الإلحاح والمواظبة على الأمر وسيلة لجلب الرضى الإلهي، وفي الوقت نفسه علامة على إخلاص المبلّغ وسرّ من أسرار قبول ما يبلّغه في وجدان المخاطبين، وهو أوضح أمارة على جدية المسائل التي يتناولها المبلّغ والمنسجمة مع عظمتها. وهذا يعنى: أن الله سبحانه وتعالى يريد من الإنسان أن تستقر كلمة “لا إله إلاّ الله في القلوب، ويولى لها أهمية عظيمة. لذا يوقف المرشد حياته لما هو مهم وجليل عند الله، مواظباً على جعل كلمة التوحيد تستقر في القلوب. فيكون قد قابل بانسجام ما هو عظيم عند الله. نعم إن إلحاح المبلّغ وإصراره يعنى هذا المعنى.
وكذا فإن من علامة التقوى في القلب أن يعظّم المرء ما عظّمه الله سبحانه، والقرآن الكريم يشير إلى هذه الحقيقة: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾(الحج:32). والرسول الكريم يلقّن أصحابه الكرام باستمرار ما يعظمه الله سبحانه وتعالى من كلمة التوحيد. فيقول لهم: من قال: لا إله إلاّ الله دخل الجنّة”.( ) فمثلاً منح الرسول الكريم سيدنا خالد بن الوليد t لقب “سيف الله” وهو بعدُ في بداية الأمر مبارِكاً الفتوحات التي ستفتح بسيفه. ولكن عندما قَتَل خالد بن الوليد بسبب من الأسباب أحدَهم في الحرب وهو يقول “لا إله إلاّ الله” تألم الرسول الكريم مِن عمله هذا ألماً شديداً حتى دعا قائلاً: “اللهم إني أبرأ إليك مما عمله خالد”.( )
ولا أنسى ما قال لي أحدهم يوماً -وهو يعدّ نفسه مجاهداً في سبيل الله-: “أتعلم أن الإسلام إذا حكم في يوم من الأيام سيضرب أوَّلاً أعناق هؤلاء المساكين الذين يملأون المساجد”، فتجمدت في مكاني أمام هذا الكلام الذي لا يفيد إلاّ الضلالة، والحال أن القائل يظن أنه يقول شيئاً لأجل الإسلام.
فالمبلّغ يلح ويصرّ على ما عظّمه الله سبحانه، لأن ذلك يبين مدى إخلاصه وتفانيه في دعوته. نعم إن مَن لا يضحي في سبيل دعوته عمرَه كلّه لا يكون مرشداً حقاً. بل لا يصح إطلاق أسم المرشد عليه. إذ المرشد يبلّغ مئة مرة، فإن لم يستمعوا إليه يبلّغ للمرة الواحدة بعد المئة وهكذا.. فهو يبلّغ ويبلّغ طوال عمره وينتظر الفرصة السانحة لاكتمال الشروط ولحظة قبول المخاطب، دون أن يساوره امتعاض ولا سخط، مقتدياً بالأنبياء عليهم السلام الذين كانت حياتهم كلها إصراراً وإلحاحاً ومثابرة. فقد بلّغوا الحق للناس دون هوادة.
نعم، لقد مضت حياة الرسول الحبيب r ثلاثاً وعشرين سنة بالدعوة والتبليغ، لم يجد فراغاً من الدعوة، بل بلّغ ودعا وبلّغ ودعا دون توقف ولا نصب. والله أعلم كم من المرات دعا أبا جهل إلى الإيمان، ودعا عظماء قريش إلى الضيافة، فكلما حانت له الفرصة بلّغ الإيمان.
وكان الصحب الكرام في هذه الحالة الروحية من المواظبة والإلحاح، حتى غدت صفةً ملازمةً لهم، وكذا العظماء الذين أتوا من بعدهم اتخذوا المثابرة والإصرار شعاراً لهم.
نعم، الإلحاح والمواظبة نتيجة طبيعية لمدى إدراك المبلّغ وظيفته، إذ على المبلّغ أن يدرك أن وظيفته الأساس هي التبليغ، كيلا يكون قليلَ توقيرٍ تجاه الحق سبحانه وهاضِمَ حقٍّ تجاه الخلق. علماً أن إيصال الناس إلى الهداية ليس في طوق أحد قط، ولا هو داخل ضمن وظيفة التبليغ، فهو نائل ثوابه سواء اهتدى المخاطب أم لا. ومن جهة أخرى فإن إلحاحه على التبليغ هذا وتفكيره الدائم به، بمثابة شفرة سرية لمقبولية الحقائق التي يبلّغها، وانتظاره النتيجة من الله وحده سبحانه بلوغ منه إلى الإخلاص، ذلك الإخلاص الذي هو خلاصة العبادات ومنبع الحياة.