سؤال: كيف نرسّخ مفهوم الأخوة بيننا؟ وما رأيكم في وضعنا الحالي؟
الجواب: قبل الدخول في هذا الموضوع أودّ أن أنبّه إلى المسألةِ التاليةِ:
لا بدّ من مراعاة الدقة البالغة عند إسناد أعمالنا الصالحة بل وكل أمر اختياري أو إرادي نقوم به لله تعالى، وعلى الإنسان أن يُقنِعَ نفسَه رغمًا عنها بهذه المسألة، بل لا بدّ وأن يكون حذرًا في المواضع التي تبدو وكأنها مترتبة على أفعاله في الظاهر، وينبغي للإنسان كذلك أن ينأى بنفسه عن تخصيص شيء لها، قائلًا: كلا، كل هذه الأشياء ملك له سبحانه وتعالى، فلا تحاولي يا نفس أن تنسبي شيئًا لك، وعلى الإنسان المؤمن أن يتجنب كافة أنواع الشرك، بل لا بد وأن يكون غيورًا إزاء هذا الأمر؛ فإن الله عز وجل يغار أن يشرك به، فلا قدر ولا قيمة لأي عمل عنده لو اُبتُغي به غيره، ومن ثم لا بد أن تتسم خدماتنا -أيًّا كان اسمها وحيثما وقعت- بالإخلاص، وأن يُنشد فيها رضا الله تعالى حتى تحظى بقدرها عند الله سبحانه وتعالى.
أما المسألة الثانية التي لا بد من الالتفات إليها فهي المحافظة الدائمة على المعنى الذي يُشيرُ إليه السؤال، وتحويله إلى واقع عمليّ.
إن الأخوة بمستوى تفاني البعض في البعض هي من أكبر العوامل التي تؤثّر في الآخرين، فالافتخار بمزايا الآخرين وفضائلهم وتقبل الفرد لها وكأنها مزاياه وفضائله هو من أهم الأسباب التي تفضي إلى ترابط أفراد الأمة بعضهم ببعض، وإثارة روح الإقدام في نفوسهم، وإشعال قابلياتهم وإِلـهابِ استعداداتهم حتى تصير جمرات متعددة، كما تكون وسيلة لنزول الرحمة الإلهية كالغيث زخًّا زخًّا، فلو تكاتفَ المجتمع كالجسدِ الواحدِ، واتّحد على أساسٍ من الوفاق والاتفاق لحظيَتْ روحُه وقلبه بالعون والنصرة والتوجيه الدائم من الله إلى كلّ ما هو إيجابيّ وجميلٌ ومستقيمٌ، ولذا يكاد ينعدم الخطأُ في شخصِهِ المعنويّ.
وقد تُبدَّلُ الأخطاء التي يرتكبها أفراد ذلك المجتمع إلى حسنات نتيجةَ صدقِ وإخلاص نواياهم، لكن من المتعذر أن يتحقّق ما قلناه عند من تشتَّتَتْ قلوبُهم وإن كانوا على المنهج نفسه، وعلاوة على ذلك فإن الانحراف في المنهج وما يتبعه من اختلافات يؤدّي إلى الدخول ضمن الدائرة الفاسدة التي يصعب الخروج منها مطلقًا، وعندما يدخل الإنسان إلى مثل هذه الدائرة الفاسدة يُصبح مثل ذلك الذي يهرول مُولّيًا ظهره لهدفه، فيبتعد مع كل خطوة يخطوها عن هدفه وغايته الأساسية.
بيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة هم من حملوا هذه الأمانة على عواتقهم في فترة ما، يعني أننا لو تناولنا المسألة وفقًا لقانون “السبب والنتيجة” لرأينا أنه من الضروري لهؤلاء الذي سيحملون هذه الأمانة على عواتقهم من جديد أن يتحلّوا بنفس الشعور والسمات التي كان عليها الصحابة، ربما لا يمكن أن نجاريهم تمامًا من ناحية الكيفية، ولكن علينا ألا ننسى أنه بقدرِ تشبُّهنا بهم بقدرِ ما يُمكننا القيام بما كانوا يقومون به.
وهذا الوضع ينطبق كذلك على مفهوم الأخوة، فعلينا أن نعرف كيف وبأيّ شكلٍ حقّق هؤلاء مفهوم الأخوة فيما بينهم حتى بلغوا بذلك أعلى المراتب، وعند ذلك لن تتغيّر هذه القاعدة والنتيجة بالنسبة لنا.
