أ. القرآن تفسيرٌ لِكتاب الكون
لا بدَّ لكتابِ الكونِ هذا -الذي رُصِفت سطورُه وصفحاتُهُ بِدِقَّةٍ وانتظام- من قارئٍ يقرؤُهُ ويُمعِنُ النظرَ فيه، وهذا القارئ هو الإنسان، والذي يفسِّرُ للإنسانِ هذا الكتاب ويُساعِده على فهمِهِ هو القرآن، فالله مِن فضله أنعمَ بالقرآن الكريم -الذي هو ترجمةُ هذا الكتاب وتفسيرُه- على الإنسان الذي لا يستطيع أن يُدرِكَ ويستوعبَ تلك المعاني الكبيرة العميقة التي يحتويها كتابُ الكون، فلا يمكننا أن نلحظ هذه المعاني الكبيرة لأوَّلِ وهلةٍ على صفحات الكون العريضة وطبقاتها الشاسعة، ويمكن رؤيتُها في القرآن الكريم على شكل فهرس، وهذا في الوقت نفسه لون آخر من رحمة الله بالإنسان؛ لأن الذي خلق الكون هو الله، والذي جعل كتاب الكون يتحدَّث عن نفسه هو الله؛ فكما أن أحكامَ غير الله في حقِّ الكون تحتمِلُ الخطأَ؛ فكذلك الحُكم حول الإنسان.
إن الكون ملك الله… والقرآن كلام الله… والإنسان عبد الله… والذي يؤسّس العلاقة بين هذه العناصرِ الثلاثه هو الله… وفي هذا السياق يقول الله: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِۤي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ (سورة فُصِّلَتْ: 41/53).
يعني -والله أعلم- أن الناسَ مهما حاولوا أن يتخصَّصوا في أيّ علمٍ من العلوم، فإننا سنوضّح لهم من خلال هذه العلوم بكلِّ وضوحٍ وجلاءٍ آياتِنا في الآفاق وفي أنفسهم، وسيُخبِرهم العِلْمُ بأنَّ ماهيَّةَ الإنسانِ ليست عبثًا أو دون نظام، وأن الفرضيات والنظريات الأخرى المطروحة في هذا المجال خاليةٌ عن أيِّ سندٍ أو دليل، وأن هناك وراءَ لُغْزِ الإنسانِ حقائقَ، وأنهم سيستشعرون بهذه الحقائق في أنفسِهم، والذين يُدَقِّقُون في الكون من شتى جوانِبِهِ سيستشعرون هذه الحقائق ناصعةً جليَّةً، وسيُطْلِعون الآخرين على ما عَثَرُوا عليه من حقائق.
إن القوانين المختلِفَةَ الموجودةَ في الكون تُسَمَّى “الآيات التكوينيّة”، ومهما كانت أسماءُ هذه القوانين فلن تؤثّر على ماهية الأمر… وكلُّ قانونٍ من هذه القوانين آيةٌ من آيات الله تعالى، فالقرآنُ الذي هو نابعٌ من صفة الله: “الكلام”؛ إنما هو ترجمانٌ أبديٌّ لهذه “الآيات التكوينية” النابعة من صفة الله تعالى: “التكوين”.
نعم، إن القرآن يقف على الكون متحدِّثًا عنه فيقول: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمٰوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/190)… فخلْقُ السماوات والأرض، وتَداوُلُ الليل والنهار في انتظام واطِّراد، والمناسبةُ بين السماء والأرض بتبخُّر مياهِ البحار وإنزال السماء قطراتِ الغيث على الأرض المحتاجةِ إلى الماء، وشقُّ النبات للتراب وخروجُه إلى وجه الأرض بارزًا، ونموُّ كلِّ شيءٍ حسب قانون النشوء والنماء… كلُّ ذلك من آيات الله تعالى، فالقرآن يُفَسِّرُ لنا شتّى آيات الله وقوانينَه الساريةَ في الكون ويبيّنُها لنا.
والآن لنتطرَّق -ولو بإيجازٍ- لكيفيةِ شرحِ القرآن لهذه الآيات:
1- معجزةُ اللبَنِ:
﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَۤائِغًا للِشَّارِبِينَ﴾ (سورة النَّحْلِ: 16/66).
إن الأغذية التي يتناولها الحيوان تُلبي حاجةَ جسمِهِ من البروتين والفيتامين والكالسيوم والحديد وغير ذلك… وأيُّ نقصٍ في واحدةٍ من هذه يؤدّي إلى بعض الأعراض الجانبيّة في الجِسْمِ، وإذا حان الوقت المحدَّدُ فإنّ الله يستخرِجُ من بين لحمِ هذا الحيوان ودمِهِ وعروقِه وشرايينِه وأعصابهِ لبنًا مستساغًا لذيذَ المذاق.
والمواد التي يأكلها الحيوان بعضُها يتحلَّلُ في فمِهِ وبعضُها في معدَتِهِ، ومعظمُها يُهضَمُ عَبر الأمعاء الدقيقة، وبعد أن تتمّ عملية امتصاصها من قِبَل الشُّعيرات الموجودة في الأمعاء، تمرّ مع الدم من خلال الغدد الحليبية، فتخضع لعمليّةِ تصفيةٍ ثانيةٍ، وبعضُ المواد المغذية تُساق إلى المراكز التي تحتاج إليها، وتوزَّع في الخلايا حسب الحاجة، وبعضها يصير لبنًا في الغدد الحليبية، وهذا اللبن يذهب بعد ذلك ويتجمَّعُ في الثدي، ونحن نحلب هذا اللبن الذي هو بالنسبة لنا مصدر البروتين ونشربه فيمنحنا الطاقة.
