Reader Mode

لقد ركزنا منذ البداية وإلى الآن على أن القرآن هو كلام الله من كل الوجوه، وأنه يستحيل على البشر أن يأتوا بمثله.. وكان هدفنا من لفت الأنظار إلى أسلوبه في إرشاد الناس من مختلف المستويات والثقافات والعقائد، هو أن نبين مرة أخرى ونَعْرِضَ للأنظار مدى تفرده من بين سائر أنواع الكلام، فإن الإنسان إذا تمعّن في القرآن بتدبر عميق فسيقول في نهاية المطاف: “ليس هذا إلا كلام الله”، وقد رأينا هذا الجانبَ من خلال الأمثلة التي أوردناها إلى الآن، وليس لنا أن ندَّعي أننا بيَّنَّا في هذا المقام ما يتمتع به القرآن من تلك الجاذبية الخاصة به، وإنما غاية ما في الباب أنني أردت أن أنقل للآخرين ما شعر به قلبي وروحي من المعاني التي استلهمتها من القرآن ذاته.
إن فهم القرآن والإحاطة بأسلوبه الفريد يتطلب معرفة جادة به، ونحن بدورنا لم نرجع في عملنا هذا إلى أي مصدر آخر غير الكتاب والسنة الصحيحة حتى لا يتكدَّر صفوُ أذهاننا بسائر الآراء والأفكار وبذلك حاولنا تقديم الحقائق التي تكوّنت من التقاء هذين المصدرين.
أجل، إن القرآن الكريم يتولى أمر إبراز جاذبيته بنفسه، ويكفي في ذلك أن تتسامى الأرواح وترتقي نحوه، ولا تتوجه إلا إليه، والقرآن يشرح قضيته ويعبر عنها بأسلوب لا يفوقه أي بيان وتعبير، وحينما يكشف عن الحالة النفسية للناس يجعل السامع يشعر وكأن القرآن يجري في دمه وعروقه.
والآن كمثال على هذه الأمور التي تَحدَّثنا عنها؛ تعالوا بنا نتابع الحالة الروحية والمشاعر الداخلية لعبد اقترف الخطيئة، من خلال قوله تعالى: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا﴾ (سورة النِّسَاءِ: 4/31).
وعليَّ أن أعترف أنه لا يمكنني أن أعكس حقيقة جمال الآية من خلال مثل هذا التفسير المتواضع.
أجل، إن التفسير مهما كان دقيقًا فمن المحقَّق أن هناك حقائق عديدة يتم التعبير عنها في الآية عبر مختلف أوجه الدلالات إلا أن التفسير يعجز عن نقلها إلى لغة أخرى، فأنَّى للتفسير أن يعبر عما في البيان الإلهي من الإشارات أو التلميحات إلى بسمة أو طرفة عين أو قسمات وجه، فكم في تلك التعبيرات الغنية من الإشارات أو الرموز أو مستتبعات التراكيب التي يستحيل إبرازها من خلال التفسير، فتدبّروا في قول الله تعالى: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا﴾ (سورة النِّسَاءِ: 4/31).
فتخيلوا أن هناك إنسانًا تلطخت يداه بالدماء، واحمرت عيناه بالدماء، ويسطو على ما حوله يمنة ويسرة، حتى بلغت به هذه الحالة الجنونية إلى أن يدمر ويحرق ما حوله، فهذا الإنسان إلى جانب مقارفته المعاصي هو لا يحترم القوانين الكونية ويشاكس من حوله بمنتهى الفظاظة.. وهذا ما نفهمه من تعبير “كبائر”.
فكل المعاصي الكبيرة التي تتبادر إلى الذهن تدخل في نطاق كلمة “الكبائر”، فهذا الإنسان إلى جانب ارتكابه للمعاصي والكبائر والمنكرات فإنه ينشرها -في الوقت ذاته- إلى ما حوله، ويشجع عليها ويقوم بالدعاية لها، والأدهى والأمر أنه يقوم بتأسيس مدرسة للمعاصي والعصاة.. فتخيلوا مجرمًا بهذا المستوى يسيلُ لعابه وهو يهجم على من حوله، فإذا بالقرآن يهمس في أذنيه وهو على هذه الحالة: “إن تجتنب هذه الأعمال التي ترتكبها…”، فيبثّ روح الأمل فيه قائلًا: “إن تأخذ موقفًا صارمًا تجاه الكبائر، وتغمضْ عينيك عن المعاصي فور رؤيتك لها، وتتوَخَّ الحذر بيديك ورجليك وعينيك وأذنيك تجاه الخطايا، فإننا سنجعل ذلك كفارة لما اقترفته من المعاصي”.
فنلاحظ أن المطلوب من المجرم شيءٌ قليل، وهو أن يتخذ موقفًا تجاه الشرور التي تترصد حياته القلبية والروحية لتهلكه.. أجل، إن المطلوب منه هنا هو التخلي -فقط- عما يرتكبه من المعاصي، ليكون موقفه هذا كفارة لجرائمه، وإن لم يبدأ بعدُ في الأعمال الصالحة، وأظن أن كل من أصغى إلى صوت ضميره فسيعتبر مثل هذا النداء من الله بشارة للخلاص؛ فإنه لم يُطلب منه بعدُ الشيءُ الكثير من الخير والحسنات، بل قيل له فقط: “إذا صادفتَ السيئات فدعها وشمر عن ساعديك متجهًا نحو الشاطئ الآخَر من دون أن تتلوّث بالمستنقع”، فإذا وصل إلى الشاطئ الآخَر نظيفًا فإنه سيفوز بالوجود والخلاص الأبديَّين.
