعبارة أخرى يسعى إلى بناء نسيج اجتماعي مفتوح على كل الاتجاهات.
س: هل فاجأتكم أحداث التمرد الأخيرة في العالم العربي؟
ج: إلى حدٍّ ما.. حسب معرفتي فإن العديد من الخبراء المختصّين في شؤون المنطقة ممن يكتبون في السياسة والإستراتيجية الدولية، لم يتوقّعوا اضطرابات من هذا القبيل على نطاق واسع. أعتقد أنه لا ينبغي إطلاق اسم التمرد على المساعي المطالِبة بسيادة القانون والديمقراطية في المنطقة، باستثناء تلك التي تستخدم العنف من أجل هذا الغرض. إن الوضع القائم في هذه البلدان، والمعاناة المستمرة أمرٌ يدمِي القلب، ولا يبدو على المدى القريب حلّ لهذه المعضلات؛ وللأسف أقصى ما يمكننا فعله الآن كأفراد حيال ذلك، ليس شيئًا سوى الدعاء.
عندما اندلعت الأحداث في بادئ الأمر، قلتُ بناءً على حدسي وتوقعاتي المستقبلية: “ترى هل ما يحدث ربيع أم خريف عربي؟”، فهذا للأسف هو الواقع الإنساني، التدمير سهل، أما البناء فصَعْب؛ لأن الطاقة التي تحتاجها لبناء نظامٍ جديد يتوافق عليه المجتمع كله، هي عشرة أضعاف الطاقة التي تحتاجها للإطاحة بنظام قائم. للأسف لم نصل بعد إلى هذا المستوى من النضج الاجتماعي. كما أن التاريخ يحدثنا بأن التموّجات الاجتماعية قد تنجرف وتغير مسارها في اتجاهات مفاجئة غير محسوبة، لذلك فالعبرة بتلك الديناميكات الداخلية التي تدفع وتحرّك تلك الأمواج. ما الذي يحرّك ويقود تلك التموّجات؟! وما الذي يسري في الشُّعَيرات الدموية؟ ينبغي النظر إلى ذلك.. إذا لم تضعوا ذلك في الحسبان، فإن الأمواج قد تنفلت وتنساق في اتجاهات غير متوقّعة. إن الاعتماد على الحماس الجماهيري والحراك الجماهيري فحسب، لا يولّد نتيجة سليمة. في تلك الفترة كنتُ أقول دائمًا: “علينا أن ننظر إلى “الأمواج المنبثقة من القاع”، وإلا فإن الضرر الناتج قد يخيّب آمالنا وتوقعاتنا”. عندما كنتُ أنظر لما يحدث مراقبًا من الخارج، لم أتوقّع قط بأن تفضي تلك الأحداث إلى تغييرات جذرية ونتائج كبيرة في المدى القريب. كنا نشاهد تقلبات كبيرة، وتحولات ضخمة في الشارع العربي، ولكن بدا من الواضح مع الحسابات قصيرة المدى، أنها ستكون عديمة الجدوى. إن المجتمعات العربية مجتمعات مكابِدة، وأنا واثق من أنهم سوف يقيمون ما وقع بالصبر والمصابرة والبرامج بعيدة المدى.
