وُجِد المسجد الأقصى على الأرض في الشريط الزمني نفسه تقريبًا للكعبة، وارتفع ــ مثله مثل الكعبة ــ بأمر من السماء وكأنه انبثق انبثاقًا من باطن الأرض، وأصبح محراب الأولياء أحيانًا، ومنبرهم أحيانًا أخرى. فتح جناحيه فوق كل من دخل حرمه طوال العصور مرددًا على الدوام وحتى في أظلم العهود وأحلكها: “لا ظل إلا ظله هو”، وأصبح مكانًا مباركًا ورمزًا للأمن وكأنه “جنة المأوى” على الأرض.
هذا المعبد العظيم الذي يحمل ألف ذكرى وذكرى، وألف خيال وخيال يقف الآن وقد نكس رأسه إلى الأرض، وأحاطت به الظلمات من كل الأطراف، وقد نال منه الرهق والنصب وهو يتطلع إلينا وعلى وجهه مسحة من الحزن. كلما رأيناه بهذه الحال نحس كأن مآقينا تمتلئ بدل الدموع دمًا، وكأن أنفاسنا تتقطع. وبينما كان بالأمس محرابًا مقدسًا ينفح في نفوسنا نفحات ربانية، ومنبرًا مبجلًا، نراه الآن وقد قلع من جذوره وتكسرت أجنحته، وأُطفئت أنواره التي كانت تُشع على العالم، وتحول في يد بعضهم إلى شمعة تكاد تنطفئ، وإلى هيكل عظمي يكاد يقع وينكفئ على وجهه.
إذا قُدِّر لنا أن ننهض وأن نرجع إلى أنفسنا، وتستيقظ أرواحنا فلا توجد لوحة أكثر تنبيهًا وإيقاظًا وإيلامًا وإثارة لنا من المنظر الحالي للمسجد الأقصى.
عندما نشاهد صورة هذا المعبد الحزين الذي أُبعد عن أشقائه في لوحات الصور أو في شاشات التلفاز، يرجع بنا الخيال إلى أيامه المجيدة، فنكاد نسمع أصوات حلقات الذكر فيه. وبينما تستعد نفوسنا للدخول إلى عالمه الطاهر، إذا بنا نتذكر فجأة حاله الحاضر من الأسر المرير، فنحس كأن نصلًا حادًّا ينغرس في أرواحنا، أو كأن يدًا قطعت وسلخت منا رئتنا. وهو بوضعه هذا يبدو كضحية مظلومة قُطّعت أوصالها إربًا إربًا. يبدو كإنسان حزين قد حصر بين جحود الأصدقاء وبين غدر الأعداء وظلمهم. كأنه عندما مُزّق أشلاء ورُميت أِشلاؤه يمينًا ويسارًا صرخ بأعلى صوته، ولكن لم يسمعه ولم يهبّ لنجدته أحد.
إن ضياع المسجد الأقصى من أيدينا يؤلمني. ورؤيته أسيرًا بيد آخرين يُذيب القلب من الكمد. وفي الحقيقة فإنني عندما أراه كلؤلؤة تحطمت محفظتها وعلبتها أحس بمشاعر المرارة والألم تتصاعد من روحي وتهزه من أساسه وتقلبه رأسًا على عقب. إنه بوضعه الحالي غريب سواء أسكبنا الدموع حوله أو صلينا في حرمه. وهو يعيش أكثر أنواع الأسر قسوة وألمًا .. وإذا قُدِّر لنا أن ننهض وأن نرجع إلى أنفسنا، وتستيقظ أرواحنا فلا توجد لوحة أكثر تنبيهًا وإيقاظًا وإيلامًا وإثارة لنا من المنظر الحالي للمسجد الأقصى.
المصدر: من كتاب “ترانيم روح وأشجان قلب”