وهذا الأمر الذي عرضناه باختصار هو ظاهرةٌ يعترف بها العلمُ والمشاهدةُ والاستقراء، أي إنه أمر يقول به البحث العلمي…
والآن، تعالوا بنا نُلْقِ نظرةً على الآية المتعلقة بالموضوع، في ضوء هذه المشاهدات العلمية:
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ (أي في حياتها وكيفية تناوُلِها الغذاءَ) لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ (أي من بعضه لا كله، فـ”مِن” في قوله “مِمَّا” للتبعيض)، ثم تشرح لنا الآيةُ كيف يتكوّن ما في بطونِ الأنعام فتقول: مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ (أي إن هنالك شيئين: الفرث والدم، فالفرزُ الأول يكون من بينهما، والفرز الثاني يكون في الدم خاصّة؛ فالمواد المغذّية تتحوَّل إلى دمٍ تمتصَّه الأمعاء، ثمَّ تبدأ الغدد الحليبيّة بممارسةِ مهامّها وتصفية الدم واستخراجِ الحليب منه، وهذه هي عمليّة التصفية الثانية)، “لَبَنًا خَالِصًا” (أي يكون لبنًا نظيفًا بكلّ معنى الكلمة، صافيًا خالصًا من الشوائب).
فالمادة التي تخرج من الفرث يَعافُها الإنسان، ولكي يزيل القرآنُ هذا قال أولا: “خَالِصًا”… ومن جانب آخر قد يُخَيَّلُ للمرءِ أنه غير مستساغٍ لأنه يخرجُ من بين الفرثِ والدمِ وأن الشاربَ سيَغَصُّ به، قال: “سَائِغًا للِشَّارِبِينَ”، فاللبنُ يخرجُ من بين الفرثِ والدمِ لكنَّه لا يحمل أيَّةَ صفةٍ كريهةٍ لا من الفرث ولا من الدم.
فالرسول كان أمِّيًّا لا يقرأ ولا يكتبُ، وقد أجمعَ على ذلك كلّ مَن عاصره، من مؤمنٍ وكافرٍ ومنافقٍ، كانوا متَّفقين على أنه لا يعرفُ القراءةَ ولا الكتابة، ورغم أمِّيَّتِهِ نسمعُ آياتٍ كهذه صدرت من فمِهِ المبارك، وبعد أربعة عشر قرنًا نرى أن هذه الآيات تشير إلى حقائق علمية لا يمكن إدراكها إلا عن طريق الأشعة أو البحث العلميّ الدقيق!
فهذه الحقيقة تدل بكل نَصَاعةٍ ووضوحٍ على أن القرآن كلامُ علّامِ الغيوبِ سبحانه وتعالى، وبنظرةٍ خاطفةٍ يمكن للإنسانِ التحقُّقُ من هذا الأمر، شريطةَ أن يتحرَّرَ من الأحكام المسبقة.
2- تقلّ نسبةُ الأكسجين كلما صعد الإنسان إلى الأعلى
﴿فَمَنْ يُرِدِ اللّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَۤاءِ كَذٰلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ (سورة الأَنْعَامِ: 6/125).
أي مَن أراد الله هدايته مِن الذين استعملوا إرادتهم في الخير؛ بَعث في قلبه الطمأنينةَ وجعله يستسيغ الإسلام، ومن أراد ضلالتَه مِن الذين استعملوا إرادتهم في الشر؛ ضيَّق صدرَه كالذي يكابِدُ مشاقَّ الصعود إلى السماء، فالأوَّلُ سيطمئن قلبه ويهدأُ فؤادُه بالإسلام، والثاني سيظلُّ متخبِّطًا في حالاتٍ من القلق والاضطراب.
لكنَّ القرآن صورَ حالةَ الأخيرِ بطريقةٍ فريدةٍ وتشبيهٍ بديعٍ لم يُسبَق إليه، فقال: ﴿كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَۤاءِ﴾ أي تتقطَّعُ أنفاسه ويبَحُّ صوتُه ويضيقُ صدرُه كأنه يعاني من قلّة الهواء وندرةِ الأوكسجين.
فنلاحظ في هذه الآية تشبيهًا، ومن المسلَّمِ به أنَّ وجهَ الشَّبَهِ لا بدَّ أن يكون أقوى وأوضح في المشبَّه به منه في المشبَّه، فنحن إذا أردنا أن نتحدَّثَ عن صفاء الجوِّ وقلنا: “الجوّ هنا مثل الجوّ في المريخ” لم نأتِ بمثالٍ يفي بالغرض، لكن يفيد المخاطبَ ما يحكيه المتكلِّمُ عما تحقَّق منه وعاينه بحيث صار واضحًا عنده.
فالقرآن في هذه الآية يشبِّه ضِيقَ الصدر بشيءٍ مجهولٍ لأهلِ ذلك الزمان، لكنَّ ذاتَ الشيءِ توصلَت إليه البشرية عن طريق البحثِ العلمي إلى أنّه قانون علميٌّ صرف.
وما اختاره القرآنُ من الكلمات يعين على المعنى، منها:
طبيعة كلمة “يَصَّعَّد”، حيث إن هذه الصيغة تدلُّ على التكلُّف، فتفيد أن هناك معاناة وإرهاقًا.
المدّ في كلمة “السماء” يُشعر عند تلفُّظها بما يَشعُر به من يصعد إلى السماء.
والجملة بصياغتها وطبيعتها تعطي هذا الشعور، وتخلقُ هذا المناخ.
ولم يكن أحد يعرف آنذاك أنَّ صدر الإنسان يضيقُ وتتقطَّع أنفاسُه كلّما صعد وارتفعَ إلى الأعالي، وهذه الحقيقة إنما تَبَيَّنت بعد أن استفاد الناس من تقنيّات القرن العشرين وقاموا برحلاتٍ جوّيّة بواسطةِ المناطيد والطائرات.
والقرآن الكريم حينما تحدَّث قبل أربعة عشر قرنًا من الزمان عن ضِيق صدر الإنسان غير المؤمن استَعمل تشبيهًا لطيفًا، وأشار بأسلوب يليقُ بمقامِهِ السامي إلى أن نسبة الأكسجين تقلُّ تدريجيًّا كلّما صعد الإنسان إلى الأعلى.