إن حراك البحث عن الحرية بكل ألوانه، سيبقى في الذاكرة أحد أعظم إنجازات هذا العصر. ولكن الزمان أثبت لنا أن التغييرات الراديكالية أو محاولات التغيير الراديكالي دائمًا ما تؤدي إلى ضرر ودمار أكبر من المتوقع، وأن عودة الاستقرار والهدوء إلى المجتمع في أعقابها تستغرق زمنًا طويلًا. وكما يقول بديع الزمان سعيد النورسي، هناك ثلاثة أعداء كبيرة للأمة: الجهل والفقر والفرقة، ومن خلال مشاريع متوسطة وطويلة الأمد تقوم بتدعيم التعليم والعلوم والثقافة والفنون والتجارة والتسامح والحوار، يمكننا أن نكافح هذه الأعداء الثلاث. هذه المشاريع المهمّة قد لا تبدو ثمارها في المدى القريب، لكنها سوف يكون لها أثر في المدَيَيْنِ المتوسّط والبعيد. علمًا بأن أيّ مسعى نحو الديمقراطية سوف يبوء بالفشل ما لم يؤسَّس على أرضية كهذه. وحركة “الخدمة” كانت وما تزال منذ عقود، تسعى إلى تحقيق ذلك من خلال تأسيس المدارس وإنشاء الجامعات، وتكوين جمعيات واتحادات رجال الأعمال، وافتتاح المؤسسات الإغاثية، وتفعيل دور مراكز الحوار ووسائل الإعلام في استخدام لغة بنّاءة تُسهم في دعم التواصل والتحاور وتحقيق العيش المشترك. كما نأمل أن تعمل هذه المشاريع، التي تدعمها شرائح واسعة من المجتمع، على مساعدة الجميع -بمن فيهم الرؤساء والمرؤوسون- لتأسيس مجتمعات أكثر رفاهًا وأوفر سلامًا واستقرارًا. ونحن في سبيل تحقيق هذه الغاية، نضرع إلى الله بالدعاء القولي والفعلي عبر هذه المشاريع. ويمكن في هذا الإطار، أن تشرع المجتمعات العربية والإسلامية في الانطلاق نحو مشاريع من هذا القبيل حتى قبل أن تتأسس في بلدانها أنظمة حكم ديمقراطية متكاملة بكل معنى الكلمة.
س: ما هو تقييمكم للنزاع الدائر في سوريا؟ وهل هناك ما يمكن فعله لوقف هذه المأساة؟
ج: للأسف، سوريا كلها تجد نفسها في طريق مسدود. وأظهرت التطوّرات أن الشهيد الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي كان محقّا في تقييمه للوضع، إذ كان يمثل نموذج الاعتدال السنّي والذي يمكن تلخيصه في مبدأ “أن أسوأ حكومة أفضل من الفوضى واللاحكومة” وأن هناك خطر الانزلاق نحو حرب أهلية لدى محاولة إسقاط حكومة فاسدة عندما تكون الظروف غير مواتية وعند انعدام التوازن في القوى. وعلى ما يبدو، كان البوطي يعلم بوجود حالة من انعدام التكافؤ بين الجانبين، وأن الجيش كان كلّيا تحت سيطرة النخب الحاكمة على مدى السنوات الأربعين الماضية، وأنه لن يقف مع الغالبية. لقد نبّه البوطي في ضوء كل هذه الأمور إلى المخاطر الجدية المستقبلية.
لو لم تندلع هذه الأزمة لكان بإمكان سوريا أن تتطوّر ببطء وسلام نحو دولة أكثر رفاهية وديمقراطية على المديين المتوسط والبعيد، وذلك بمساعدة علاقاتها الجادة مع تركيا على الصعيد التجاري والسياسي والاجتماعي. ربما كان الجزء الأكثر مأساوية في الأزمة هو زوال هذا الاحتمال. في هذه المرحلة ما ينبغي القيام به في المدى القريب هو إيجاد حلول سياسية عاجلة لإيقاف نزيف الدم الأمر الذي سيكون بمثابة إغاثة ولو جزئية لملايين الأبرياء الذين يتضرّرون مما يحدث. ومن ثم، على المجتمع الدولي بذل جهود دبلوماسية مكثفة لتحقيق هذا الغرض.
س: ما تعليقكم على التوتر السنّي الشيعي الحاصل في الشرق الأوسط؟
ج: لا يصح تمييز الناس على أنهم سنّة أو شيعة. ويجب أن يُعامل الأفراد بناء على كونهم بشرًا بالدرجة الأولى أيًّا كانت دياناتهم أو معتقداتهم أو مذاهبهم. الإنسان -بما أنه إنسان- يمتلك حقوقًا أساسية، وبما أنه مواطن يمتلك حقوقًا ديمقراطية. كذلك هناك بون شاسع بين الدين أو المذهب والآيديولوجيات السياسية الحديثة.
