Reader Mode

سؤال: يُذْكَرُ أن الصحابةَ الكرام رضي الله عنهم ونساءهم وأبناءهم كانوا يبكون حمزة رضي الله عنه قبل بكائِهم شهداءَهم، فما السبب في ذلك؟

الجواب: أجل، لقد حدث ذلك بالفِعل، ولقد فسّر العلماء حساسية الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة على النحو التالي:

كان سيدنا حمزةُ رضي الله عنه معروفًا بين بني هاشم بالشهامة والمروءة، إلا أنه طلع كالبرق ثم اختفى، ولم يُخَلِّفْ عَقِبًا يحمل اسمَهُ من بعده، وكما عاشَ حياة خاصَّةً ارتحل عن الدنيا بشكل خاص أيضًا، ولم يترك ذريةً من بعده، ورغم ذلك فقد تبوَّأَ مكانةً كبيرةً في قلوبنا جميعًا، حتى إننا نتمنى لو قبِلَ أن نكون قطميرًا على بابه وليس أبناءً له فحسب، وأن نقبِّل أقدامه.

كان دخولُه في الإسلام بداية عهدِ ازدهارٍ للإسلام والمسلمين، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يحبُّه حبًّا جمًّا ويفتخرُ به، لدرجة أن حمزةَ رضي الله عنه شَرِبَ الخمرَ يومًا حتى سكر وكان الخمر لم يُحرّم بعد، فجاءه النبي صلى الله عليه وسلم، ربما ليعاتبه؛ فلما رآه على تلك الحالة وسمع منه هذيانًا من تأثير الخمر نكصَ عليه الصلاة والسلام على عقبيه ولم يعاتبه بعد ذلك، وربما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك خشيةَ أن يتفاقمَ الأمرُ وينحرفَ حمزةُ عن الجادة، أو لِعلم النبي صلى الله عليه وسلم بما سيحقِّقُه حمزة من أعمالٍ عظيمةٍ في المستقبل.

استشهدَ حمزة رضي الله عنه على هيئةٍ تليقُ بماهيته، فبينما كان يصولُ ويجولُ على سفحٍ صعبِ المرتقى مثل أحد؛ نالَ الشهادة في سبيل الله، ولم يتمتَّع أيُّ شهيد أو غاز بهذا القدر من البسالة والشجاعة التي كان يتمتَّع بها حمزة رضوان الله عليه.

يذكرُ بعضُ المؤرِّخين أنَّ حمزةَ قَتَلَ في ذلك اليوم ثلاثةً وثلاثين مشركًا ثم استشهد.. تأمَّلُوا، فلقد كان نصفُ قتلى المشركين تقريبًا من نصيبِ سيفِه، ثم قُطِّعَ جسدُهُ ومُثِّلَ به، فانكبَّتْ أختُهُ صفيَّة بنت عبد المطلب على جثمانه، وأخذت تشهقُ بالبكاء، ومن يدري لعلها كانت تحاول أن تجمع الأشلاءَ التي فارقت جسده المبارك رضي الله تعالى عنه.

أجل، لقد خلَّفَ الحالُ الذي آلَ إليهِ حمزةُ والواقعُ الذي كانت عليه أختُهُ صفيّة أمّ الزبير وعمّة سيدنا رسول الله بالغَ الأثر في سيد الكونين صلى الله عليه وسلم، حتى ذرفت عيناه.

لم يخلُ بيتٌ من بيوت المسلمين من قتيلٍ أو مصاب، فلقد استشهدَ من المسلمين حوالي تسعة وستين صحابيًّا، ولما عاد النبي صلى الله عليه وسلم كان الناسُ يبكون أقرباءَهم، وينوحون ويندبون مصابيهم وقتلاهم كلًّا في مقرِّ دارِه، غير أن شهيدًا ما قَدْ نُسِيَ فلا بواكيَ له، إنه سيد الشهداء، ومع ذلك فلا أحد يبكيه، عند ذلك انسابت من شفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم كلماتٌ كأنها أنّاتُ قلبٍ منكسِرٍ على النحو التالي: “لَكِنَّ حَمْزَةَ لَا بَوَاكِيَ لَهُ”[1]، فصعق سيدنا سعد بن عبادة رضي الله عنه عند سماعه ذلك، وجمعَ على جناحِ السرعةِ نساءَ الأنصار، واصطحبهنَّ إلى بيت حمزة رضي الله عنه، وقال لهن: “والله لا تبكين قتلى الأنصار حتى تبكين عمَّ النبي فإنه قد ذُكر أنه لا بواكيَ له بالمدينة”، ثم اتَّخَذَ هذا الأمر صورة العادة، حتى أبطَلَه النبيُّ صلى الله عليه وسلَّم بعد مدَّة، ورغم ذلك فلو ظلَّ المسلمون يبكونَ حمزةَ رضي الله عنه قبلَ موتاهم حتى يوم القيامة لكان ذلك قليلًا على أسدِ الله رضي الله عنه.

فضلًا عن ذلك فإن حُبَّنا لِحمزةَ رضي الله عنه ليسَ لِشَخْصِهِ، بل لِحُبِّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لهُ، وحبِّ الله له، زدْ على ذلك أنه ملقَّبٌ في السماء بأسدِ الله؛ فانطلاقًا من كلِّ ذلك نحنُ نُحِـبُّـهُ.

وهناك ميزةٌ يتَّسِمُ بها حمزةُ رضي الله عنه لقرابَتِهِ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، خارج عن أفقِ تصوُّراتنا، ويتعذَّرُ على نظرنا بلوغُ هذا المستوى.

وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سلوكٌ آخر مع سيدنا جعفرِ بن أبي طالب رضي الله عنه، إذ إنّه كان يشبِهُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في خَلقه وخُلُقِهِ، ولما استشهدَ ذهب النبيُّ صلى الله عليه وسلّم إلى بيته واحتضن أولاده جميعًا، وغسلهم بدموعه، وفي هذا معنى آخر يتعذر علينا فهمه بسبب قرابتِهِ رضي الله عنه منه صلى الله عليه وسلم.

ربما كانت تلك الحساسية التي أبداها النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة تتوافقُ مع المقاصِدِ الإلهيّة.

ولقد استشهد كثيرٌ من الصحابة في أحد إلى جانبِ حمزة، إلا أنَّ حمزةَ ذو خصوصيّة دقيقة عند أهل الكشف والحقيقة، وذلك أن من وقعَ في ورطةٍ واستنجدَ بحمزة رضي الله عنه سرعان ما يأتيه حمزةُ رضي الله عنه بفرسِه وسيفِه وأدركه، فهذه ميزةٌ خاصَّةٌ به رضي الله عنه.

قد يأتي من بعدهم رجال يجادلون ويكافحون في مثل هذه الظروف الصعبة، وربما يلقون حتفهم باستقبالهم الرصاص في صدورهم وتحوُّلِهم إلى أشلاء، إلا أنه من غير الممكن مقارنة أحد مع هؤلاء الذين كافحوا وحاربوا في بداية الأمر وفي عهد التأسيس وفي ظلِّ الظروف الصعبة، وعاشوا في المناخ المنير لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.وقد نرى الآنَ مَن يُحاولونَ أن يُرجِعوا أسباب هذه الرعاية إلى العلاقة الناشئةِ عن النسب، غير أن هذا الرأي واهٍ لا يُلتفت إليه.

[1] سنن ابن ماجه، الجنائز، 53؛ مسند الإمام أحمد، 9/38.

فهرس الكتاب