وهكذا يبين القرآن ما يعانيه إنسانُ عصرنا هذا من شتى أنواع الاكتئابات والإرهاقات الروحيّة والنفسيّة، فيخاطبنا نحن بالذات، لأن إنسان هذا العصر يمكنه أن يَعرف هذه الحقيقة العلميّة.
3- خَلْقُ كلِّ شيء زوجين
يقول الله U: ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (سورة الذَّارِيَاتِ: 51/49).
إن لفظة “كُلّ” إذا أُضيفت إلى معرفةٍ أفادت عموم الأجزاء، وإذا أضيفت إلى نكرة أفادت عموم الأفراد، بمعنى أن كلَّ فردٍ من أفراد المضاف إليه يدخل تحت الحكم، فـكلمة “شيء” في هذه الآية نكرةٌ تعمُّ كلَّ الموجودات، وهذه الكلمة تأتي بمعنى “موجود” لذا يصح إطلاقُه على الله تعالى أيضًا باعتبارِهِ موجودًا بل واجب الوجود، ولكن بما أن المتكلم هنا هو الله تعالى فهو خارج عن هذا الحكم، فما عدا الله تعالى من الموجودات خَلقَه اللهُ زوجين.
فكما أن هذا الحكم جارٍ على بني الإنسان فكذلك على سائر الحيوانات، والنباتاتُ كذلك خُلِقَتْ زوجين؛ فيها الذكر وفيها الأنثى، حتى إن الذرَّات التي هي المادة الأصليّة لكلِّ الأشياء زوجان: موجبٌ وسالبٌ، وتتجلّى الزوجية في الأشياء من جانب آخر وهو وجود القوّة الجاذبة والدافعة في كلِّ شيءٍ، إذ لو انعدمت هذه الخاصية من الأشياء لم يكن بمقدور الموجودات أن تحافِظَ على استمراريّة وجودِها.
وقولُه تعالى في سورة يس: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ﴾ (سورة يس: 36/36) يبين هذه الحقيقة بمزيد من التفصيل.
فمِن الملاحَظ أن هناك أمورًا يشير إليها القرآن كانت خارجَ نطاقِ ما يشاهده المخاطَبون الأوّلون بالوحي في تلك المرحلة، ولم تكن معلومةً في تلك الحقبة، فيقالُ لهم: إن هناك أشياء أخرى لا تعلمونها قد خلقها الله “زوجين”، ولم تكن الذرّة والإلكترون والنترون والبروتون معروفةً في ذلك الوقت، وأما في زماننا فقد ظهرت حقيقةُ أن قِوام كلِّ موجود إنما هو بما يشتمل عليه من الأزواج، وأنها تتعانق وتتآزر حتى يظلَّ النظام قائمًا ودائمًا، ولسنا ندري بماذا سيأتي لنا علم الفيزياء الذرّية في قابل الأيام.
4- عالَم الذَّرَّة
يقول الله تعالى: ﴿لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمٰوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَۤا أَصْغَرُ مِنْ ذٰلِكَ وَلَۤا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ (سورة سَبَأٍ: 34/3).
إن هذه الآية تُبيِّن -أوّلًا وبالذات- أنه لا يخفى على اللهِ تعالى شيءٌ، ولا يخرج عن حدود إحاطة علمه وسمعه وبصره شيءٌ. نعم، إن كلَّ شيءٍ -بدءًا من أدقِّ العوالمِ الذَّرية وأصغرِها، وانتهاءً بعوالم أكبر الأجرام السماوية- لهي في يدِ قدرتِهِ بمثابة خرزات السُّبحة يقلبها كيف يشاء، فالآية تحدِّثنا عن هذا، ولكنها في الوقت نفسه تلْفِت أنظارنا إلى بعض الحقائق العلمية.
والذرة هي في لغة عصرنا -كما في لغة السابقين- تعني ما يسمونه (Athom)، ولكن الناس في العصور الغابرة من حيث إنهم ما كانوا يعرفون حقيقة الذرة كانوا يفهمونها على أنها أجزاء الغبار التي تلوح أمام النوافذ إذا دخل منها أشعة الشمس، لأنها كانت أصغرَ أجزاء المادّة في نظرهم في تلك الأزمان، والذي يهمّنا هنا هو إطلاق هذه الكلمة على أصغرِ أجزاء المادة.
ولكن في زماننا هذا صارت كلمة الذرة تُطلَق تماما على ما يسمونه (Athom)، ومما يجلب النظر في هذا المقام أربع تعبيرات:
الأول: “الذرة” أي (Athom).
والثاني: ما هو أصغر من الذرة ومن مكوِّناتها، وهو “الإلكترون”.
والثالث: ما هو أكبر من الذرة، وهو “الجُزَيْء”.
والرابع: تعبير “مثقال ذرة” ويشير -والله أعلم- إلى “الوزن الذَّرِّى”.
فلن يخرج شيءٌ عن دائرة إحاطة علم الله تعالى؛ سواء كان ذلك ذرةً أو إلكترونًا أو جُزَيْـئًا.
وأما عن “مثقال ذرة” فمِن المعلوم أن موضوع الوزن الذرّي من الأهمّيّة بمكان في علم “الفيزياء الذرية”. والعلماء في الماضي كانوا قد وضعوا على الهيدروجين رقم (1) وعلى اليورانيوم رقم (228)، فالوزن الذرّي للهيدروجين هو الأخفّ، في حين أن الوزن الذري لليورانيوم هو الأثقل.
إن العلم الحديث وَضَعَ ضوابطَ وأصولًا لِما أشار إليه القرآن قبل عصور من اكتشاف الوزن الذرّي، وبيَّن الوزنَ الذرّي لكل واحد من المواد (العناصر).
وفي الآيات الثلاث الأولى من سورة الذاريات ما يلقي الضوء على هذا الموضوع بإشارتها؛ قال تعالى:
﴿وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا﴾ أي أُقسم باللواتي تذرو الترابَ وتُثير الغبار… والنظريةُ الإلكترونية التي وضعها لورنز تقول: إن المحورَ المتناهيَ الصِّغَرِ للذرة يُشْبِهُ المنظومةَ الشمسيَّةَ، وكأنه منظومةٌ شمسيّة صغيرة.