لا ينبغي أن يكون هناك إشكال لدى عالَم السنة إزاء المجتمعات الشيعية التي تكنّ حبًّا خاصًّا لآل البيت. ومع ذلك فإن مبادئ ديننا لا تجيز لأي دولة أن تمارس القمع والإساءة على أساس الفروق الطائفية في محاولة للظهور كقوة إقليمية. ولقد كانت هناك جهود لتقريب المذاهب عبر التاريخ القريب لعب فيها -غالبًا- زعماء الشيعة دور المحرك. ولكن للأسف، فقد كان قادة الشيعة يميلون إلى توظيف هذه الجهود لأغراض توسعية خاصة بهم، حتى إن الشيخ يوسف القرضاوي الذي كان متعاطفًا مع الفكرة في البداية، قد اشتكى من مواقف علماء الشيعة خلال السنوات القليلة الماضية وعاتبهم على ذلك.
والمشكلة وإن بدت في الظاهر على شكل توتر بين السنة والشيعة، إلا أن الحقيقة مرتبطة بأهداف سياسية أخرى؛ مثل الهيمنة على المنطقة وتوسيع النفوذ والتحول إلى قوة إقليمية. لذلك تُستَخدم الانتماءات الدينية والمذهبية والطائفية وسيلةً لتحقيق هذه الأهداف؛ إذ يقوم بعض الساسة بتحويل الدين إلى آيديولوجية سياسية وتضييق مساحته لتوافق ذهنياتهم السياسية القمعية المحدودة. هذا بالإضافة إلى وجود محاولات حثيثة لتحويل الهوية السنية أو الهوية الشيعية إلى منطلقات تفضي إلى آيديولوجيات.. لا أحد يستطيع أن ينكر أن إيران اليوم، تسعى إلى تحقيق غايات قومية فارسية تحت ستار التشيّع. بالطبع يحق للدول أن تعزز مصالحها الوطنية وتحاول حمايتها عبر وسائل مشروعة في الساحة الدولية، لكن إثارة التوتّرات الدينية والطائفية والعرقية، لا ينبغي أن تكون إحدى هذه الوسائل. هذا خطأ، وعلى جميع المنظمات الدولية أن تكافح هذا الخطأ.
من ناحية ثانية، إذا كانت هناك قضايا نراها خطأ، وفق معتقدنا، بمقدورنا أن نشرح هذا للناس بطريقة حضارية قوامها الرحمة والتلطف والحكمة، من منطلق أن لا إكراه في الدين. ولكن، للأسف، قام بعض الأفراد والجماعات بتقديم صور مضللة عن المدرسة السنية، وذلك عبر الترويج للعنف والإرهاب باسم أهل السنة. ومثل هذه الجماعات تتسبب بالخراب والضرر الأكبر للإسلام نفسه. فالعالم الإسلامي بحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى الوئام والوفاق والتسوية السلمية للقضايا السياسية. هذا أمر ضروري بالنسبة للأمة من أجل أن تتخلص من مثل هذه المواقف والأحداث المدمرة.