منذ نعومةِ أظفاري وأنا أقرأ عن حياة الصحابة رضوان الله عليهم، وبعد فترة معيّنة أخذتُ أُحدّث الناس عنهم، وكنت أقِف أحيانًا مشدوهًا مذهولًا أمام لوحات الأخوة التي يمثلها هؤلاء، معتقدًا وكأن تلك الصفات خاصة بهم دون غيرهم، أو هي نوع من الطوبيا التي لا سبيل إلى تحقيقها على أرض الواقع حاليًّا، وبعد ذلك شاهدت عند البعض أمثلةً حيّةً لهذا المعنى فاقتنعت تمامًا بأن مثل هذه الأفكار والصفات يمكن معايشتها في الوقت الحالي، حتى إن أمثلة التفاني التي كانوا يتعاملون بها هؤلاء الناس مع بعضهم أثرت في الآخرين كثيرًا؛ لدرجة أنني سمعت بنفسي شخصًا يقول بنبرةٍ مفعَمَةٍ بالحيرة والإعجاب بعد أن أتاهم ولمس بإعجاب هذه الأخوة فيهم: يا الله، ما هذه الأخوة! ما زال هذا القول وما اكتنفه من نبرة لذيذة يحافظ على حيويته في ذاكرتي، ولا جرم أنه أسعدني سعادة بالغة، نحن نقر ونعترف بهذا الخلق الرفيع الذي شاهدناه بين المسلمين، لكننا نرى أن هذا ليس كافيًا، بل ينبغي لنا ألا نشبع من مثل هذه الأخلاق؛ لأن شعور الأخوة قد يكون كافيًا اليوم، ولكن قد لا يكون غدًا بالقدر الذي تحتاج إليه أمتنا لاجتياز العوائق والعقبات التي يحتمل أن تكون حجر عثرة في سبيل تقدمها وعظمتها.
وإذا ما تناولنا المسألة على نطاق أوسع وأجرينا تقويمًا يشمل العديد من الناس الذين وقعوا في رق النظم والأيديولوجيات بالمعنى الحديث لأدركنا جيدًا كيف كان فكُّ الرقبة عقبةً حقًّا.
أجل، لقد كان فكُّ الرقبة عقبة، وكذلك إيثار المرء أخاه على نفسه رغم ما يعيشه من ضيقِ وضغوطِ العيش هو عقبة أخرى.
وتقديم الآخرين على نفسه في الفيوضات المعنويّة فضلًا عن المادية، واعتبار ذلك وظيفة ملقاة على عاتقه لهو عقبة أخرى على الإنسان أن يقتحمها، وتجاوز هذه العقبة منعقدٌ على التمثل بالصحابة رضوان الله عليهم أيضًا، الذي أبهر أحدُهم وأذهل ملائكةَ السماء بحسن صنيعه مع ضيفه، عندما أطفأَ المصباحَ وأظلمَ الغرفة حتى لا يرى الضيفُ ما يفعله، وكان يذهب بملعقته ويأتي بها فارغة حتى يشبع الضيف، فرسم بذلك صورة نورانيّةً على الإنسان أن يتمثلها[1].
مثال آخر: لما ارْتَثَّ يوم اليرموك الحارث بن هشام وعكرمة بن أبي جهل وعياش بن أبي ربيعة y، فدعا الحارث بماء يشربه، فنظر إليه عكرمة، فقال الحارث: ادفعوه إلى عكرمة، فنظر إليه عياش بن أبي ربيعة فقال عكرمة: ادفعوه إلى عياش، فما وصل إلى عياش ولا إلى أحد منهم حتى ماتوا وما ذاق الماء أحدٌ منهم رضي الله عنهم[2].
هؤلاء هم الصحابة الذين نزل فيهم قول الله تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ (سُورَةُ الْحَشْرِ: 59/9).
وإطعام اليتيم عقبة أخرى، ولو أطلقنا العنان لأساليب المجاز لظهر أمامنا كثير من معاني اليتم، فالذين حُرموا الثقافة الإسلامية ووقعوا فريسةً للآخرين بسبب الحاجة الناجمة عن الحرمان يعدّون من صنف اليتامى أيضًا، وهؤلاء علينا أن نأخذ بأيديهم وندرس السبل التي توصلهم إلى أوج الكمالات، وأن نلَقِّنَهم ما يحتاجونه للوصول إلى هذه الغاية، وهذه عقبةٌ أخرى مختلفة تمامًا.
أما النقطة التي أنشدها من وراء هذا الموضوع الذي تطرقْتُ إليه مُطْنِبًا حتى أنبِّهَ على العقبة المحتمل أن تكون حجرَ عثرةٍ أمامنا فهي: يبدو شعور الأخوة كافيًا لنا حاليًا، إلّا أننا في حاجة إلى ازديادِ هذا الشعور الدوام حتى نحتضن المستقبل على سعته، وتتمكَّنَ أُمَّتُنا من السير بأمان إلى مستقبلها المشرِقِ.
ولذا لا بد من علوّ الهمّة إزاء ذلك، وأن نقول باستمرار: “هل من مزيد؟”.
[1] انظر: صحيح مسلم، الأشربة، 32.
[2] ابن كثير: التفسير، سورة الحشر: 59/8؛ الأصبهاني: الترغيب والترهيب، 2/266.