وقُطرُ ذرّة الهيدروجين التي هي أخفّ الذرات وزنًا، هو عشرة بالمليون للميليمتر، وفي مركزه نواةٌ محمَّلةٌ بتيَّارٍ كهربائيٍّ موجبٍ، وفي حواليه إلكتروناتٌ محمَّلةٌ بتيَّارٍ كهربائيٍّ سالبٍ، وهذه الألكترونات محيطة بالنواة على شكل سحابةٍ، ويدور إلكترونُ الهيدروجينِ بسرعةِ حوالي ألفي كيلومتر في ثانيةٍ واحدةٍ، بينما يدور إلكترون اليورانيوم بسرعة مئتي كيلومتر… وكان من المفترَضِ أن تنعدم هذه الطاقةُ شيئًا فشيئًا، وأن تنعدم -بالتالي- الحركةُ بسبب ذلك بعد مدَّةٍ وتتوقَّفَ، ولكن لم يحصل شيءٌ من ذلك.
﴿فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا﴾ أي أُقسِم باللواتي تحملُ أحمالًا ثقيلةً، والتيَّار الموجبُ الذي في النواة يكونُ في البروتون لأنه هو الذي سيتحمَّلُ الثقل، وأما النترون فمن المعلوم أنها لا تيّار فيها.
﴿فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا﴾ أي التي تجري بسهولة.
والنترونات على نوعين:
منها ما هو في غايةِ السرعة الفائقة، وتقرُب سرعتُها من سرعة الضوء، وتملكُ طاقة هائلةً بحيث إن منها ما يثقبُ اللائحات الرصاصيّة التي سَمْكُها ثلاثون سنتيمتر، وتمرّ من خلالها بسهولة.
وقسمٌ آخر من النترونات بطيئة، سرعتها تفوق سرعة الجزيئات قليلًا، فهي تُضبط مِن قِبَل النواة التي تَمُر هي بها في طريقها، فتنشطر النواة، فتتولَّد من التيار الذي يحصل نتيجة هذا التفاعل نتروناتٌ تتراوح سرعتُها بين (5-10) مليون إلكترون فولت (electronvolt=e)، ففي قوله تعالى ﴿فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا﴾ إشارة إلى هذا -والله أعلم-.
5- السحاب – الرياح – اللقاح – والمطر
إن الهواء يمتصُّ النداوة والرطوبة بنسبةِ حرارتِهِ، والهواءُ الحارُّ حينما يلتقي بطبقةٍ دافئةٍ فإنه سرعان ما يمرّ عبرها بسهولةٍ ومن دون عراقيل، وكثافةُ الهواء تتناسبُ عكسيًّا مع الحرارة، بمعنى أن الهواء حينما يتعرَّض لعمليّة التسخين يصير أخفّ مما حوله من الهواء العادي، وينبعثُ إلى الأعالي، وكلّما انبعث إلى الأعالي ووَجَدَ بيئة تُمَكِّنه من التوسع توسَّعَ، وهو يحتاج إلى الطاقة حتى يتوسع، ويؤمِّنُ هذه الطاقةَ من حرارته، ويظلُّ يرتفع إلى الأعالى في إطار هذا القانون، فهو يتوسّع مِن جانبٍ، وكلّما توسع استَهلك الطاقةَ، وَفَقَدَ مِن حرارته، وكلما فَقَدَ الطاقةَ صَعِد إلى الأعالي، ووصل إلى نقطة الندى، وكلّما كانت حالةُ الجوّ غير مستقرّة كلّما صعد إلى الأعلى أكثر… -وما أروع ما يراه راكبُ الطائرة حينما ينظر مِن عَلٍ فيُشاهِدُ مَنظرَ السحبِ على هيئة الجبال، وتبدو كأنها ركامات من القطن المندوف!- وإذا توقفت السحبُ في موطنٍ واستقرَّت فيه، وانتهى صعودها وهبوطها، فهذا يعني أن السماء ستُمْطِر وستعصف العواصف، وأحيانًا يصعدُ الجوُّ الدافِئُ إلى أعلى من هذه المرحلة نتيجةَ التضييقِ، فيأخذُ شكلَ سندانٍ أو ربوةٍ، ويكون التضييقُ هناك أشد وأكثر…
والقرآن يقول: ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ﴾ (سورة الْحِجْرِ: 15/22).
الرياح تقوم بوظائف كثيرة، فتلقيح النبات كما أنه يتحقّق عن طريق بعض الحشرات وطرائقَ أخرى، فإنه يتحقق بواسطة الرياح أيضًا، إذا تناولنا أول الآية فقط (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ) نفهم منه هذا المعنى أيضًا، وأمرُ لقاح النبات عن طريق الرياح كان معروفًا ومشهورًا منذ زمنٍ بعيدٍ، إلا أن أمرًا بقي مستورًا خفيًّا لم يكشف العلمُ اللثامَ عن وجهِه إلا في أيامنا العلميّة هذه، وتُشير إليه الجملة التالية: (فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ)، وحملُ اللقاح في هذا السياق على لقاح النبات والشجرِ غيرُ مناسب؛ لأن ذِكر نزول المطر في سياق ذكر النبات ولقاحِه أمرٌ لا يتناسب مع أسلوب القرآن المتناسِبِ الراقي الجذاب، فالفاء في قوله “فَأَنْزَلْنَا” يدلّ على أن نزولَ المطرِ يترتَّب على هذا اللقاح، وهو أمرٌ مختلفٌ تمامًا عن لقاح النبات.
وقولُه تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ﴾ (سورة النُّورِ: 24/43) يدلُّنا على هذا المعنى بشكلٍ أوضح ومن منظار آخر.
“أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحَابًا” أي يسوق قِطَعَ السُّحُب، ومن يتابع مراحلَ تَشَكُّلِ السحب يَفهم ما في تعبير “الإزجاء” من “الدفعِ بلطف”.
“ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ” أي بين السحاب، والتأليفُ يكون بالتوفيق بين شيئين مختلفين والجمعِ بينهما.
“ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا”، وأجزاءُ السحب في الجو متقطِّعَةٌ ومنفردة لا تَجاذُبَ فيما بينها لأنها محمَّلة بنفس القطب الكهربائي، وبعد ما يتم اللقاح بينها بواسطة الرياح تتجمعُ فتصير: “رُكَامًا”.
“فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ” أي فإذا بك تَرى المطرَ يتقطر من خلال أجزاء السحاب الركام بعدما تمّ الوصول إلى نقطة الندى.
“وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَۤاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ”، إنَّ وَضْعَ البرَدِ مختلفٌ؛ فهو لا ينزل من حيث ينزل المطر؛ فإنه يتشكل في أعالي السحب في المناطق التي تُشْبِه في شكلها ذُرى الجبال والتي يصل فيها الضغط أقصى حدوده، حيث إن قطراتِ الأمطار تَبقَى مترددة، ولا تستطيع النزول إلى الأسفل من شدة الضغط، ولِأنها تبقى في الطبقة الباردة فإنها تتجمَّدُ، وكثيرًا ما يؤدّي تردُّدُها في تلك الطبقة إلى أن تصير حبّاتُها كبيرةً في فترة نزولِها.
والقرآنُ الكريم في هذه الآية يصرح بأن الطبقة التي ينزل منها المطر تختلف عن الطبقة التي ينزل منها البَرَد.
ونستفيد من روح الآيتين الكريمتين أن القرآن يقول لنا: إنا أرسلنا الرياح لتؤلِّفَ بين أجزاء السحبِ المحمَّلة بالطاقة الموجبة وبين السُّحُبِ المحمَّلَةِ بالطاقة السالبة، ولتلقِّحَ بينها، فلو لم تؤلِّف بين أجزاء السحاب المحمَّلة بِطاقتين مضادتين لم ينزل المطر من السماء إطلاقًا، وسواء أكان التأليف بين قطرات المطر الموجبة والسالبة أم بين أجزاء السحاب الموجبة والسالبة، فإن كل ذلك يتحقَّقُ بتأليف من الله تعالى.
6- توسيع السماء
يقول الله تعالى: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ (سورة الذَّارِيَاتِ: 51/47).
معلومٌ أنَّ الجملة الاسمية تفيدُ الثبوت والدوام، وقولُه تعالى: ﴿وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ جملةٌ اسميّة غير منحصرة في زمان معين، بل تعمّ الماضي والحال والاستقبال، فليس المراد هنا “أوسعناها” أو “نوسعها الآن” أو “سنوسعها في المستقبل” فقط، بل المراد -والله أعلم- عموم الكل، أي إنَّ توسيعنا لها ما زال مستمرًّا على الدوام وبدون توقُّف منذ بنائها… وقد كَشَف عالِمُ الفضاء “هبل” (Edwin Hubble) سنة (1922م) أن المجرات -باستثناء أقرب خمس أو ست مجرات- تتباعد عن الأرض بسرعة متناسبة طرديًّا مع المسافة بينها وبين الأرض، وحسب ما قاله “هبل” فإن السحابية (السديم) التي تبعد عنا مسافة مليون سنة ضوئيّة تبتعد عنّا في سنة واحدة بسرعة (168) كيلومتر، والتي تبعُد عنا بمسافة مليوني سنة ضوئية تبتعد عنا في السنّة الواحدة ثلاثة أضعاف ذلك… وهذا يدلّ على أن الكون في حالةِ تَوَسُّعٍ (expansion)، كما ادّعاه عالِم الرياضيات البلجيكي الراهب (جورج لومتر) (Georges Lemaître)…
وقضيةُ “توسُّعِ الكون” التي لا تزال تحتفظ بمكانتها في المحافل العلمية قد عبَّر عنها القرآن الكريم قبل أربعة عشر قرنًا… وكان يجدرُ بكافة المحافل العلمية وعالَم المعارف والعلوم أن يعلنوا تَـتَلْمُذَهم على يد القرآن فيخرّوا سجَّدًا حائرين أمام عظَمَةِ هذه الحقيقة العلمية، ولكن -يا للأسف- ما كان منهم إلا أن أصرُّوا على كفرانهم وجحودهم.
7- كُرويةُ الأرض
يقول الله تعالى: ﴿يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ﴾ (سورة الزُّمَرِ: 39/5).
شكلُ الأرض كرويٌّ مفلطحٌ عند القطبين، والتكويرُ في العربية يعني لفَّ الشيءِ على شيءٍ دائريّ ككوَّرَ العمامةَ، والدورانَ حول دائرة، فمعنى الآية -والله أعلم-: يلفّ الليلَ على النهار والنهارَ على الليل، فـ”التكوير” يُعَبِّر عن كرويّة الأرض.
وفي سورة النازعات: ﴿وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ (سورة النَّازِعَاتِ: 79/30)، و”الدَّحو”: البَسْط، ومنه: “الأدْحِيَّةُ أو الأدْحُوَّةُ”: الموضع الذي تبيض فيه النَّعامة، وفي اختيار هذه الكلمة إشارة إلى أن الله تعالى بعدما وضع السماوات في نظامٍ معيَّنٍ، بَسطَ الأرضَ على هيئةِ بيض النعام أي بيضاوية، فالأرض كرةٌ مفلطحةٌ عند القطبين على هيئة بيض النعامة.
8- انفصال السموات والأرض وانفتاقُهما
قال الله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا﴾ (سورة الأَنْبِيَاءِ: 21/30).