س: لماذا، في رأيك، نجد كثيرين من شباب السنة العرب أكثر عرضة لتبني التفاسير المتطرفة للإسلام؟
ج: في كل دين تجد جماعات تنحرف عن الخط العام وتتبنى تفاسير راديكالية. ولعله من الصعب القول: إن أتباع مذهب معين، سواء كانوا من السنة أو الشيعة، أكثر عرضة لمثل هذه الانحرافات. أعتقد أن هذه المشكلة نابعة إلى حد كبير من تقصيرنا في فهم مضمون الدين الحقيقي وهويته وتبنيهما. إن التعامل مع الدين على أنه آيديولوجية سياسية لهو أكبر خيانة تمارس بحق الدين، لأنه في هذه الحالة، يختزل الإسلام في مجموعة من المبادئ البسيطة ويضيق مساحته الرحبة. ولا بد هنا من الإشارة إلى أن هذا أثر من آثار الاستعمار الذي امتدّ على مدى عقود في المنطقة. وحقا، فإن الميل إلى اختزال الدين بآيديولوجية سياسية واللجوء إلى العنف تجده أكثر انتشارا في البلدان التي عانت من الاستعمار في ماضيها. وما يثير الفزع هو أن عنف هذه الجماعات المتطرّفة يحظى بتغطية إعلامية واسعة تحجب أصوات الغالبية العظمى من المسلمين التي ترفض ممارسة هذا العنف مطلقا. وأحيانا تتعمد بعض الأطراف إبراز هذه الجماعات المتطرفة ودفعها إلى الواجهة بنيات أو غايات سيئة ترمي إلى تشويه صورة الإسلام الناصعة.
الإسلام دين منفتح على الاجتهاد وصالحٌ لكل زمان ومكان. وهذه الميزة تحفظ الإسلام من محاولات ربطه بجغرافية أو عقلية معيّنة، بشرط أن لا تتعارض التفاسير والتأويلات مع جوهره وأصوله الثابتة. وفي هذا الإطار، عبر فترات مختلفة من التاريخ سُوّقت نماذج أبوية وقومية ودولية للإسلام ورُوّجت على أنها الإسلام الصحيح. وإذا كان التفسير الراديكالي للإسلام يعني العنف، فإن ظاهرة وجود مسلمين من السنة والشيعة يستخدمون العنف والإكراه وسيلة لتبليغ الإسلام ليست بجديدة. لقد وجد من نحا هذا النحو بين المسلمين طوال التاريخ، ولئن برز بعض هؤلاء في عالم السنة خلال الفترة الأخيرة فإن هذا لا يغيّر هذه الحقيقة التاريخية. أضف إلى ذلك أن الإعلام يميل إلى التركيز على مثل هؤلاء الناس والجماعات مقابل تهميش 99.5 في المائة من المسلمين الذين يرفضون هذه الجماعات المتطرّفة، الأمر الذي يشوه الصورة العامة للإسلام.
وبما أن الجماعات التي تتبنّى التفاسير الراديكالية، المتعاملة مع الإسلام كآيديولوجية، تتحمّس لفكرة الاستيلاء على الدولة وإعادة تشكيل المجتمع من أعلى إلى أسفل بأسلوب استبدادي… وبما أن الدولة الإيرانية الشيعية كانت ولا تزال رسميا وبفعالية، توظّف مثل هذا النموذج في الحكم منذ 1979م … فإن أنصار هذا النهج الشيعي، وإن كانوا من السنة، فهم يتصرّفون كـ”مَلِكيِّين أكثرَ من المَلِك”. بمعنى أنهم يجدون في الثورة الإيرانية الشيعية تجسيدا لمثلهم العليا. مثل هذه المظاهر المتطرفة قد تتطوّر وتشغل حيزا كبيرا في الظهور في أي مكان، ولا سيما إبان مواجهة الاستعمار والاحتلال.
أعتقد أنه إذا تمكّنت التيارات الإصلاحية الكبرى من أن تتحرّك بطريقة فطرية انسيابية -في جو من الحرّية- في القاعدة الشعبية الكبرى أي في السواد الأعظم دون الوقوع في شباك التسييس، فسوف تشكل محيطًا واسعًا تذوب فيه تلك المطالب الراديكالية مع مرور الوقت. إن قدرة الدين على تحقيق تحوّلات فردية وأخلاقية دائما أكثر تأثيرا واتساعا واستمرارية من التطبيقات السياسية والسلطوية. ولكن عندما لا يستفاد كليا من قدرة الإسلام على إفراز ديناميات التغيير الاجتماعي قد تنحرف مثل هذه الجماعات نحو تبنّي مواقف أكثر تسييسا وتطرفا. إن حركة “الخدمة” لا تهدف إلى تغيير المجتمع من أعلى إلى أسفل، بل تسعى إلى بناء الأفراد. التغيير يجب أن يبدأ من الفرد، فإذا استطعنا أن ننشئ أفرادا ومواطنين صالحين مجبولين على الإيثار والفضيلة فإنهم سينقلون المجتمع إلى مستقبل أكثر سلما واستقرارا وازدهارا. ومع هذا، فإننا لا نعلّق قلوبنا بالنتيجة ولا نتعجل قطف الثمرة بالدرجة الأولى.. فـ”الخدمة” تعمل على إنشاء حدائق وبساتين تنتج أفضل أنواع الثمار، ويأتي الناس بعد ذلك ليجنوا هذه الثمار ويعدّون منها الطعام الذي يحبّونه أو الحلوى التي يشتهونها أو المائدة التي يفضّلونها بمحض اختيارهم.