﴿وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا﴾ تقول الآية الكريمة: إن تقوموا بهذا العمل على هذه الشاكلة فإننا سنسمو بكم من أسفل طبقات الإنسانية إلى أعلى عليين منها، وسندخلكم -بصفتكم أناسًا ذوي أصل كريم- الجنةَ التي هي دار الأعزّاء.
فمثل هذه التعبيرات تُهدّئ روح كل مجرم تقريبًا وتوارب له باب الأمل، فإن الواقع هنا هو التغير العمودي الذي يُشْبه الارتفاعَ بسرعة الصاروخ من قعر بئر إلى رأس المَنارة، بالإضافة إلى أن هذا الإنسان لا يتحمل من عناء هذا السفر الغالي سوى إغماض العين تجاه الحرام.
فالآن تصوَّروا -من جانبٍ- قُبْحَ الكبائر التي تجعل المذنب يشعر وكأنه وصمة عار في الحياة.. ومن الجانب الآخر، تصوّروا حجم اللذة الروحانية والحماس المنبعثين في روحه بسبب البيان الرباني الكفيل بخلاصه من مستنقع المعاصي الذي يتخبّط فيه، ومِن بعد ذلك حاوِلوا أن تفهموا كيف يُهيّج القرآنُ المعجزُ البيان مشاعرَ الناس وأحاسيسهم وحماسَهم وأشواقهم، وكيف يصبح منبعًا فياضًا لِبعث الأمل في الأرواح التي فَقدت آمالها، افعلوا ذلك حتى تفهموا أنه معدن الإرشاد الذي ينشر أنفاس الحياة.
ولنتصور في أذهاننا نوعًا من المجرمين، ولننظر إلى المشهد الذي يُعرض فيه أولئك الذين هاجموا المؤمنين، وساموهم سوء العذاب بسبب دينهم وإيمانهم، ولم يتبعوا الرسل والرسالات ولم يستسلموا للحق والحقيقة، ولننظر إلى الآيات وهي ترسم صورة الذين اتخذوا العصيان شعارًا لهم من خلال ارتكاب شتى ألوان المساوئ، أولئك الذين دأبوا على تعذيب المؤمنين وممارسة الظلم عليهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾ (سورة البُرُوجِ: 85/10).
فهذه الآية الكريمة تَعرض للأنظار -بشكل وجيز- كلَّ أولئك الغوغائيين من الكَفَرة الفَجَرة الذين تسلّطوا على المؤمنين والمؤمنات دون تمييز لأحد، وهددوا حياتهم الدنيوية والأخروية بلا هوادة، ولكن علينا أن ننظر إلى الموضوع من زاوية قوله تعالى في سياق الآية ﴿ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا﴾؛ فإنهم حينما ينظرون إلى الموضوع من زاوية ﴿فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾ فإنهم سيظنون أنه ليس لهم مَخرج وباب للأمل، ولكن قوله:
﴿ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا﴾ يَعِدُهم ضمنًا بمفاجآت، فحينما يسمع المجرم هذا الكلام يشعرُ وكأنه على جسر يوصله إلى شاطئ السلامة وبر الأمان.
أجل، إن الذين يدأبون على إجرامهم، ولا يتخلون أبدًا عن المعاصي، والذين لا يستطيعون التخلي عن ارتكاب المحظورات، يستحقون عذاب النار يوم القيامة، ولكنهم إذا أرادوا فهناك دائمًا باب مفتوح يستطيعون الخروج من خلاله من سجن المعاصي الذي وقعوا فيه.. إنه باب التوبة، وباب التوبة مفتوح دائمًا أمام كل أحد.
فلنتصور مدى تألم الروح المجرمة تجاه تهديدات هذه الآية، وشدةَ تلك العواصف التي تثور بداخله جراء سماعه الحديثَ عن “العذاب الإلهي”، ثم لنتخيلْ كيف يفتح قولُه تعالى: ﴿ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا﴾ له باب الأمل، فيكون كيوم ولدته أمه إذا تخلى عن قبائحه، فحينذاك نغدو وكأننا نرى رأيَ العين كيف تُرَبِّتُ الآيةُ على قلوبهم وعواطفهم.. وهذا يعني أن القرآن الكريم حتى حينما يتناول المجرمين لا يحيلهم إلى اليأس والقنوط قطعًا، ولا يصدمهم بمعالجة القضية من جانب المعاصي فقط، وحينما يُصدر الحكم يوارب لهم باب الأمل والرجاء، وبهذا يعطي الفرصة لأمثال هؤلاء حتى يتخلوا عن المعاصي ويتوبوا.

المصدر: فتح الله كولن، القرآن الكريم البيان الخالد لسان الغيب في عالم الشهادة، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.

About The Author

عالِم ومفكِّر تركي ولد سنة 1938، ومَارَسَ الخطابة والتأليف والوعظ طِيلة مراحل حياته، له أَزْيَدُ من 70 كتابا تُرْجِمَتْ إلى 40 لغة من لغات العالم. وقد تَمَيَّزَ منذ شبابه المبكر بقدرته الفائقة على التأثير في مستمعيه، فدعاهم إلى تعليم الأجيال الجديدة من الناشئين والشباب، وَبَذْلِ كلِّ ما يستطيعون في سبيل ذلك.

Related Posts