في الفضاء سُدُم (Nebuleuse) كثيرة: فمنها ما هو شبهُ مائي لا شكل له، ومنها ما هو شبه دائري، ومنها المسطح واسع الأقطار، ومنها الحلزوني… إلى أشكال عديدة معروضة أمام الأنظار… وكما أن الله جلَّتْ قدرتُهُ قد جَعَلَ من هذه السدم الهائلة مجموعاتٍ نجميّةً، كذلك جَعل منها منظومةً شمسيَّة.
فمِن المحتمل أن منظومتنا كانت سديما بخاريَّا، وعلى مرّ الزمن فَقَدَتْ هذه الكتلةُ الغازيةُ -بإرادة الله تعالى- حرارتَها فانكمشت، وزادت سرعةُ دورانها، وبسبب زيادة سرعة الدوران وبتأثير قوَّةِ الطردِ المركزيّ هذا تفكَّكت الكتلة الأصلية الحلزونيةُ الشكلِ وانقشعت، فخلق الله تعالى الكواكبَ السيارات من هذه الأجزاء، فبتأثيرٍ من جاذبية الشمس التي هي في الوسط جعلها تدور حول الشمس، وجعلها تدورُ حول أنفسها أيضا.
فـ”الرَّتْق” في اللغة: الضمّ والالتحام، وهي توحي بمعانٍ: “الكتلة المائعة، المادة اللَّزِجَة، المادة التي يجذب بعضها بعضًا”، وحينما يقال: إن السموات والأرض كانتا كُلًّا مجتمعا، في حالة مائعة أو غازية، يكون المراد بـ”فَفَتَقْنَاهُمَا”: فتحناهما وجزَّأناهما وفصلناهما عن بعضِهما.
وكلمةُ “فتق” تشير أيضًا إلى أن السماء كانت جافَّةً لا تُمطِر، والأرض قاحلةً لا تُنبِتْ، ففتقهما؛ أي فتقَ السماءَ بالمطر والأرضَ بالنبات بإنشاء علاقة بينهما، فجَعل الأرض مُنبِتةً ملائمةً لعيش الأحياء عليها، والسماء ممطرة مانحة.
و”الكافر” هو الذي يَكْذِب تجاه وجدانه وضميرِه، ويَكبت استعداداته وقابليّاته، ويتناقض مع قلبه… ومن المحقق أن القرآن الكريم حينما يقول: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فإنه لا يقصد بذلك أولئك الكفرة الذين عاشوا قبل أربعة عشر قرنًا فقط، الذين كانوا عاجزين عن رؤية مَواطئِ أقدامِهم، ولم يكونوا قد خرجوا خارج حدود الصحراء، وكانوا يحاولون أن يفهموا عالم النجوم بالاعتماد على مجرد المشاهدة بالعيون، فإن إنسانَ ذلك العصر لم يكن له أن يفهمَ من هذا الكلام معنًى في مستوى ما يفهمه إنسانُ عصرِنا، فـ”الَّذِينَ كَفَرُوا” في الآية تتناول كفارَ عصرِنا الذين يتعامَوْن عن الحقائق أكثرَ من كفارِ تلك العصور.
9- خَلْقُ كل شيء من الماء
ويقول الله تعالى في الآية نفسها: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ﴾ (سورة الأَنْبِيَاءِ: 21/30).
إن الماء هو أهم عنصر في خلق الحيوان والنبات، بدءًا من أصغر خليّة وسلاسلِ بروتيناتها، وانتهاءً بأكبر أشجار الصنوبر بــِ”كاليفورنيا”، ولا يمكن تصوُّر الحياة بمعزل عن الماء، لأنَّ الحياة -بأمرٍ مِن الحي القيوم- تكونت حول المياه.
إن القضايا التي تَطَرَّقْنا إليها آنفًا -ولو بشكلٍ وجيزٍ- تؤكِّد حقيقةً واحدةً، وهي: أن الله جعلَ الكونَ يتحدَّثُ عن نفسِهِ، وجعلَ القرآنَ ترجمانًا له.
ب. القرآنُ مفتاحُ خزائنِ الأسماء الإلهية
إن القرآن الكريم كما أنه ترجمانٌ للآيات التكوينيّة، كذلك يَكشِف عن الأسماء الإلهية المكنونة في السموات والأرض ونَفْسِ الإنسان… أي يُظهر لنا كيف وأين يتجلّى ويتموَّج كلٌّ من أسماء الله الحسنى، أيُّ اسمٍ يتجلّى على الإنسان، وأيُّ اسمٍ على التراب، وماذا وراء مختلف الحوادث الجارية في الكون… نعم، القرآن يكشف كنهَ هذه الأمور ويُبَيِّنُ أن وراءَ كلٍّ من ذلك اسمًا من الأسماء الإلهية.
﴿هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ (سورة الْحَشْرِ: 59/22).
لا يستطيع أن يؤَمِّن لنا المُقام في هذه الدار إلا من يَعرِفنا مِن كِلا الجانبين؛ إذ إنَّ لنا علاقة بعالَمَي الغيب والشهادة، أي بما يُعلَم وما لا يُعلَم، وما يُبصَر وما لا يُبصَر، وما يُشعَر به وما لا يُشعَر.
﴿هُوَ الرَّحْمٰنُ الرَّحِيمُ﴾، فكم هناك مِن الذين يحتاجون إلى الرزق وإلى رعاية الله وعنايته والتغذّي من معينِ نِعَمِهِ، فهؤلاء يتغذَّون من رحمانيَّتِهِ ورحيميَّتِهِ، ونلاحظ رحمانيّةَ الله ورحيميّتَهُ في تَغَذِّي الأجنّة في أرحام أمهاتها، وشقِّ النبات لوجه الأرض الصلب، وسبرِ بعض أنواع الجذورِ بطنَ الأرضِ وضربِها في الأعماق، وأيُّ شيءٍ استمدَّ قوَّتَه من الله فإنه سيشُق كلَّ ما يعترض طريقه شقًّا، ويواصلُ مسيرته مردِّدا: “الله”.. “الله”.. فالقرآن المعجز البيان هو الذي يبين لنا كلَّ هذا.