س: مهّدت الثورات العربية الطريق أمام نشوء التطرف والتفسيرات المحافظة للإسلام. باعتقادكم كيف لذلك أن يؤثر على وضع المرأة في المنطقة؟
ج: مع أنني لم أفهم السؤال تماما، أود أن أشير إلى أن الأحداث في تونس ومصر وسوريا شكلت في بدايتها بحثا عن مطالب في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات الأساسية. إلا أن الفئات التي برزت على الساحة فيما بعد، والأحداث المؤسفة، طغت على هذه المطالب الأولية. وللتوضيح لا يصح الخلْط بين المحافظة والتعصب. كأي دين آخر، للإسلام مجموعة من المبادئ الأساسية التي ينبغي الحفاظ عليها وصيانتها. وعندما نرجع إلى المصادر الإسلامية من أجل تحديد ما ينبغي المحافظة عليه من هذه المبادئ ينبغي أن نعتمد منهجا شاملا متكاملا بالإضافة إلى ما يتفتق عن الزمن الذي نعيش فيه من معان وتفاسير جديدة.
فيما يتعلق بالموضوع، كنت قد أشرت في وقت سابق إلى أن للمرأة الحق والحرية في المجتمع الإسلامي لتولي أي دور يناسبها حتى كَقاضية أو رئيسة وزراء أو رئيسة جمهورية. إن حرمان المرأة من حقها في التعليم وعزلَها عن الحياة الاجتماعية يشكل ضربة قوية لسلامة المجتمع الوظيفية. وكمحاولة لإثبات وجهة نظري رأينا أنه كانت هناك صحابيات في صدر الإسلام يتولين تعليم رجال من الصحابة المسائل الشرعية والتجارية، وكنّ مراجع في الفقه الإسلامي. إن المقاربات المناقضة لهذه المقاربة إنما هي نتيجة غلبة بعض التأويلات الرجولية لبعض المصادر الإسلامية. للأسف، الثقافات الرجولية ساهمت بشكل كبير في تآكل المكانة العادلة السامية التي منحها الإسلام للمرأة وطبقها النبي طيلة العهد النبوي. ومن ثم أصبحت المرأة تُعامَل كفرد من الدرجة الثانية. ورغم وجود نماذج نسائية عظيمة مثل السيدة خديجة التي كانت سيدة أعمال، والسيدة عائشة التي قامت بتعليم بعض الصحابة من الرجال شؤونَ الدين.. رغم ذلك نحن –مسلمي هذا العصر– نُكرِه المرأة على البقاء في المنزل ونكلفها بتربية الأطفال فحسب. أجل، مع أهمية تربية الأطفال، فإن النساء لا يتمتعن بالاحترام داخل العائلات والمجتمعات الإسلامية. المرأة تبقى متخلفة عن الرجل في مجالات التعليم والمنجزات الثقافية. ولكن الجدير بالذكر أن العبودية اختفت من التاريخ، ولا أحد اليوم يطالب بإعادتها، استنادا إلى أسس من الفقه الإسلامي التقليدي.. فلماذا لا نفعّل المنهج التقدمي ذاته في الرؤية الفقهية على وضع المرأة من دون أن يكون في الأمر أي تعارض مع جوهر ومبادئ الإسلام الأساسية.
