Reader Mode

إن “الكلامَ” صفةٌ من صفات الحق تعالى، وهو I “المتكلّم الأزلي”.

واللهُ تعالى خلقَ الكائنات بما فيها من بني الإنسان، ثم بيَّن حقيقةَ الكون وشرحَ لنا أنفسَنَا وذواتنا، وبيَّن ماهيّةَ الإنسان تلك التحفة الفنية، ووضّح وحلّ معنى ذلك اللغزِ المحفوفِ بكوامن الأسرار، وهو تعالى يتحدَّثُ عن ذاتِهِ وصِفاتِهِ وأسمائِهِ، لكن لا يُمكننا إدراك كُنْهِ كلامِ الله، حيث إننا عندما نقول “كلام الله” نعني به واحدًا من معنَيَين اثنين:

الكلامُ النفسيُّ، وهو صفة لله قديمة أزليّة مثل سائر صفاته تعالى، وهو معنًى قائم في نفسه تعالى لا نستطيع إدراك كنهه ولا نصلُ إلى فهمِهِ.

الكلام اللفظيّ، وهو النَّظْم المصوغ من الحروف والأصوات، والمُعبَّرُ به عن الكلام النفسي.

نعم، إن صفةَ الله “الكلام” صفةٌ قديمةٌ قائمةٌ بذات الله تعالى، فلم يكن هناك شيءٌ بعدُ، لم يكن الكونُ والعوالم والأشياء والإنسان موجودًا، ولكن الله تعالى كان “متكلِّما” متَّصفًا بصفةِ الكلام.

إن القرآن أزليٌّ، وكان القرآنُ موجودًا حيث لم يكن سوى الله شيءٌ، ولكن بمعنى “الكلام النفسيّ”.

وهذه النقطة دقيقةٌ جدًّا ومن مزالقِ الأقدام، نريد أن نلفت النظر إليها بإيجاز:

حينما يُتلى القرآن أو يُسمع أو يُكتب؛ فإنَّ الكلامَ النفسيَّ يُفْهَمُ من خلالِ الألفاظِ؛ فإذا قلنا: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ مثلًا، فكلمة “إنَّ” تحتوي على الهمزة والنون، والكلمات الأخرى أيضًا تألَّفَتْ من حروف مختلفة، وهي تراكيب لفظيّة، وحينما نكتب هذه الحروف أو ننطق بها؛ يتجلّى لنا كلامُ الله النفسيُّ ويُشعرنا بذاتِهِ بكلّ ثِقَلِهِ.

ولو فرضنا أن التراكيب اللفظيّة والحروفيّة قد يسأمُ الإنسان من إعادَتِها وتكرارها، ولكن الذي ينفذ إلى معانيها القرآنية القدسيّة لن يسأم ولن يعتريه المللُ قطعًا، فالإنسانُ يشعر بهذا المعنى النفسي مجهولِ الكيفيةِ بالنسبة إلينا، لكن ليس له أن يحيط به علما، وأما اللذة الروحانية التي يلمسها القارئ فليس إلى شرحها ووصفها من سبيل؛ فكما أننا لا ندركُ ماهيّة الوحي ومَبْلَغُنا من العلم به هو الوقوفُ منه موقف الحيرة والاندهاش؛ فكذلك القرآنُ إذا تلوتَه واستمَعْتَ إليه على الوجه اللائق فإن هناك وراءَ ظاهِرِ الألفاظ والمعاني معانيَ مستَتِرة يُدْرِكها الإنسان ويشعر بها بحيث لا نستطيع في هذا الباب إلا أن نقول: إن نصيبَنا من “المعرفة” في هذا المقام ليس إلا الاندهاش والانبهار.

وإنا إذا فهمنا الأمر على هذا المنوال، أيقنَّا أنّ ما تقوله المعتزلة من “أن المتكلم يعني مُوجِد الكلام”، وما يجازف به الحشوية من “أن كل ما بين دُفَّتَي المصحف قديمٌ أزليٌّ من الخطِّ إلى الورق الذي يُكتب عليه”؛ ليسَ إلا لغوًا من الكلام.

فالأصوات والحروف والكلمات والجمل مخلوقةٌ باعتبارها أدواتٍ خُلِقَتْ كي نستعملَها نحن البشر. أجل، فالقرآن يحتوي حروفًا وأصواتًا، مهمّتُها أن تُعبِّرَ لنا عن الكلام النفسيّ الذي يفوقُ إدراكَنا بما لا يُقاس، لكنّنا نشعرُ به ونتلقَّاه من ثنايا هذه الحروف والكلمات، وبهذا الاعتبار فإن “كلام الله” ذلك الكلامُ الأزلي ذو الأبعاد الخاصَّة -أو قلْ: ذو شأنٍ يفوقُ كلَّ الأبعاد والكيفيَّات-، ويعبّر عنه كلٌّ مِما بين دفّتي المصحف وما يُتلى على أفواه الناس وما تحتويه صدورُ الحفّاظ.

فهرس الكتاب

About The Author

عالِم ومفكِّر تركي ولد سنة 1938، ومَارَسَ الخطابة والتأليف والوعظ طِيلة مراحل حياته، له أَزْيَدُ من 70 كتابا تُرْجِمَتْ إلى 40 لغة من لغات العالم. وقد تَمَيَّزَ منذ شبابه المبكر بقدرته الفائقة على التأثير في مستمعيه، فدعاهم إلى تعليم الأجيال الجديدة من الناشئين والشباب، وَبَذْلِ كلِّ ما يستطيعون في سبيل ذلك.

Related Posts