﴿هُوَ اللهُ الَّذِي لَۤا إِلٰهَ إِلَّا هُوَ اَلْمَلِكُ﴾ أي الذي بيده نظام الكون، ﴿اَلْقُدُّوسُ﴾ أي إن الكونَ تَسُودُه عمليةُ تنظيفٍ شامل؛ فالتحول الكيميائيّ الذي يجري في ملايين الحيوانات الميتة، والغازاتِ في الهواء، وامتصاصُ الأشجار لِما يُخرجه الإنسانُ، واستنشاقُ الإنسانِ لما تُخرجه الأشجارُ، وتدخُّلُ البحارِ في الأمر حينما يختلّ التوازن، وكونُ مياه البحار مالحة، والحفاظُ على نظافة الأرض والسماء… كلُّ ذلك من تجلِّيات اسم الله: “القدوس”، والقرآنُ المعجز البيان يُبَيِّنُ لنا قانونَ النظافةِ السائدَ في الكون بربطِه باسم الله: القدوس.
﴿اَلسَّلَامُ﴾ إننا نشاهد في الكون سلامًا شاملًا وهدوءًا واضحًا، ومع أن الكون في ظاهر أمرِهِ يُخيِّل إلينا ما يخيِّل وكأنَّ هناك صِراعًا وصِدامًا بين الموجودات؛ إلا أن الحقيقة هي أن النباتات تُنْجِدُ الحيواناتِ كما أن الحيوانات تعِين بني الإنسان، وفي هذا الموقع يبدو وكأنّ الإنسان عَقَدَ صلحًا مع جميع الكائنات، فالقرآن يشرح لنا هذا اللغزَ باسم الله الجليل: ﴿اَلسَّلَامُ﴾… فالكون الذي يعتمدُ على هذا الاسم يكون مَحلًّا للسلام.
﴿اَلْمُؤْمِنُ﴾: إن الله تعالى قد أسَّسَ من خلال هذه التعاقدات والمصالحات أمنًا، ومَنَحَه لكلِّ أحدٍ، فكما أنه بالإيمان أَنزل السكينةَ والطمأنينةَ في القلوب المؤمنة؛ فكذلك أَوجد نوعًا من الأمن بين بني الإنسان، فبذلك يَثِقُ الناس بعضُهُمْ بِبَعْضٍ، وفي كلِّ الكون أمنٌ سائد؛ فمِن الـمَـلَـكِ إلى السَّمَكِ، ومن سدرةِ المنتهى إلى أعماق الأرض هناك أمنٌ سائدٌ، ونحن نلاحِظُ أن هذا معتمِدٌ على اسم الله: “المؤمن”. نعم، إننا لا نتعرف على الأسماء التي تكون وراء ما يجري في الكون من الأحداث إلا من خلال القرآن “الترجمان”، ترجمان الأسماء الإلهية والترجمة الأزلية للآيات التكوينية.
ج. القرآن ترجمان للصفات الإلهية
إننا إنما نأخذ المعلومات الكافية حول ذات الله وصفاته وشؤونه من القرآن، فهو يحوي مئاتٍ من الآيات بهذا الصدد، نكتفي بذكرِ بعضِها:
﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ $ اللهُ الصَّمَدُ $ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ $ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ (سورة الإِخْلَاصِ: 112/1-4).
أي قل: إن الله واحدٌ أحدٌ، وكلُّ شيءٍ مدينٌ له في وجودِهِ وبقائِهِ، وكلُّ العوالم محتاجةٌ إليه ولكنّه لا يفتقر إلى أحدٍ، وهو الموجود الوحيد الذي يَلجأ إليه ويَستعين به كلُّ موجود، والنظام بفضله يقوم، والكون على قيُّوميَّتِهِ يستند؛ ولولا قيُّوميَّته لانقلبَ النظامُ رأسًا على عَقِبٍ، والإنسان في كلِّ أحوالِهِ محتاجٌ إليه، وإذا لم تُسَدَّ حاجاتُه من قِبَل الله تعالى فإنه ستخمد ناره، ولن يبقى على وجه الأرض شيء، إن الله تعالى ليس والدًا لأحدٍ، وليس أحدٌ والدا له، ولم يكن له ندّ ولا شريك ولا نظير.
والقرآن ببيانه هذا يعلِّمنا أهمَّ القضايا المتعلقة بالألوهية، ولولاهُ لَتَورَّطنا إما في عقيدة “الروح الكلي” التي تورط فيها الأفلاطونيون، أو انجرفنا إلى عقائد أخرى من أمثال عقائد الإشراقيين، أو اتخذنا اللهَ I -كما فعل النصارى- أبا لأَحدٍ وزوجًا لآخر تعالى اللهُ عن ذلك كله علوًّا كبيرًا، ولَكِننَّا بفضل القرآنِ المعجزِ البيانِ أحرزنا أحكَمَ العقائد وأرصنَها وأصلبَها وأرسخَها حول الذات الإلهيّة Y.
د. القرآن تفسير للشّؤون الإلهية
إنَّ أحسن مَن يُفسِّر الشؤون الذاتيّة الإلهية هو القرآن أيضًا، يقول مثلًا: ﴿قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاۤءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاۤءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَۤاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَۤاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ $ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَۤاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/36-37).
فالقرآن يتحدَّثُ في هاتين الآيتين وفي غيرهما عن مثل هذه التصرفات التي تَعجَز العقولُ عن إدراكها، على أنها شؤونٌ للذات الإلهية، ولا قِبَلَ لنا أن نعرفَها وندركَ كنهَها لولا القرآن.
هـ. القرآن خارطةٌ مقدَّسةٌ لعالم الآخرة
إن القرآن المعجزَ البيانِ كتابٌ فريدٌ لا نظيرَ له في عرض عالم الآخرة على أنظار الناس أيضًا، فالمراحل الأخروية تُعْرَض في القرآن صفحةً صفحةً كلٌّ في مكانها المناسب، بأسلوب جذَّابٍ وآخذٍ بالقلوب والألباب، ولكن لا يتَّسع هذا المقام لِسَرْدِها كلِّها.