الوسيلة الوحيدة لتجنب هذه التفاسير المتطرفة هي أن نأخذ عصر النبي والأجيال الثلاثة التي تبعته كأساس في عملية إعادة التفسير والاجتهاد اليوم، من أجل التخلص من الثقافة الرجولية وتأمين تعليمٍ أفضلَ للنساء، وتحسين واقع المرأة الاجتماعي والاقتصادي، وتمكينها من أن تكون قادرة على الدفاع عن حقوقها.
س: برأيكم كيف سيؤثر الصعود والهبوط المفاجئ لـ”الإخوان المسلمين” في مصر على الإسلام السياسي في المنطقة؟
ج: إن مصر من أهمّ مراكز الإسلام السنّي، ولديها خبرة عريقة وتجربة عميقة في إدارة الدولة والسياسة. ومن الضروري لمن يطمح في حكم مصر أن يحترم القيم الديمقراطية وسيادة القانون؛ لأنه بلد يحتوي على ديانات ومذاهب وثقافات مختلفة. كما ينبغي احترام حساسيات كل الشرائح المجتمعية وتحاشي تعريض أي منها إلى أي مظالم، والإنصات إلى مطالبها المشروعة، لتحقيق الأمن والاستقرار في البلاد.
إن حزبا جاء إلى الحكم نتيجة انتخابات مشروعة ديمقراطية ثم أُطِيح به، ليس من السهل توجيه النقد إليه. كان المرجوّ أن يُترك الأمر إلى الناخبين ليحاسبوه ويعاقبوه إذا كانت له أخطاء سياسية. وإن الدفاع عن تدخّل كهذا مناقض للديمقراطية ومبادئها. وما زاد من صعوبة وضع الإخوان أنهم –على ما أعتقد– تسلموا السلطة في ظرفٍ غاية في الهشاشة، إضافة إلى نقص في البنية التحتية والخبرة اللازمة. وربما لم يكونوا جاهزين بما فيه الكفاية. وفي نهاية المطاف تظل جماعة الإخوان حركة من صميم المجتمع المصري، وستقوم بمراجعة ذاتية جديدة في ضوء التجارب الأخيرة.
س: ما هو كتابكم المثالي من بين مؤلفاتكم؟
ج: أستغفر الله.. لم أرَ أبدا أي كتاب من كتبي ذا أهمية، إلا أن الناس أحسنوا الظنّ بها وأقبلوا عليها. طوال حياتي حاولتُ أن أوظّف هذا الإقبال والتفاعل الإيجابي –الذي لا أستحقه أبدا– في توجيه أنظار الناس إلى الله تعالى والرسول الأعظم والأنبياء الكرام والعلماء والصالحين، وفي تحبيبهم إلى الناس. كذلك حاولتُ بقدرتي العقلية المحدودة قراءةَ أمراء البيان وأساطين العلم وفهْمَهم، ودعوتُ الناس إلى ذلك. فماضينا مليء بعمالقة الفكر والروح مثل الإمام الغزالي ومولانا جلال الدين الرومي ويونس أمره ومحمد عاكف وبديع الزمان سعيد النورسي وغيرهم ممن كانت أعمالهم وكلماتهم من أروع ما قيل وكتب عبر التاريخ.
[1] جريدة الشرق الأوسط، 24-25 آذار/مارس 2014.
[2] الخدمة: اسم يُطلق على النهج الذي يتبناه فتح الله كولن ومحبوه في خدمة الإسلام والإنسانية، فهي اختصار لـ”خدمة الإيمان والقرآن”.
[3] قررت الحكومة التركية في أواخر عام 2013م إغلاق كافة المعاهد التحضيرية المنتشرة في أنحاء تركيا، والمعاهد التحضيرية التابعة للخدمة تتفوق على غيرها من حيث النظام وجودة التعليم.