فسورة الحاقة مثلًا تتحدَّثُ عن الساعة التي تأتي فيها تلك الداهية فتَقرع الهامات، فتبدأ السورة بـ﴿الْحَۤاقَّةُ $ مَا الْحَۤاقَّةُ﴾ (سورة الْحَآقَّةِ: 69/1-2)؛ فتستهلّ بموسيقى القيامة التي يدوِّي صوتُها في الأسماع، وتأخذُ بِيَدِ الإنسان فتذهب به إلى الوقت الذي تقوم فيه القيامة، ثم تُصوِّر الجبالَ المدكوكة تصويرًا بديعًا تجعلُ الإنسان معه وكأنه يشاهدها بالعيان، ثم يبعث الله بني الإنسان، ويضعُ الميزان، ويزنُ الحسناتِ والسيِّئات، فمن رجحت حسناتُه يَحظَى بحياة سعيدة، ومن رجحت سيِّئاتُه يُلقَى في النار…
والقرآنُ إذ يَعرض هذا المشهد على أنظار الإنسان يرسُمه في صورةٍ يَعجِزُ عن تصويرِها أحذقُ الفنانين… وعندما يقول: ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَة﴾ يَعْرِض لأنظارِ الإنسانِ ما يحاول الإنسانُ أن يخفيه عن الآخرين، فيجعلُه يخجل أمام ما يقترفه من الآثام… وفي الوقت نفسه يدفعه إلى أن يأخذ بالحيطة والحذر حتى لا يتعثَّرَ ولا ينزَلِقَ.
إنَّ مَن أهدرَ عمرَه كلَّه ولم يسجِّل في صحائفِ أعماله شيئًا نافعًا فإنه سيؤتَى كتابَه بِشِمَاله أو من وراءِ ظهرِه وسيقول في ذلك اليوم: ﴿يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ $ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ $ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ $ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ $ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ﴾ (سورة الْحَآقَّةِ: 69/25-29) ولكن شيئًا من أمانيّه لن يتحقَّق، وبالمقابل من سجَّل في كتابه أعمالًا صالحةً فإنه سيؤتى كتابَه بيمينه ويقول: ﴿هَۤاؤُمُ اقْرَؤُا كِتَابِيَهْ $ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ﴾ (سورة الْحَآقَّةِ: 69/19-20)، وهذا أبلغ ما يعبَّر به عن فرحة الإنسان ونعيمِه…
أجل، إن القرآن الكريم يصوِّر مَشاهد الآخرة بحسابها وميزانها، والجنةِ ونعيمها، والنار وعذابها… تصويرًا في غاية الدقّة والروعة لا يفوقه بذلك أيُّ تصويرٍ وتعبيرٍ.
و. القرآن كتابُ شريعةٍ
إن القرآن الكريم كتابُ شريعةٍ من حيث بيانُه للأحكام الدينية، وتوضيحُه بجلاءٍ للحلال والحرام، وتناولُه وتحليلُه لمنظومةِ الحقوق والقوانين المتعلّقة بالأسرة والمجتمع والدولة وبالأفراد الذين هم اللبنة الأساس للأسرة والمجتمع والدولة.
ز. القرآن كتابُ حكمة
لا أحدَ من المفكِّرين والفلاسفة لم يتحدَّث عن حقيقة الوجود ومناسبةِ الموجودات فيما بينها، ولقد تناول الفلاسفة -من أول فيلسوف إلى آخره- هذه القضيّة وعالجوها، ولكن هناك بون شاسع بين تناولهم لهذه الحقيقة وشرحِهم لها، وبين شرح القرآن وبيانِه.
نعم، هناك فرقٌ واضحٌ؛ لأن القرآن كلامُ مَن أَبدعَ الوجودَ وأنشأه، وأنشأ العلاقة بين الأشياء والموجودات… فبينما يتحدَّثُ غيرُه تعالى عن هذه الأمور بالفَرَضِيَّات والنظريّات؛ يبيّنها القرآن بأسلوبٍ قطعيّ، وبينما تنطوي مقولاتُ هؤلاء على تناقضات عدّة تُشوِّش الأذهان؛ نلاحظُ أن القرآنَ مبرَّأٌ من نقاط ضعفٍ من هذا القبيل.
ح. القرآن كتابُ دعاء
عندما نرفع أكفَّ الضراعة إلى مَلِك الملوك فندعوه بتعبيرات القرآن المعجزِ البيانِ نفسِهِ؛ نكونقد رفَعْنا سؤلنا إلى الله بكلماته هو… والرسول كذلك كان يسأل ربه بلسان القرآن، فالقرآن كتابُ دعاءٍ، ولا نظيرَ له في ميدانِ التضرُّعِ إلى الله تعالى.
ط. القرآن كتابٌ مقدسٌ نَزَل من العرش الأعظم
إن للهِ عزَّ وجلَّ عرشًا وهو العرش العظيم: ﴿وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ (سورة التَّوْبِةِ: 9/129)، ولكل شيءٍ عرشٌ أي غايةٌ تنتهي إليه، ولكلٍّ من الصفات عرشٌ يتمثَّل فيه في أعلى مراتِبِهِ، ولكلٍّ من أسماءِ الله وصفاتِهِ عرشٌ أي مرتبةٌ عُليا، فالقرآن نَزَلَ من العرشِ الأعظمِ ومن أعلى وأعظمِ مراتبِ الأسماء الحسنى، فهو أسمى أنواع كلام الله تعالى، نزلَ على أكملِ إنسان، لتبليغه إلى أكمل مجتمعٍ من البَشَرِ.
والقرآنُ من حيث إنه نزل من العرش الأعظم، ومِن أعظمِ مرتبةٍ لكل اسمٍ من الأسماء الإلهية، يجدر بأن يسمَّى “كلام الله” بحقٍّ، وحينما يُطلق “كلام الله” فالذي يتبادر إلى الفهم هو القرآن لا غير.